لتحميل الخطبة #pdf برجاء الدخول إلى الرابط التالي
ولتحميل الخطبة #word برجاء الدخول إلى الرابط التالي
الحمد لله رب العالمين سبحانه سبحانه سبحان الذي في السماء عرشه، سبحان الذي في الأرض حكمه، سبحان الذي في القبر قضائه، سبحان الذي في البحر سبيله، سبحان الذي في النار سلطانه، سبحان الذي في الجنة رحمته، سبحان الذي في القيامة عدله.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة من قال ربى الله ثم استقام تقرب لعباده برأفته ورحمته، ونور قلوب عباده بهدايته،
سبحان من ملأ الوجود أدلة ليلوح ما أخفى بما أبداه
سبحان من ظهر الجميع بنوره فيه يرى أشياء من صفاه
سبحان من أحيا قلوب عباده بلوائح من فيض نور هداه
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
والله ما في الخلــق مثل محمد | ** | في الفضل والجود والأخلاق |
فهو النبي الهاشمـي المصطفى | ** | من خيرة الأنساب من عدنان |
لو حاول الشعراء وصف محمد | ** | وأتـو بأشعار مـن الأوزان |
ماذا يقـول الواصفـون لأحمد | ** | بعد الـذي جاء في القـرآن |
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
العناصر
أولاً: ثمرات التضحية
ثانيًا: أنواع التضحية
ثالثًا: الأسباب التي تعين على التضحية والأسباب التي تعوقها
رابعًا: عقوبة الامتناع عن التضحية
الموضوع
معنى التَّضْحية لغةً:
التضحية مصدر ضحَّى يقال: ضحَّى بنفسه أو بعمله أو بماله: بذله وتبرع به دون مقابل. وهي بهذا المعنى محدثة ([1])
معنى التَّضْحية اصطلاحًا:
هو بذل النَّفس أو الوقت أو المال لأجل غاية أسمى، ولأجل هدف أرجى، مع احتساب الأجر والثواب على ذلك عند الله عزَّ وجلَّ، والمرادف لهذا المعنى: الفداء. ومن معانيها: البذل والجهاد.
أولاً: ثمرات التضحية
1-الفوز العظيم
قال تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾[التوبة: 111]، فطلب منا التضحية ولنا الجنة
2-وعده الله بدخول الجنة
قال تعالى: )وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا( [الإنسان]
وعن سبرة بن الفاكه t قال سمعت رسول الله r يقول: )إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال تسلم وتذر دينك ودين آبائك فعصاه فأسلم فغفر له فقعد له بطريق الهجرة فقال له تهاجر وتذر دارك وأرضك وسماءك فعصاه فهاجر فقعد بطريق الجهاد فقال تجاهد وهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد فقال رسول الله r فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة(([2])
3-هم المفلحون
قال تعالى) وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( [الحشر: 9]
4-العبادات كلها تعلمنا التضحية:
• شهادة أن لا إله إلا الله، استسلام لمنهج الله، فعليها نحيا وفي سبيلها نجاهد وعليها نموت وعليها نلقي الله.
• الصلوات الخمس تضحية بكل ما يشغلنا عن الصلاة من كسب مادي أو طعام أو لهو أو غير ذلك.
• الصيام تضحية بمتعة الطعام والشراب والشهوة.
• الزكاة تضحية بالمال الذي تميل إليه النفس.
• الحج تضحية بمفارقة الوطن والأهل، وبتحمل مشاق السفر، وبالإنفاق لأداء المناسك.
5-حصول شرف التأسي بالنبي r وهي أمارة أيضاً على قوة الإيمان
قال تعالى:) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(الاحزاب
وعن أنس قال: قال رسول الله r: ) لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت على ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال ( ([3])
6-الرزق الواسع
قال تعالى: ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( [سبأ: 39]
7-المغفرة والرحمة
قال تعالى: ) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( [آل عمران: 157]
8-لا يضيع الله اجر المحسنين
قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 120، 121].
