عناصر الخطبة :
أولاً - التقليدُ
والمحاكاةُ من خصائص النفس البشرية :
ثانياً - رسول الله
هو القدوة والمثل :
ثالثاً - رسول الله
يدعونا إلى مكارم الأخلاق :
رابعاً - شذرات
من حياة النبي :
1- رسول الله وعبادته
لربه : 2- رسول الله ودعوته إلى ربه :
3- رسول الله في
بيته : 4- رسول الله مع أصحابه :
5- رسول الله ورحمته
بالصغار : 6- رسول الله ورفقه بأمته :
7- رسول الله والصبر
على الشدائد : 8- رسول الله مع غير المسلمين :
9- رسول الله والرفق
بالحيوان :
الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
الحمد لله العلي
الأعلى؛ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ووفق العباد للهدى، فمنهم من ضلَّ ومنهم من اهتدى،
نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، فالخير منه والشر ليس إليه . وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ما أَحَدٌ أَصْبَرُ على أَذًى سَمِعَهُ منه يَدَّعُونَ
له الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ، آمنا به، وعليه توكلنا، وإليه أنبنا
وإليه المصير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أوذي فصبر، وظفر فشكر، أقام الحجة، وأوضح
المحجة، وأرسى دعائم الملة، فمن تبع سنته رشد، ومن حاد عنها زاغ وهلك .
أغــــــرٌ عليــــــه
للنبـــوة خاتمٌ من الله مشهـــــــود يلوح ويشهــــــد
وضم الإله اسم النبى
إلى اسمه إذا قال فى الخمــــــس المؤذنُ أشهد
وشــــق لــــه
من اسمــه ليجلَّه فــــــــذو العرش محمود وهذا محمد
نبـــي أتانا بعــــد
يــأس وفترة من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجاً مستنيراً
وهادياً يـــــــلوح كما لاح الصقيـــــل المـهند
وأنذرنا ناراً ،
وبشـــر جنــــة وعلمنــــــا الإســـــــلام فالله نــــحمد
وأنت إله الخلق
ربي وخـــالقي بذلك ما عمــــــرت في الناس أشـــهد
صلى الله وسلم وبارك
عليه وعلى آله وأصحابه؛ لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يشنؤهم إلا منافق، أئمة هدى وفضل، ودعاة
خير ورشد، ترضَّى عنهم ربهم سبحانه في قرآن يتلى إلى آخر الزمان، على رغم أنوف أهل
البدعة والنفاق، وارض اللهم على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
:
التقليدُ والمحاكاة
من خصائص النفس البشرية : أولاً -
من خصائص النفس
البشرية التقليد والمحاكاة ، وهذا لصالحها ، لأن الإنسان ربما لا يفكر ، أو ربما لا
يستوعب ، أو ربما رأى إنساناً على وضع يعجبه ، يحب أن يقلِّده ، ففي أصل تركيب الإنسان
رغبة في التقليد والمحاكاة .
ولذلك جعل الله
هذه الخصيصة لصالح الإنسان ، من أجل أن يستفيد من تفوق الآخرين ، فإذا قلَّدهم كان
له في هذا التقليد تقدم عند الله عز وجل .
ولذا قال علماء
النفس : في حياة كل منا ثلاث شخصيات عامة : شخصية نكونُها ’’وهي نحن ’’ ، وشخصية نتمنى
أن نكونها ، وشخصية نكره أن نكونها
وإن ما يثبته الواقع
وتدركه العقول، أن القدوةَ من أهم وأمثل الطرق في ترسيخ المبادئ والأخلاق وتربية الأجيال،
وأن تأثيرَها أعظمُ من تأثير الخطب والمقالات والكتابات .
فالقدوة الحسنة
هي الركيزة الأساسية في المجتمع، وهي ضرورة لا بد منها في الحياة، لأنها تُجَسِّم المُثل
العليا ، ليحتذي بها الإنسان ويكتسب منها المعالم الإيجابية، والقيم السامية، والأخلاق
العالية، لتكون حياتُه كريمة طيبة فاضلة راقية، سواء مع الله تعالى في أداء العبادات
والفرائض، أو مع النفس وتزكيتها وتدريبها على الأخلاق الفاضلة ، أو مع الأهل والأولاد
من أجل بناء أسرة متماسكة، أو مع المجتمع من حوله في أمور الدين والدنيا .
ثانياً - رسول الله
هو القدوة والمثل :
من أجل ذلك، جعل
الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم قدوةً ونموذجاً يُجسد الدين الذي أُرسل به، حتى
يعيش الناس مع هذا الدين واقعا حقيقيا بعيداً عن الأفكار المجردة ، فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم خيرَ قدوة للأمة في تطبيق هذا الدين، فجمع بين القول والعمل، وربط
النظرية بالتطبيق، وقدم المعاني حقائق حية، فاهتُدي بعمله قبل قوله، وبفعله قبل علمه،
وكان أمام أصحابه تجسيداً حياً لدعوته ، ومَثلاً صريحاً لمبادئه .
يقول الله تعالى
: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ ، الأحزاب:21 .
وقال ابن حزم :
"من أراد خير الآخرة ، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسنِ الأخلاق
كلها، واستحقاقَ الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وليستعمل
أخلاقه وسيره صلى الله عليه وسلم ما أمكنه ’’.
فرسول الله صلى
الله عليه وسلم، لم يترك أمراً من أمور الحياة كبيرا كان أم صغيراً، إلا وبين لنا أصول
التعامل الصحيح معه، لكي يستقيم سيرنا على الصراط المستقيم، ولا تحيد عنه أقدامنا فتزلّ
ونهلك .
