الحمد لله الجبار المعبود، الذي أباد بسطوته قوم نوح وعاد وثمود
واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير
عزَّ فلا تـراه الظنـون | ** | وجـلَّ فلا يعتريه المنـون |
تفـرد في مـلكه بالبقاء | ** | وكل الورى بالفناء ذاهبون
|
ويفعل في خلقه ما يشاء | ** | بغير اعتراض وهم يسألون |
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود
إذا ما شئت في الدارين تسعد | ** | فأكثر في الصلاة على محمد |
وان شئت قبـول لها يقيـنا | ** | فاختم بالصلاة على محـمد
|
وقل يا رب لا تقطع رجائي | ** | وكن لي بالصلاة على محمد |
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
العناصر
أولاً: وجوب الاعتبار ثانيًا: صور من عقاب الله للأمم الماضية
ثالثاً: أسباب وقوع العذاب رابعاً: ما ينبغي الاعتبار به
الموضوع
تعريف الاعتبار
قال الكفويّ: الاعتبار هو النّظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنّظر فيها شيء آخر من
جنسها، وقيل: الاعتبار هو التّدبّر وقياس ما غاب على ما ظهر.
وقال المناويّ: العبرة والاعتبار: الّاتعاظ، ويكون بمعنى الاعتداد بالشّيء في ترتيب الحكم، وقال
بعضهم: الاعتبار المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى، ومن علم أدنى إلى علم أعلى ﴿[1]﴾.
وقال الجرجانيّ: الاعتبار: أن يرى الدّنيا للفناء. والعاملين فيها للموت. وعمرانها للخراب.
وقيل: الاعتبار اسم من المعتبرة، وهي رؤية فناء الدّنيا كلّها باستعمال النّظر في فناء جزئها.
أولاً: وجوب الاعتبار
الدعوة للاعتبار: قال تعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 44]
ويقول: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾
وقال تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يوسف
وقال تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26
وقال تعالى ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]
وقال تعالى -: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17].
الدنيا زرع وحصاده في الآخرة: قال تعالى ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ الزلزلة ، وقال تعالى ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ آل عمران30
يا نفس قـد أزف الرحـيـل | ** | وأظلك الخطب الجليــــــل |
فتأهبي يا نفـــــــــــس لا | ** | يلعب بك الأمل الطـويـــل
|
فلتنـزلن بمنــــــــــــــــزل ينــسى | ** | الخليل به الخليــل |
وليركبن عليك فيــــــــــه | ** | من الثرى حمل ثقيـــــــل |
قرن الفناء بنا جميعــــــاً | ** | فما يبقى العزيز ولا الذليل |
لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ ﴿الرعد: 11﴾. وقوله: ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال:53]
لا تغتر بنعم الله عليك: عن عقبة بن عامر عن النبي r قال: ﴿ إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ﴾ ثم تلا رسول الله r: ﴿فلما نسوا ما ذكروا به
فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون﴾ ﴿[2]﴾
الله مطلع عليك فلا تظنه غافلاً عنك: الله سبحانه وتعالى ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأنَّ الله يمهل ولا يهمل، قال تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ إبراهيم ، واعلم أيها الأخ الحبيب أن الإمهال يعقبه الأخذ، والأخذ يكون لعبرة وحكمة؛ قال تعالى:﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾[هود].