9-ما يترتب على التضـحـيـة والجهود المبذولة من ثمرات ومنافع وهداية لا تخطر ببال صاحبها
ولا يعلم مداها إلا الله ـ تعالى ـ، مـصـداق حديث النبي r: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مــــن تـبـعـــــه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"([4])
10-التضحية المحمودة والمذمومة
تكون التضحية محمودة إذا كانت لله تعالى وفي سبيله
أما عن كانت غير ذلك فهي مذمومة
فعن أبي مُوسَى الأَشْعَرِىُّ أَنَّ رَجُلاً أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ -r-فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- ) مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ أَعْلَى فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( ([5]).
ثانيًا: أنواع التضحية
1-التَّضْحية بالنَّفس وهي من أعلى مراتب التَّضْحية:
أ-مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ
عن أَبي هريرة - t -عن رسول الله - r - ، أنَّه قَالَ : (( مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لهم رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ في سَبيلِ الله، يَطيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزعَةً ، طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي القَتْلَ ، أَوْ المَوْتَ مَظَانَّه ، أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيمَةٍ في رَأسِ شَعَفَةٍ مِنْ هذِهِ الشَّعَفِ ، أَوْ بَطنِ وَادٍ مِنْ هذِهِ الأَوْدِيَةِ ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَيُؤتِي الزَّكَاةَ ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يأتِيَهُ اليَقِينُ ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ فِي خَيْرٍ )) ([6]) .
((يَطِيرُ)): أيْ يُسْرعُ. وَ ((مَتْنُهُ)): ظَهْرُهُ. وَ ((الهَيْعَةُ)): الصوتُ للحربِ. وَ ((الفَزعَةُ)): نحوه. وَ ((مَظَانُّ الشَيْءِ)): المواضعُ الَّتي يُظَنُّ وجودُهُ فِيهَا. وَ ((الغُنَيْمَة)) بضم الغين: تصغير الغنم. وَ ((الشَّعَفَةُ)) بفتح الشين والعين: هي أعلى الجَبَل.
ب-أبو طلحة
عَنْ أَنَسٍ t قَالَ:" لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ r؛ وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ r مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ؛ وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ؛ كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؛ وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ بِجَعْبَةٍ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ. قَالَ: وَيُشْرِفُ النَّبِيُّ r يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ"([7])
يجودُ بالنَّفسِ، إذ ضنَّ البخيلُ بها والجودُ بالنَّفسِ أقصى غايةِ الجودِ
ج-سحرة فرعون
الذين أقبلوا إلى فرعون أقبلوا إليه لاهثين راغبين في المال والجاه )قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ( [الأعراف: 113-114].
فلما ألقوا حبالهم وعصيهم وحاولوا أن يظهروا سحرهم ألقى موسى -- عصاه فإذا هي حية تسعى، إذا هي حية تلقف ما يأفكون
قال تعالى: )وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ( [الأعراف:: 120-124].
فجعل يهددهم بأنواع التهديد فإذا بالتضحية في سبيل الله تعالى، وبذل النفس والروح؛ لأجل أن تعلى كلمة الله تعالى ولأجل أن ترفع راية الدين والتوحيد تكون هي الظاهرة في قلوبهم
قال تعالى:) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى( [طه: 72-73].
قال ابن عباس t:"كانوا في أول النهار سحرة فجرة وصاروا في أخر النهار شهداء بررة".
إنه التضحية في سبيل هذا الدين.
2-التضحية بالمال
قال تعالى: )وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ( [الحديد: 10-11].
وقال تعالى: ) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( [البقرة: 245].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :)كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -r- أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَلْقَاهُ فِى كُلِّ سَنَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -r- الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -r- أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ( ([8]).
وهذا صهيب الرومي -t-لما وقر في قلبه الإسلام وجعلت قريش تضايقه كما تفعل مع بقية المسلمين حتى إذا كانت في يوم من الأيام بعدما هاجر أكثر المسلمين إلى المدينة جمع عليه متاعه وأخذ معه سيفه ورمحه وسهامه ثم مضى ليهاجر كما هاجر المسلمون ثم تبعه نفر من قريش قالوا له: أتيتنا صعلوكًا لا مال لك ثم تخرج الآن من بيننا، والله لا تخرج من بيننا.
فصعد على جبل ونثر سهامه بين يديه وقال يا قريش: والله لقد علمتم أني أصوبكم رميًا والله لا تصلوا إليَّ حتى أقتل منك بعدد هذه السهام.