ففي الحديث الصحيح،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد تركتكم على البيضاءِ ليلُها كنهارِها، لا
يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ، ومن يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتُم
من سنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذِ )
فهذا النبي القدوة،
والرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم امتلأت حياته بأسباب الخير التي يتطلع إليها ويحرص
عليها العاقلون، ويسعى في تحصيلها المفلحون، فما من لحظة من لحظاته، ولا كلمة من كلماته،
ولا حركةٍ من حركاته، ولا سكنةٍ من سكناته، إلا وهي تعليمٌ وتربيةٌ وتوجيه .
قال تعالى: ﴿ قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ
اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ، يوسف: 108
ولقد وصفت أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها خُلقه صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"،
فانبثقت سائر أعماله وأقواله وحركاته عليه الصلاة والسلام من هذا الخلق العظيم الذي
أشار إليه ربنا في القرآن الكريم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ ، القلم:4
لقد أدبه ربه فأحسن
تأديبه فتخلق بأخلاق القرآن، وحاز صلى الله عليه وسلم أفضل الخلال، واتصف بأحسن الأوصاف،
وبلغ الغاية في الكمال البشري؛ فسبق بأخلاقه من كانوا قبله، ولم يبلغه أحد ممن جاء
بعده؛ حتى كُتبت الكتب الطوال في وصف أخلاقه وسجاياه ، كتبها عرب وعجم، ومسلمون وكفار
، من المؤرخين والمستشرقين وغيرهم ، بُهروا بما رأوا من جميل خلاله وصفاته، وشهد له
بذلك إبَّان بعثته أعداؤه قبل أتباعه، منهم النضر بن الحارث -وهو من ألد أعداء الدعوة-
فقام في قريش في أول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش، إنه والله
قد نزل بكم أمرٌ ما أشلتم له نَبْلَه بعد، لقد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثاً أرضاكم
فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم
به قلتم ساحر! ولا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن!
ولا والله ما هو بكاهن، وقد رأينا الكهنه وحالهم وسمعنا سجعهم، وقلتم شاعر! ولا والله
ما هو بشاعر، ولقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها... وقلتم مجنون! ولا والله ما هو
مجنون، ولقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش، انظروا
في شأنكم؛ فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.أهـ .
وهذا هِرَقْل -
كَمَا في ((الصحيحين))- يسألُ أبا سُفيان أسئلةً -ولم يَكُن أبو سُفيان قد أَسْلَم
بَعْدُ-، ثُمَّ شَرَحَ له، قال: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ
ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا ..
وَسَألتُكَ : هَلْ
قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ
أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ؛ لَقُلْتُ : رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ
قَبْلَهُ .
وَسَألتُكَ : هَلْ
كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ : فَلَوْ كَانَ مِنْ
آبَائِهِ مَلِكٌ؛ قُلْتُ : رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ .
وَسَألتُكَ:هَلْ
كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ
لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ
عَلَى اللهِ
وَسَألتُكَ : أَشْرَافُ
النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ
وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ .
وَسَألتُكَ : أَيَزِيدُونَ
أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ
حَتَّى يَتِمَّ .
وَسَألتُكَ : أَيَرْتَدُّ
أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ
الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبِ .
وَسَألتُكَ : هَلْ
يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَألتُكَ : بِمَ
يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ،
وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ .
قال هرقل : فَإِنْ
كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ
أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَمْ أَكُن أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلُو أنِّي أَعْلَمُ
أَنِّي أَخْلُصَ إِلَيْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ
عَنْ قَدَمِهِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
فإذا كان هذا وصفُ
ألدِّ أعدائه ومكذبيه، ومحاربي دعوته فكيف بوصفِ أتباعه له؟! فصلوات ربي وسلامه عليه
صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الجديدان .
ومن هذا الخلق العظيم،
استمد المسلمون الأوائل قوتهم وصلابتهم، وأصبح من المستحيل هزيمتهم أو كسر شوكتهم
.
ثالثاً - رسول الله
يدعونا إلى مكارم الأخلاق :
لقد حث الرسول صلى
الله عليه وسلم على مكارم الأخلاق، وكان أفضل الخلق أخلاقًا ، وأحسنهم آدابًا، وبيَّن
رسول الله أنه ما بُعِثَ إلا ليتمم مكارم الأخلاق، فلقد كانت في الجاهلية أخلاق كريمة
فأتى الرسول ليتممها، وذلك بإصلاح ما فسد منها، والثناء على ما كان فاضلًا، والحث عليه
حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (هكذا رواه الإمام أحمد،
وورد بلفظ: «مكارم الأخلاق» وصححه الألباني، ورواه الإمام مالك بلفظ: (حُسْنَ الأخلاق)
.
وأيضاً :عن أبي
ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع
السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وحسنه الألباني. وعن أبي
أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم (أي: ضامن) ببيت
في ربض الجنة (أي: أدناها) لمن ترك المراء (أي: الجدال) وإن كان محقاً، وببيت في وسط
الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقه) رواه أبو
داود وحسنه الألباني . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه
وسلم قال : ( إن خيارَكم أحاسنُكم أخلاقاً) رواه البخاري. وعن عائشة - رضي الله عنها
- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم
القائم) رواه أبو داود وصححه الألباني . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حسن، وإن
الله ليَبْغَض الفاحشَ البذيء) رواه الترمذي وحسنه الألباني
إن حُسن الخلق به
صلاح الأفراد والأسر والمجتمعات، وسلامة من السوء والمكدرات، ولهذا كانت الوصية النبوية
بألفاظه الذكية: "وخالق الناس بخلق حُسن" ، "وأكمل الناس إيمانًا أحسنهم
خُلقًا" ، "وحُسن الخلق، ذهب بخيري الدنيا والآخرة" ، "وأثقل ما
يُوضَع في الميزان ويرضي الرحمن ، ويغضب الشيطان’’
ولو أنني خُيِّرت
كل فضيلة *** ما اخترت غير مكارم الأخلاق
والأخلاق الحسنة
سبب في محبة الله لعبده: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران:146]، (إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[المائدة:42]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[المائدة:13]
، وهكذا في سلسلة أخلاق المؤمنين، الأخلاق الحسنة سبب لمحبة رسول الأمة، يقول -عليه
الصلاة والسلام-: "إن من أحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة: أحاسنكم
أخلاقًا" (رواه الترمذي).