كل إنسان مسئول عن عمله يوم القيامة: قال تعالى ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ الصافات24،
وقال تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ ﴿المدثر 38﴾
وقال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ الكهف
وعن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله r: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه﴾ ﴿[3]﴾
اعتبر قبل فوات الأوان: قال تعالى ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ﴿21﴾ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴿22﴾ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴿23﴾ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴿24﴾ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴿25﴾ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴿26﴾﴾الفجر
وقال تعالى﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿99﴾ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿100﴾﴾المؤمنون
تذكـر وقوفك يوم العرض عرياناً | ** | مستوحشا قلق الأحشاء حيـــرانا |
والنار تلهب من غيظ ومن حنـق | ** | على العصاة ورب العرش غضبانا
|
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل | ** | فهـل ترى فيه حرفاً غير ما كانا |
لمـا قرأت ولم تنكر قراءته | ** | إقـــرار من عرف الأشياء عرفانا |
نادى الجليل خذوه يا ملائكتى | ** | وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا |
المشركون غداً في النار مسكنهم | ** | والمؤمنون بــدار الخلد سكانا |
ثانيًا: صور من عقاب الله للأمم الماضية
الغرق: قال تعالى ﴿مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله انصارا ﴾نوح
قال ابن كثير: ﴿من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم أغرقوا فأدخلوا ناراً﴾
الخوف والفرقة وتسليط الأعداء والذل وكثرة القتل والحروب: وهذا النوع من العذاب عذب الله به بني إسرائيل فجعلهم فرقاً كثيرة وأضاف إلى ذلك الهوان والذلة إلى يوم القيامة ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ﴾ [الأعراف:167].
وقد صدق الله فكانوا أذل الأمم وأرذلها، وما نراه اليوم من عز وسؤدد فإنما هو بسبب تخاذل المسلمين عن قتالهم، ومصانعة النصارى لهم بحجة أنهم الشعب المبارك، وذلك قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف:112].
ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَـاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون﴾ [الأنعام:65].
الريح: وهو عذاب الله عذب به قوم عاد لما كفروا بربهم.
قال تعالى ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الأحقاف
وقد كان نبينا إذا رأى ريحاً خاف وظهر ذلك في وجهه، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا عصفت الريح يقول: ﴿اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسـلت به﴾﴿[4]﴾
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -r-أَنَّهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -r-مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ -قَالَتْ -وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ. فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا. رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِى وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ قَالَتْ فَقَالَ ﴿يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِى أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾. ﴿[5]﴾
ويهدد الله المشركين ومن على شاكلتهم ومن آمنوا مكر الله وعذابه: ﴿أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ الإسراء
الخسف: هو كما عرفه القرطبي وهو ذهاب المكان ومن عليه وغيبوبته في بطن الأرض.
وهو عذاب الله عذب به قارون لما بغى وأفسد فقال تعالى ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن
فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ﴾ القصص
وهو أحد أنواع العذاب التي تكون في آخر الزمان فعن عمران بن حصين t أن رسول الله r قال في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف قال رجل من المسلمين يا رسول الله متى ذلك قال إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور ﴾ ﴿[6]﴾
قال ابن تيمية: ﴿المسخ واقع في هذه الأمة ولا بد، وهو واقع في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله r، الذين قبلوا دينه، والمجاهرين المنهمكين في شرب الخمر والمحارم...﴿.
وإنما يكون الخسف والمسخ إذا استحلوا هذه المحرمات بتأويل فاسد فإنهم لو يستحلوها مع اعتقاد أن الشارع حرمها كفروا ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بحرمتها لما عقبوا بالمسخ كسائر من يفعل هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية﴾.
وقد حذر الله العصاة من هذا العذاب فقال تعالى ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ النحل
ومن صور الخسف الزلازل التي تميد بالأرض فتخرب المدن بعد عمرها، وقد ذكر r أن الزلازل تكثر بين يدي الساعة فعن أبي هريرة قال قال النبي r:﴿لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل القتل حتى يكثر فيكم المال فيفيض﴾ ﴿[7]﴾
الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ: عذب أهل سبأ بالسيل والطوفان
قال تعالى ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ﴾ سبأ
وأرسل الله على قوم فرعون حينما كذبوا بنبي الله موسى u واخلفوا عهودهم معه
فقال تعالى﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴿133﴾ ، ثم أغرقهم الله تعالى في اليم لما لم يعتبروا بهذه الآيات المتتابعة
فقال تعالى ﴿فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين﴾ الأعراف
الطاعون: وهو نوع آخر من العذاب يصبه الله على الأمم المتجبرة الكافرة أو المسلمة العاصية، فعن أُسَامَةُ بن زيد قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r-﴿الطَّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ﴾. وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ ﴿لاَ يُخْرِجُكُمْ إِلاَّ فِرَارٌ مِنْهُ﴾. ﴿[8]﴾
وقد توعد الله فيه عصاة الأمم فيما جعل الطاعون رحمة وشهادة لهذه الأمة قال r: ﴿لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا﴾ ﴿[9]﴾ قال القرطبي: ﴿الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة﴾.