لا خَيْلَ عِندَكَ
تُهْديهَا وَلا مالُ *** فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ
و الأخلاق الحسنة
سبب للألفة والمودة، والرحمة والمحبة، والاجتماع والشفقة .
والأخلاق الحسنة
من أجلّ الخصال، وأحسن الأفعال وسبب لصلاح العيال .
وما المَرْءُ إلاَّ
حيثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ *** فَفِي صالِح الأَعمالِ نَفْسَكَ فاجْعلِ
واسمع إلى كلام
شيخ الإسلام ، ابن تيمية رحمه الله تعالى ،حيث قال: "والسعادة في معاملة الخلق
أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخاف الله فيهم ولا تخافهم في
الله، وتحسن إليهم رجاءَ ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكفّ عن ظلمهم، خوفًا من الله لا
منهم".وخذ هذه الفائدة واجعلها لك قاعدة: قال رحمه الله تعالى: " العارف
لا يرى له على أحد حقًّا، ولا يشهد له على غيره فضلاً؛ ولذلك لا يُعاتِب ولا يُطالِب،
ولا يُضارِب ’’ .
أُحِبُّ مَكَارِمَ
الْأَخْلَاقِ جَهْدِي *** وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا
وَأَصْفَحُ عَنْ
سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا *** وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
والأخلاق الحسنة
معيار الأمة ورمزها، وعنوان تماسكها وتواصلها، ورمز فلاحها واجتماعها، وسمة عقيدتها
ومبادئها، ودليل التزامها وتآلفها ، أما إذا خلت ونأت عن الأخلاق الحسنة فسرعان ما
يدب لها الفساد، والفرقة والبعاد .
وإذا أصيب القوم
في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتمًا وعويلاً
إنما الأمم الأخلاق
ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن حسن الخلق منحة
ربّانية ومِنّة إلهية، لا يعطيها الله عزّ وجلّ إلا لمن يصطفيه ويحبّه، ولله درّ الشاعر
حينما قال :
فالناس هذا حظُّهُ
مالٌ وذا ـــ عِلْم وذاك مكـارم الأخلاقِ
فإذا رُزِقت خليقةً
محمودة ـــ فقد اصطفاك مُقَسِّمُ الأرزاقِ
فالمال نعمة تحتاج
إلى علم حتى ينفقه صاحبه فيما شرع، والعلم بحاجة إلى الأخلاق حتى ينفع صاحبه به الأمة
. وكما قيل : الْمالُ إنْ تـدّخِرْهُ مُحَصّنًا ـــ بالعلم كان نهـايةَ الإملاقِ .
والعلم إن لَم تكتنفه
شَمائلٌ ـــ تُعْلِيهِ كـان مَطِيّة الإخفاقِ
لا تحسبنّ العلمَ
ينفعُ وحدَهُ ـــ ما لَم يُتَوَّجْ ربُّـهُ بخَـلاقِ
وكثيراً ما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها
إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت» (رواه مسلم :عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه ، وهو حديث جليل فيه دعاء شريف أرجو ممن يطلع على هذا الحديث العمل به
وتدبر معانيه .
أيها الأحبة في
الله، إننا في هذه الأيام ، وفي هذا الزمان أحوج ما نكون إلى الأخلاق الحسنة، عملاً
وسلوكًا يتجَسّد في قولنا وفعلنا، وفي حِلِّنا وتِرْحَالِنا، وفي عُسْرِنا ويُسْرِنا،
وفي بيعنا وشرائنا، وفي عهودنا ووعودنا، وفي غضبنا ورضانا، مع أهلنا وأصحابنا، وخير
مَن نتأسّى بأخلاقه ونقتفي آثاره ونقلّد أفعاله هو الحبيب محمد ، وكما قال عنه شاعره
حسّان بن ثابت :
إمامٌ لهم يهديهم
الحقَّ جاهدًا ـــ مُعَلِّمُ صِدْقٍ وإن يطيعوه يَسْعَدُوا
رابعاً - شذرات
من حياة النبي :
1- رسول الله وعبادته
لربه :
لقد كان عليه الصلاة
والسلام أعبد الناس ، و من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه كان عبداً لله شكوراً
.
فإن من تمام كريم
الأخلاق : التأدب مع الله رب العالمين ، وذلك بأن يعرف العبد حقّ ربه سبحانه وتعالى
عليه ، فيسعى لتأدية ما أوجب الله عز وجل عليه من الفرائض، ثم يتمم ذلك بما يسّر الله
تعالى له من النوافل ، وكلما بلغ العبد درجةً مرتفعةً عاليةً في العلم والفضل والتقى
، كلما عرف حق الله تعالى عليه فسارع إلى تأديته والتقرب إليه عز وجل بالنوافل .
فقد أخبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،عن رب العالمين في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه إن الله تعالى
قال: (... وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي
يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه
ولئن استعاذني لأعيذنه...) رواه البخاري .
ولقد كان صلى الله
عليه وسلم يعرف حق ربه عز وجل عليه ، وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر على الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ ويسجد
فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى ويخشع لله عز وجل حتى يُسمع لصدره أزيز
كأزيز المرجل .
فعن عبدالله بن
الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه
أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء)، رواه أبو داود وصححه الألباني .
وعن عائشة رضي الله
عنها : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة:
لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون
عبداً شكوراً) رواه البخاري .
ومن تخلقه صلى الله
عليه وسلم بأخلاق القرآن وآدابه تنفيذاً لأمر ربه عز وجل أنه كان يحب ذكر الله ويأمر
به ويحث عليه، قال صلى الله عليه وسلم : (لأن أقول سبحانه الله والحمد لله ولا إله
إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم .
وكان عليه الصلاة
والسلام أكثر الناس دعاءً، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) . متفق عليه .
وعن عائشة ـ رضي
الله عنها ـ أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ
بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) رواه النسائي وصححه الألباني .
2- رسول الله ودعوته
إلى ربه :
وكان صلى الله عليه
وسلم رحيمًا في دعوته، رحيمًا في توجيهه وحكمته، وكان رحيمًا بالأمة حتى في إمامته
وصلاته، (كان يدخل إلى الصلاة يريد أن يُطولها فإذا سمع بكاء الأطفال أشفق على الأمهات
فخففها) رواه البخاري . وكان يقول : ((إذا أمّ أحدكم بالناس فليخفف، فإن وراءه الضعيف
والسقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة وإذا صلى لوحده فليُطول ما شاء)) ، رواه البخاري
، ومسلم،عن أنس.. وكان : (( يصلي في الفجر بالستين إلى المائة آية )) ، رواه البخاري،
ومسلم ، عن أبي برزة الأسلمي ، فلما دخل ذات يوم يريد أن يطول فسمع بكاء صبي فقرأ:
إنا أعطيناك الكوثر [الكوثر: 1]. فلما انفتل من صلاته قال: ((إني سمعت بكاء صبي فأشفقت
على أمه))، رواه البخاري .
و دخل أعرابي المسجد
ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه فرفع ثوبه ؛ لكي يبول فقام الصحابة ينهرونه ويمنعونه،
فقال: ((لا تزرموه)) فرحمه وأشفق عليه حتى قضى بوله وحاجته، فأمر بذنوب من ماء يصب
على بوله ثم دعاه فوجهه وعلمه وأرشده . رواه البخاري في كتاب الوضوء. وصلى بأصحابه
فصاح رجل وتكلم في الصلاة، فما زال الصحابة يُسَكتونه حتى رمقوه بأبصارهم، فصاح الرجل:
واثُكل أماه فلما سلم يقول هذا الصحابي: فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله يقول
والله ما نهرني ولا شتمني، ولكن قال لي: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام
الناس إنما هو التسبيح والاستغفار وقراءة القرآن))، رواه مسلم ،عن معاوية بن الحكم
السلمي .
وكان خُلُقُه عظيمًا،
وهو على منبره يُفصَّلُ الشريعة والأحكام ويأخذ بمجامع القلوب إلى طريق السلم والرحمة
والسلام، ما كان يجرح الناس ولا يعنفهم ولا يكسر خواطرهم ولا يُشهِّرُ بهم، كان يقول
عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام)) ,رواه مسلم .
3- رسول الله في
بيته :
كان صلى الله عليه
وسلم خُلُقُه عظيمًا إذا دخل إلى بيته، كان خير الأزواج وأبرهم وأفضلهم .
فما عاب صلى الله
عليه وسلم طعامًا وضع بين يديه[رواه البخاري، ومسلم ، عن أبي هريرة] . ولا سب امرأة
ولا شتمها ولا ضربها ولا أهانها، يكرم ولا يهين، يُعزُّ ولا يُذلُّ، بأبي وأمي صلوات
الله وسلامه عليه، فعن عائشة قالت: ’’ما ضرب رسول الله بيده خادمًا له قطّ ولا امرأة،
ولا ضرب رسول الله بيده شيئًا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين أمرين
قطّ إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس من
الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله عزّ وجل فينتقم لله’’.
رواه البخاري . وكانت زوجه إذا جاءت بالشراب أقسم عليها أن تشرب قبل أن يشرب، فإذا
شربت من الإناء وضع فمه حيث وضعت فمها، كانت تأتيه بالمرق والعظم فيه اللحم فيقسم عليها
أن تنهش منه قبله فإذا نهشت منه وضع فمه حيث وضعت فمها .[ رواه النسائي في كتاب الطهارة،
باب مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها وأصله في صحيح مسلم.] فبأبي وأمي صلوات الله وسلامه
عليه ما أكرمه وما أحلمه وما أرحمه، لا يعنف ولا يؤذي ولا يجرح أحداً .
و كان إذا دخل البيت
لا يدخل من وجه الباب؛ لكي يتخون أهله، بل كان يدخل من طرفي الباب إما يمينًا وإما
شمالاً، فإذا دخل إلى بيته ملك قلوب أزواجه بالعطف والإحسان وبالرحمة والحنان . رواه
البخاري في الأدب المفرد، باب كيف يقوم عند الباب ح 78 .
وكان يخدم نفسه
وأهله ، سُئلت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ فقَالَتْ: "كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ
– تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ – فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ"
رواه البخاري .
وسُئلت مرَّةً أخرى
هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ
شَيْئًا؟ قَالَتْ: "نَعَمْ، كَانَ بشراً من البشر, يخدم نفسه، ويَخْصِفُ نَعْلَهُ،
وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، ويحلب شاته، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ
فِي بَيْتِهِ" رواه الإمام أحمد وصححه الألباني .
نعم, هكذا كان صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخدمُ أَهْلَه, أي: يُساعدهم في أشغالهم, ويُعينهم على حوائجهم
، وكان يخدم نفسه, أي يقوم بكفاية نفسه وحاجيَّاته, من إصلاح نعله, وخياطة ثوبه, وحلبِ
شاته, كلُّ هذه الأعمال التي يندر أنْ يقوم بها أحدٌ من الرجال, يقوم بها أعظم وأكرمُ
الأنبياء والرُّسل . لم يكن مُتوسِّداً ومُتَّكئاً, يُصدر الأوامر والطلبات, كما يفعله
الكثير منَّا إلا من رحم الله .