المسخ: عذب الله بني إسرائيل عندما اعتدوا في السبت فقال تعالى:﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة:65]
وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ [المائدة:60].
الحـاصب: والحاصب كما قال أبو عبيدة: الحجارة وقال ابن حجر: الحصباء في الريح.
وهو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط لما كفروا وارتكبوا الموبقات فقال: ﴿فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً﴾ [العنكبوت:40] وقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَـاصِباً إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ﴾ [القمر:34].
وقال تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّـالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود:82، 83]. ، ومعنى: ﴿من سجيل﴾: أي من طين متجحر، ﴿منضود﴾: أي منظم واحدة فوق أخرى بانتظام، ﴿مسومة﴾: أي معلمة بعلامة خاصة، ﴿عند ربك﴾: أي معلمة من عند الله تعالى
وقال تعالى: ﴿أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ [الإسراء:68].
الجوع والعطش وضيق الأرزاق: قال تعالى ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112]، وقال تعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الروم، قال ابن كثير: ﴿بان النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي ليذيقهم بعض الذي عملوا﴾. وقال: يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه على صنيعهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي عن المعاصي
وعن ابن عمر t قال أقبل علينا رسول الله r فقال يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ﴾﴿[10]﴾
ثالثاً: أسباب وقوع العذاب
الطغيان وظلم العباد: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾. ﴿يونس﴾ ، وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله r: ﴿ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم﴾﴿[11]﴾
كثرة المعاصي والمنكرات : عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِىَّ -r-اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ﴾. وَعَقَدَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ عَشَرَةً. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ ﴿نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ﴾ ﴿[12]﴾.
الغلو في الدين: فعن ابن عباس قال قال رسول الله r ﴾ إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين﴾ ﴿[13]﴾ ، قال المناوي: ﴿إياكم والغلو في الدين؛ أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها ﴾﴿[14]﴾
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ:﴿ دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾. ﴿[15]﴾
قال النووي: ﴿المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم وابتداعهم، فحذر رسول الله r من مثل فعلهم.﴾
العتو والكبر والغرور: قال تعالى ﴿أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ الروم
قال ابن كثير: ﴿كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم. وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم
معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر
منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم﴾
التفرق والتحزب والاختلاف: وهذا ملموس في واقعنا المعاصر كما نراه في معظم الدول؛ ضعفٌ
في الإيمان، وقسوة في القلوب، وتفرق في الكلمة، واختلال في الصف، ونزاعٌ بين الإخوة، وأحقاد وأطماع، لا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام، الذين لا يزيدهم مرور الأعوام إلا قوة وفتوة؟! وقد يبلغ التفرق بالأمة مبلغ العداء والاقتتال، فيفني بعضهم بعضا، ويقتلون أنفسهم ويتركون أعداءهم؛ كما وقع ذلك في كثير من دول الإسلام وتاريخهم، ولا يزال يقع إلى يومنا هذا
فعن عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r:﴿ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ r: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً؛ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا﴾ ﴿[16]﴾
تكذيب الرسل والأنبياء: قال تعالى عن قوم نوح: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ ﴿الأعراف: 64﴾؛ وقال عن عاد قوم هود – u-: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿الأعراف: 72﴾؛ وقال عن قوم موسى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً﴾ [سورة الفرقان]؛ وقال تعالى عن قوم فرعون وغيرهم: ﴿كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَـاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَـاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـالِمِينَ﴾ [الأنفال: 54]. فانظر: ما السبب الحقيقي؟ كذبوا بآياتنا. يقول ابن كثير: ﴿فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم؛ ففعلنا بهم ما هو دأبنا؛ أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل﴾﴿[17]﴾
كفران النعم: قال تعالى ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ﴾ ،وقال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ النحل.