مَن مِنَّا يخدم
نفسه في بيته؟ إن الكثير مِنَ الناس يرى أنّ ذلك من المهانة , وقلَّةِ الهيبة والرجولة
. أما النبيُّ الأكرم, والرسول الأعظم: يفعل ذلك مع جلالته ومكانته, وهو قائد الدولة,
ونبيُّ الأمة ، وهو الذي يتسابق الصحابةُ إلى فضلِ وَضوئه, ويتنافسون إلى التقاط ما
سقط من شعره, ويُسارعون إلى نعاله ليلبسها, وهم رهنُ إشارته, وطوعُ أوامره ، تواضع
ما بعده تواضع .
وكان صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته ربما يرى ما لا يُعجبه من أزواجه, بل ورُبَّما حصل من إحداهنّ
تصرُّفٌ سيِّءٌ في حقه, ومع ذلك كان يتعامل مع هذه المواقف بالحلم والرفق . روى البخاريُّ
في صحيحه أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مرَّةً عِنْدَ بَعْضِ
نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بإناءٍ فِيه طَعَامٌ، فغارتْ
زوجته هذه التي هو فِي بَيْتِهَا, فَضَرَبَتِ يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَ الإناء فَانْكسر،!!!!!
يا له من موقفٍ ما أصعبه على نفوس الرجال, وما أحراه أنْ يكون سببًا للخصام والطلاق
أيضًا, فماذا فعل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع هذه المرأةِ, التي تجرَّأت
على هذا الفعل؟ جعل يجمَعُ ما تناثر من أجزاء الإناء الْمكسور، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ
فِيه الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِيه وَيَقُولُ: "غَارَتْ أُمُّكُم’’ . ثُمَّ قَالَ:
"كُلُوا", وكأنَّ شيئاً لم يكن, فَأَكَلُوا وشبعوا, فلما انتهوا, دَفَعَ
إِلَى الخادم إناءً آخر، وَتَرَكَ الْمَكْسُورَ في بيت التي كسرته , وانتهت المشكلةُ
بهذا التصرُّف الحكيم .
ولقد جعل الخيرية
فيمن أحسن معاملة زوجته، فقال : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي
بسند صحيح
أيضاً : جاء نسوة
إلى الرسول يشكون أزواجهن، فأعلن الرسول على الملأ: ((لقد أطاف بآل محمد نساء كثير
يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم)) رواه أبو داود بسند صحيح .
لقد كان الرسول
قمّة شامِخة في حياته الأسرية، إذ ما كانت تشغله الأعباء الجسام التي ينهض بها لتكوين
الأمة المسلمة وتوحيد الكتائب عن أن يكون زوجًا مثاليًّا مع زوجاته في حسن المعاشرة
، ودَمَاثَة الخلق، ومن ذلك ما ترويه عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله في
سفر فسابقته فسبقته، فلما حملت اللحم وبَدُنَت سابقته فسبقها، فقال: ((هذه بتلك)) رواه
أبو داود بسند صحيح . أخلاق عالية، ومعاملة مثالية راقية، رسول الله يتسابق مع زوجته
ليدخل عليها السرور والفرحة بهذه المعاملة الراقية، ليسمو بالحياة الزوجية لتكون أقدس
علاقة وأقوى رباط، لا تزيدها العواصف والمشاكل الزوجية إلا قوة إلى قوتها، ويُشعِر
الأمةَ بأن العلاقة الزوجية يجب أن تتجاوز التعامل من خلال الأوامر والنواهي فقط، ويجب
أن لا تقتصر على المعاملة الحازمة الجادّة الجامدة، بل تتخطّاها إلى مزاح ظريف ولهو
بريء وسباق يُدخِل السرور على القلوب والمرح على النفوس، وذلك لأن النفوس تملّ وتكلّ
وتتعب وتنصب، وتحتاج إلى ما يريحها، وأكثر ما يريحها التعامل الراقي الذي ليس فيه انتقاص
ولا احتقار ولا ازْدِراء
وروت عائشة أن النبي
كان جالسًا فسمع ضَوْضَاء الناس والصبيان، فإذا الحبشة يرقصون، يعني بالحِرَاب، فقال:
((يا عائشة، تعالي فانظري))، فوضعت خدّي على مَنْكِبَيه، فجعل يقول: ((يا عائشة، ما
شبعت؟!)) فأقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده، ولقد رأيته يُرَاوِحَ بين قدميه ، يعني من
طول المدة، وفي رواية في الصحيحين: يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف .
ومن حسن معاملته
لزوجاته إسماعُهُنّ ما يحلو لهنّ من كلمات الثناء والنداء العَذْبَة التي تحبّها النساء
من الأزواج، فقد كان النبي يُثنِي على عائشة ويُرَخِّمُ نداءها، فعن أنس بن مالك قال:
سمعت رسول الله يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام)) رواه
مسلم، وروى البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله يومًا: ((يا عائش،
هذا جبريل يُقْرِئك السلام))، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى
ـ تريد رسولَ الله ـ. انظروا كان يُثنِي عليها، ويناديها باسم مُحَبَّبٍ عندها .
نعم، إنّ كَرَم
الودّ من الإيمان، وحسن معاملة الزوجة من الإيمان، والصبر عليها من الإيمان، فقد كان
نساء النبي يراجِعْنَه الحديث وهو رسول الله ، وتهجره الواحدة يومًا كاملاً إلى الليل،
وجرى بينه وبين عائشة كلامٌ حتى أدخل أبا بكر حَكَمًا بينهما. كل هذا مع جلالته وعظمته
، فأحسن إليهنّ، وصبر عليهنّ .
إن المسلم حينما
يتأمّل مثل هذه المواقف في حسن المعاملة فإنه يَحَار من عظمتها وسموها ورقيّها، ويتعجب
من تبسّطه لإدخال السرور على أهله . إنه الإسلام، هذا الدين العظيم الذي أمر الأزواج
بحسن المعاملة مع الزوجات، فالمرأة تحتاج إلى من يتلطّف معها ويسعدها ويشبع فيها روح
الأنس والرضا والرحمة، ويشعرها أنها في ظلّ زوج كريم يحميها ويرعاها، ويهتم بشؤونها،
ويوفر لها حاجاتها المشروعة، ويتجمّل لها بالزينة التي أباحها الشرع، ويعطيها من وقته
واهتماماته، فلا ينشغل عنها وقته كله في أعماله أو هواياته أو مسئولياته أو أصحابه،
فإن الإسلام راعى للمرأة هذه الحقوق، ولم يأذن للزوج بشغل وقته كله حتى ولو بالعبادة،
كما قال : ((إن لزوجك عليك حقًّا)) حسّنه الألباني . أحبّتي في الله، إنّ إحسان معاملة
النساء والصبر عليهنّ كما كان يفعل رسول الله لهو كفيل بأن يملأ البيت بسحائب الرحمة،
وأن يظلّه بظلال المحبة، ويبعد عنه غشاوة العداوة وضجيج الخلاف الذي يجعل شبح الطلاق
مُخَيِّمًا فوق كثير من بيوتنا، فممّا لا يخفى على أحد زيادة معدّلات الطلاق في مجتمعنا
، بسبب سوء أخلاق البعض .
4- رسول الله مع
أصحابه :
كان صلى الله عليه
وسلم رحيمًا، وكان جوادًا بالأخلاق كريمًا وهو جالس بين أصحابه ، لو دخل عليه الغريب
لا يستطيع أن يعرفه من بين الصحابة من تواضعه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه وكان
السائل يقول: أيكم محمد؟ ما كان جبارًا ولا فظًا ولا سخابًا ولا لعانًا ولكن كان رحمة
للعالمين .
أشدُّ الناسِ تَواضعًا
وأحسنُهم بشرًا، يجالِس الفقراءَ، ويُؤاكل المساكينَ، وحمل مع صحابتِه اللَّبِن في
بناءِ المسجد .
وكان رحيمًا بالأحياء
منهم والأموات، فكان إذا جن عليه الليل خرج إلى بقيع الغرقد ، فوقف على قبور المؤمنين
والمؤمنات ، وسأل ربه بصالح الدعوات أن يُسبغ عليهم شآبيب الرحمات ، فعن عائشة أنها
قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله يخرج من آخر
الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون،
وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد). رواه مسلم . وتوفيت امرأة
سوداء كانت تَقُمُّ المسجد فلم يشهد صلوات الله وسلامه عليه الصلاة عليها ، ما لبث
حتى قام على قبرها وصلى عليها ودعا لها وقال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها،
وإن الله ينورها بصلاتي عليهم))، رواه البخاري .
5- رسول الله ورحمته
بالصغار :
ومن معالم حسن معاملته
إحسان معاملة الأولاد، عن عبد الله بن بُرَيْدَةَ أن أباه حدثه قال: رأيت رسول الله
يخطب، فأقبل حسن وحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل النبي
فأخذهما فوضعهما في حِجْره، فقال: ((صَدَق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ [التغابن:15]، رأيت هذين فلم أصبر))، ثم أخذ في خطبته. رواه أبو داود بسند
صحيح
إنه لَسلوك عظيم
أن يحسن الإنسان معاملة أبنائه حتى في المواقف العظيمة، النبي ينزل من فوق المنبر وأمام
الجموع ليحمل أسباطه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يكمل خطبته .
ومن ذلك أيضًا ما
رواه ابن ماجه أن يعلى بن مُرَّة حدّثهم أنهم خرجوا مع النبي إلى طعام دُعُوا له، فإذا
حسين يلعب في الطريق، قال: فتقدم النبي أمام القوم، وبَسَط يديه فجعل الغلام يفرّ ها
هنا وها هنا، ويضاحكه النبي حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فَأْس رأسه
فقبّله، وقال: ((حسين مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسينًا، حسين سِبْطٌ من
الأَسْبَاط))، وفَأْس الرأس أي: قَفَا الرأس. صحّحه الألباني. سبحان الله! يُضاحِك
ولده بين أصحابه، ويقبّله بين جموع الرجال؛ ليعلّمهم كيف يعاملون أبناءهم .
ومن ذلك حمله لأولاده
في الصلاة، فعن أبي قتادة يقول: بينما نحن في المسجد جلوس خرج علينا رسول الله ، يحمل
أُمَامَة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله ، وهي صبيه يحملها على
عاتقه، فصلى رسول الله وهي على عاتقه ؛ يضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته،
يفعل ذلك بها. أخرجه البخاري
مَن منّا يصبر على
ولده في الصلاة كما يفعل النبي ؟! مَن منّا يحسن المعاملة مع ولده كما يفعل النبي ؟
فإذا رحمتَ فأنت
أمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرُّحَمَاءُ
وكان يتواضَع للصغار،
إن مرَّ على صبيانٍ سلَّم عليهم، رأى أبا عُميرٍ رضي الله عنه وكان صبيًّا فقال مداعِبًا
له: ((أبَا عمير، ما فعل النّغير؟)) متفق عليه. يقول أنس رضي الله عنه: ما رأيتُ أحدًا
كان أرحمَ بالعيال من رسول الله. رواه مسلم .
6- رسول الله ورفقه
بأمته :
وكان النبي يحثّ
الناس على الرفق، ويرغّبهم فيه، وخصَّ من وَلِيَ أمرًا من أمور أمته بالذكر حتى في
دعائه، فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول في بيتي هذا: ((اللهم من وَلِيَ
من أمر أمتي شيئًا فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه، ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فرفق
بهم فارفق به)) رواه مسلم .