التنافس في الدنيا والشح بما فيها: عن عبد الله بن عمرو قال خطب رسول الله r فقال إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ﴾﴿[18]﴾ ، وهو ما حذر النبي r أمته منه حين حذرها من فتنة الدنيا والتسابق فيها فقال: ﴿فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم﴾﴿[19]﴾
رابعاً: ما ينبغي الاعتبار به
العذاب الإلهيّ: قال تعالى:﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ النازعات، والعذاب الإلهيّ يجري وفق سنن أودعها الله في الوجود، والمؤمن المعتبر إذا وعاها وفهمها درأ العذاب عن نفسه.
قصص الماضين: قال تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ يوسف.
ويعظ أمير المؤمنين عليّ t بقصص الماضين فيقول: ﴿وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة؟! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين، وأطفؤوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبّارين﴾﴿[20]﴾.
تعاقب الليل والنهار: قال تعالى:﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ النور.
فهذا التعاقب لليل الذي جعله الله للناس سكناً وللنهار الذي جعله الله معاشاً عبرةٌ لأهل البصائر، وقد قال عليّ u: ﴿في تعاقب الأيّام معتبر للأنام﴾.
القبور: هذه الشواهد الصامتة الجامدة التي تعظ بما لا يعظه الأحياء فعن عليّ u لمّا تلا:﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ التكاثر، وعن أبي سعيد الخدري t قال قال رسول الله r إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة﴾﴿[21]﴾
﴿أفبمصارع آبائهم يفخرون؟ ... ولأنّ يكونوا عبراً أحقّ من أن يكونوا مفتخراً... ولئن عميت آثارهم وانقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت عنهم آذان العقول، وتكلّموا من غير جهات النطق﴾.
الموتى: فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله. كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادما للذات، وقاطعاً للأمنيات فيا جامع المال! والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مالك إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين الذي جمعته من المال؟ هل
أنقذك من الأهوال؟ كلا. بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
يا كثير السيئات غداً ترى عملك، ويا هاتك الحرمات إلى متى تديم زللك؟ أما تعلم أن الموت يسعى
في تبديد شملك؟ أما تخاف أن تؤخذ على قبيح فعلك؟ واعجبا لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك!! أين فطنتك ويقظتك وتدبير عقلك؟ أما بارزت بالقبيح فأين الحزن؟ أما علمت أن الحق يعلم السر والعلن؟ ستعرف خبرك يوم ترحل عن الوطن، وستنتبه من رقادك ويزول هذا الوسن. قال يزيد بن تميم: ﴿من لم يردعه الموت والقرآن، ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع!! ﴾.
كانَ عُثمانُ بنُ عفَّانَ إذا وَقفَ على قَبرٍ يبكي حتَّى يبَلَّ لحيتَهُ، فقيلَ لَهُ: تذكرُ الجنَّةَ والنَّارَ، ولا تبكي، وتَبكي مِن هذا؟ قالَ: إنَّ رسولَ اللَّهِ r، قالَ: إنَّ القبرَ أوَّلُ مَنازلِ الآخرةِ، فإن نجا منهُ، فما بعدَهُ أيسرُ منهُ، وإن لم يَنجُ منهُ، فما بعدَهُ أشدُّ منهُ قالَ: وقالَ رسولُ اللَّهِ r: ما رأيتُ مَنظرًا قطُّ إلَّا والقَبرُ
أفظَعُ منهُ ﴿[22]﴾
تشابه أحوال الدنيا: فالدنيا حالها مع الماضين كحالها مع المقيمين الحاضرين كحالها مع من سيأتي إليها مستقبلاً، تجري سُننها على الجميع مجرًى واحداً فعن عليّ t: ﴿كفى مخبراً عمّا بقي من الدنيا ما مضى منها﴾.