ولم يقف أمر النبيّ
بالرفق عند حد الإشارة إليه بالقول، ولكن أراد أن يهدي الناس إليه بفعله، وما أدراك
ما رفق النبي ! إنه الشمس في واضِحَة النهار، والبدر المنير في حَالِك الظلام، ولا
يحتاج إلى ما يدلّل عليه .
وليس يصحُّ في الأذهان
شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دَليلِ
وقد أحسن من قال
عنه
إمـامٌ يهديـهمُ
الْحقَّ جاهِــــــدًا مُعلّم صِدْق وإن يطيعوه يَسْعَدُوا
عَفُوٌّ عن الزلاّت
يقبل عذرَهم وإن يُحسنوا فاللَّهُ بالخيـر أجـــودُ
7- رسول الله والصبر
على الشدائد :
لقي من الحياة مشاقَّها،
ومن الشدائدِ أحلَكها، نشأ يَتيمًا فاقدًا حنانَ الأمومة، وتوفِّيَ والده ولم تأنَس
عينه برؤيته، وآذاه قومُه بالقولِ والفعل، قال أنس رضي الله عنه: ضربوا رسول الله مرّةً
حتى غُشِي عليه. اتَّهموه بالجنون، ورمَوه بالسِّحر، ووصفوه بالكذب، وقال الكافرون:
هذا ساحِر كذّاب. وفي الغارِ كربٌ وهمّ، خوف وحزن، إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]. وفي أحُد كُسِرت رَباعيّته وشُجّ في وجهه وسالَ
دمُه، لاقى من الجوعِ حرارَتَه، ومن العدوّ بأسَه، وضَعوا السّمَّ في طعامه وسَحَروه
في أهله . توالَت عليه المصائبُ، وتوالَت عليه المحَن، وربُّه يقول له: فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ[الأحقاف:35]. يبثُّ أشجانَه وأحزانَه إلى
زوجته، يقول: ((يا عائشة، لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ)) رواه البخاري .
مات ستّةٌ من أولاده
في حياتِه، فلم تثنِه تلك الكروبُ عن الدّعوة إلى الله، صبَر على كمَد الحياة ولأوائِها،
يقول عن نفسه: ((لقد أوذِيتُ في الله وما يؤذَى أحَد، وأخِفتُ في الله وما يخاف أحَد))
رواه أحمد .
8- رسول الله مع
غير المسلمين :
روى الطبرانى عن
عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن زيد بن سعنه - وهو الحبر الكبير من أحبار يهود
- قال : ما من شىء من علامات النبوة إلا وقد عرفته فى وجه محمد حين نظرت إليه إلا إثنتين
الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً يقول زيد
بن سعنه : فخرج رسول الله يوماً من الحجرات مع على بن أبى طالب ، وإذ برجل من الأعراب
يقبل على النبى ويقول يا رسول الله إن قومى فى قرية بنى فلان قد دخلوا الإسلام ولكنهم
دخلوا فى الإسلام طمعاً ، فلقد أخبرتهم أنهم إن دخلوا فى الإسلام أتاهم رزقهم رغداً
، وقد نزلت بهم اليوم شدة وقحط ، فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فى الإسلام
طمعاً ، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشىء تغيثهم به فعلت يا رسول الله ، فالتفت الحبيب
المصطفى صاحب الخلق إلى على بن أبى طالب وسأله (( هل عندنا شىءٌ من المال ))؟ فقال
على بن أبى طالب : لا والله يا رسول الله لقد نفذ المال كله
يقول زيد بن سعنه
: فدنوت من محمد وقلت له : يا محمد هل تبيعُنى تمراً معلوماً فى حائط بنى فلان إلى
أجلٍ معلوم ، فقال النبى (( نعم أبيعك تمراً معلوماً إلى أجلٍ معلوم لكن لاتسمى حائط
بنى فلان )) ، فوافقت على ذلك ، وأعطيت النبى ثمانين مثقالا من الذهب ، يقول زيد بن
سعنه : فأخذها النبى كلها وأعطاها لهذا الأعرابى، وقال : (( اذهب إلى قومك فأغثهم بهذا
المال )) فانطلق الأعرابى بالمال كله ، ولم يمض غير قليل من الوقت، ورسول الله مع أبى
بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه ، بعد أن صلى جنازة على صاحب له وأتى إلى جدار ليجلس
إليه فى ظله ، فاقترب منه زيد بن سعنه ونظر إلى النبى بوجه غليظ ، وأخذ بقميص النبى
وردائه وهز الحبر اليهودى رسول الله هزاً عنيفاً وهو يقول له : (( أَدِّ ما عليك من
حق ومن دَيْنٍ يا محمد ! ، فوالله ما علمتكم يابنى عبد المطلب إلا مُطلاً فى أداء الحقوق
وسداد الديون .
فالتف إليه عمر
بن الخطاب وعينه تدور وقال له : يا عدو الله أتقول لرسول الله ما أسمع وتفعل برسول
الله ما أرى ؟!! والذى نفسى بيده لولا أنى أخشى فوته وغضبه لضربت رأسك بسيفى هذا .