أحداث الزمان: عن عليّ t: ﴿ثمّ إنّ الدنيا دار فناء وعناء، وغِيَر وعبر... ومن غِيَرِها أنّك ترى المرحوم مغبوطاً، والمغبوط مرحوماً، ليس ذلك إلّا نعيماً زال وبؤساً نزل، ومن عبرها أنّ المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله﴾، وما أبلغ تعبيره عن غفلة المرء بأمله عن أجله فإذا بحضور الأجل يبدد آمال الحالمين ويقطعها، إلّا أنّ العبرة تبقى نافعة لأولي العقول كما قال t: ﴿في تصاريف القضاء عبرة لأولي الألباب والنهى﴾﴿[23]﴾.
اعتبار المرء بعمره: عن عليّ u -من كتابه إلى معاوية: ﴿لو اعتبرت بما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي﴾، فالمرء لو نظر في سيرة نفسه وتحدّيات أيامه ووقف منها موقف المعتبر المتأمل لكان ذلك نافعاً له في سلامة ما بقي من عمره.
البلايا والنذر: فقد يغفل المرء عن بعض التفاصيل في حياته فلا يعتبر بها، أمّا وأن يغفل عن الأمراض والفقر والزلازل والعقوبات الإلهيّة وتفشي الفساد وتسلّط الطغاة فهذا من أعظم العمى، وهذا عليّ t يقول: ﴿واعتبروا بالغِيَر، وانتفعوا بالنُّذُر﴾.
الاعتبار بإبليس: وفي قصّة إبليس عبرة من أضاع عبادته لله بلحظة عصبيّة، وأعمته الأنا عن
الله، وهي عبرةٌ قد تصيب -وهي تصيب -الكثيرين، ويشير إليها عليّ u بقوله: ﴿فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد﴾.
اعتبر يا أيّها المغرور بالعمر المديد | ** | أنا شدّاد بن عاد صاحب الحصن المشيد | |
وأخو القوّة والبأساء والملك الحشيد | ** | دان أهل الأرض طرّا لي من خوف الوعيد
| |
وملكت الشّرق والغرب بسلطان شديد | ** | فأتى هود وكنّا في ضلال قبل هود | |
فدعانا لو قبلناهُ إلى الأمر الرّشيد | ** | فعصيناه ونادى ما لكم هل من محيد | |
فأتتنا صيحة تهـوي من الأفق البعيد | |||
كل يوم هو في شأن: يقول الله سبحانه متحدثا عنه ذاته -جل جلاله -﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾[الرحمن: 29]. قال الزمخشري -رحمه الله -عن ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهى والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع، والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء والحساب.
كم من فقير مسلم هام على وجهه، وكم من مشرد كان له بيت فصار بلا مسكن ولا مأوى، وكم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر، وكم من حرة عفيفة هتك سترها كافر عتل غليظ، وكم من بلد استبيحت حرمته وسلبت أراضيه، وكم من أرض أحرقت ظلماً لا لشيء إلا لأن أهلها يقولون: ربنا الله، كم وكم من الصور المؤلمة حملها عامنا الذي سيرتحل في حقيبته.
هي الأيام كما شاهدتها دولٌ | ** | من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ |
وهذه الدار لا تبقي على أحد | ** | ولا يدوم على حال لها شانُ
|
وأين ما حازه قارون من ذهب | ** | وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ |
أتى على الكل أمر لا مرد له | ** | حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا |
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%
تعليقات: (0) إضافة تعليق