يقول زيد بن سعنه
: وأنا أنظر إلى النبى وإذا بالنبى ينظر إلى فى سكون وهدوء ، ثم التفت المصطفى إلى
عمر بن الخطاب وقال له : (( يا عمر لقد كنت أنا وهو فى حاجة إلى غير ذلك ، يا عمر لقد
كان من الواجب عليك أن تأمرنى بحسن الأداء وأن تأمره بحسن الطلب .... )) ،!! فبهت الحبر
أمام هذه الأخلاق السامية ، وأمام هذه الروح الوضيئة العالية من الحبيب المصطفى
أتدرون ماذا قال
الحبيب صاحب الأخلاق العظيمة ؟ التفت الحبيب إلى عمروقال : ’’ يا عمر خذه وأعطه حقه
وزده عشرين صاعاً من تمرٍ جزاء ما روعته ’’ يقول زيد بن سعنه : فأخذنى عمر بن الخطاب
وأعطانى حقى وزادنى عشرين صاعاً من تمر . فقلت له : ما هذه الزيادة يا عمر ؟ فقال
: أمرنى رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك . فالتفت الحبر اليهودى إلى عمر وقال
: ألا تعرفنى ؟ قال : لا ، قال : أنا زيد بن سعنه ، قال عمر : حبر اليهود ؟! قال :
نعم فالتفت إليه عمر وقال : فما الذى حملك على أن تقول لرسول الله ما قلت ؟ وعلى أن
تفعل برسول الله ما فعلت فقال زيد : والله يا ابن الخطاب ما من شىء من علامات النبوة
إلا وقد عرفته فى وجه رسول الله حين نظرت إليه ولكننى لم أختبر فيه خصلتين من خصال
النبوة ، فقال عمر : وما هما ؟
قال حبر اليهود
: الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، أمـا
وقد عرفتها اليوم فى رسول الله فأشهدك يا عمر أنى : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله
وروى ابن اسحاق
بسند صحيح مرسلا وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد : أخرجه الطبرانى عن أنس ورجاله رجال
الصحيح من حديث عروة بن الزبير أن عمير بن وهب أُسِرَ ولده وهب بن عمير فى غزوة بدر
فجلس عمير بن وهب مع صفوان بن أمية وكان على الكفر والشرك ، جلسا إلى جوار الكعبة فتذكرا
يوم بدر فقال عمير بن وهب لصفوان بن أمية : والله لولا دَيْنٌ على وعيال أخشى عليهم
الضيعة بعدى ، لركبت إلى محمد لأقتله ، فإن لى قبلهم علة ، ابنى أسيرٌ فى أيديهم ،
فاغتنمها صفوان بن أمية وقال : علىَّ دَيْنُك أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالى ، لا
أمنع شيئاً عنهم .
فقال له عمير :
فاكتم شأنى وشأنك ، قال : أفعل فانطلق عمير إلى المدينة وقد شحذ سيفه وسَّمه ، فلما
أناخ راحلته على باب المسجد رآه الفاروق الملهم عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه . فقال
عمر : هذا عدو الله عميرُ بن وهب والله ما جاء إلا لشر، ثم أخذ عمر بحمالة سيفه فى
عنقه فلببَّه بها ثم أدخله على رسول الله فقال النبى : أرسله يا عمر ، ثم قال : ادن
ياعمير ، فدنا من رسول الله ثم قال له رسول الله : ’’ما الذى جاء بك يا عمير،، ؟ فقال
: ابنى أسيرٌ فى أيديكم جئت لتحسنوا فى فدائه . فقال النبى : أصدقنى يا عمير ، مالذى
جاء بك قال : ما جئت إلا لهذا . فقال النبى : فما بال السيف فى عنقك ؟ فقال عمير بن
وهب : قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؟ قال عمير : ما جئت إلا لذلك.
فقال النبى : ((بل جلست أنت وصفوان بن أمية فى حجر الكعبة فذكرتما أهل بدر من قريش
، ثم قلت لصفوان : لولا دين علىّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى ، لركبت إلى محمد لأقتله
، فتحمل لك صفوان بدَيِنكَ وعيالك ، على أن تقتلنى ، والله حائل بينك وبين ذلك
فقال عمير بن وهب
: أشهد أنك لرسول الله فوالله هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إنى لأعلم
أنه ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام ، وساقنى هذا المساق ثم شهد
شهادة الحق ، فقال رسول الله : (( فقهوا أخاكم فى دينه وأقرؤوه القرآن ، وأطلقوا له
أسيره )) .
: 9- هدي النبي
صلى الله عليه وسلم في الرفق بالحيوان
الرسول
صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله جل وعلا، وعجيبة من عجائب الكون، ولا ينبغي على
الإطلاق أن نجهل أو نتجاهل هذا التاريخ المشرق المضيء؛ لأننا نعيش الآن زماناً قد انحرفت
فيه الموازين، وتغيرت فيه الحقائق وتبدلت. فنسمع الآن من يزعم أن الغرب هو أول من أصَّل
وأسس جمعيات الرفق بالحيوان، ونحن لا ننكر أن الغرب يفعل ذلك الآن، لكن لا يجوز البتة
أن يدعي أحد أن الغرب أسبق منا في هذا الأمر، فإن أول من أصَّل وأسس الرفق بالحيوان
هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد صلى الله عليه وسلم. تدبروا جميعاً هذه الكلمات
النبوية الرقراقة، روى مسلم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته). إلى هذا الحد! (إذا ذبحتم
فأحسنوا الذبحة) ليس من الرحمة أبداً أن تأتي بشاةٍ لتذبحها على مرأى ومسمع من مجموعةٍ
أخرى من الأغنام، فهذا ليس من الرحمة، ونرى هذا المشهد في كل عيد من أعياد الأضحى في
الشوارع والطرقات. ترى الرجل من إخواننا يقدم الشاة ليذبحها على مرأى ومسمعٍ من بقية
الأغنام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) وأود
أن أنبه بأنكم إذا وجدتم مخالفةً؛ فلا ينبغي أن ننسب المخالفة لمنهج النبي صلى الله
عليه وسلم، ولا لدينه، وإنما المخالفة تنسب لنا؛ لأننا نحن الذين انحرفنا عن منهج رسول
الله
تعليقات: (0) إضافة تعليق