فتحيروا وهم ينظرون إليه فلما طال بهم المقام وطال بهم الانتظار وهو لا يستطيع النزول وهم لا يجاوزن مكانهم، قال لهم صهيب: ألا أدلكم على شيء خير من أن تمسكوني عندكم؟ قالوا: ما هو؟ قال: أدلكم على موضع مالي في مكة فتذهبون إليه فتحوزونه إليكم كله ولا تدعون لي منه شيئا.
يضحي بهذا الوقت الذي جمع فيه كل ماله في سبيل أن يمكنوه من الهجرة إلى رسول الله -r-، قالوا له: افعل ذلك، قال لهم: اذهبوا إلى موضع كذا تجدوا لي فيه مالا، واذهبوا إلى فلان فإني قد وضعت عنده مالا، واذهبوا إلى فلان فإن لي عنده ثياب، واذهبوا إلى فلان فإني... وجعل يدلهم على مواضع ماله حتى إذا وثقوا منه جمع سهامه ونزل وأقبل إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
فلما رآه النبي -r-وقد نبأه خبر السماء بقصة صهيب قبل أن يصل إلى المدينة قال -عليه الصلاة والسلام-: "ربح البيع أبا يحيى. ربح البيع أبا يحيى. ربح البيع أبا يحيى"، وجعل -عليه الصلاة والسلام-يكررها حتى وقف صهيب بين يديه بأبي هو وأمي r.
3-التضحية بالوقت والجهد
إنَّ الوقت هو عُمر الإنسان، ورأس مالِه في هذه الحياة؛ ذلك أنَّ كلَّ يوم يمضي على الإنسان يأخذ من عُمره ويُقَرِّبه إلى أَجَلِه، فكان حري بالعاقل أن يستغلَّ ويمضي هذا الوقت الذي مَنَحَهُ الله إياه فيما يرضي ربه، وأن يحقِّق لنفسِه السعادة في الدُّنيا والآخرة.
وعن ابن عباس -t-: أنَّ النبي -r -قال: )نِعْمَتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ(([9])
فالسَّاعات أغْلَى من أن تُنفَق في أحاديثَ فارغة، أو مجالس غيبة، لا يتحرى فيها المسلمُ الصِّدق، ولا يأمر فيها بالمعروف، وكما قيل: الأيَّامُ ثلاثةٌ: الأمسُ قد مضى بما فيه، وغدًا لَعَلكَ تُدركه، وإنَّما هو يومكَ هذا، فاجتهد فيه.
قال يحيى بن معاذ: " إضاعةُ الوقت أشدُّ منَ الموت؛ لأنَّ إضاعةَ الوقت انقطاعٌ عن الحقّ، والموتُ انقطاعٌ عن الخلق".
وسَأل الفُضيل بن عِياض -رحمه الله -رجلاً، فقال له: كم عمرك؟ فقال الرجل: ستُّون سنة، فقال الفضيل: فأنت منذُ ستين سنة تسير إلى ربكَ، تُوشك أن تصل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: مَن عرف أنَّهُ عبد لله، وأنَّه راجعٌ إليه، فليعلم أنهُ موقوفٌ ومسؤولٌ، فليعدَّ للسؤالِ جوابًا، فقال الرجلُ: ما الحيلةُ؟ فقال الفضيل: يسيرة، تُحسنُ فيما بقيَ، يُغفر لك ما مضى، فإنَّكَ إن أسأتَ فيما بقيَ، أُخذتَ بما مضى وما بقي.
أ-تضحية النبي r بوقته وتحمله أذى قريش
إن التضحية -أيها الإخوة المؤمنون-هي من أعظم وأكبر المظاهر التي ربانا عليها نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإذا نظرت في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-في رجوعه من الطائف بعدما كبته أهلها، ففي سجوده عند الكعبة فيقبل أشقى القوم بفرث الدواب وهو ما يخرج من الدابة عند الولادة يقبل ويضعه على رقبة النبي عليه الصلاة والسلام.
لولا أنه ضحى -r- ضحى بوقته وماله وتحمل أذى قريش لما قام للإسلام راية.
ب-نبي الله نوح
u قال تعالى: )قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا( [نوح: 5-88]
فكان يضحّي بوقته وجهده وفراق أهله وبلده وولده لأجل أن يعلي راية الله تعالى.
ج-أبو هريرة t
ضحى بوقته فكان يلزم رسول الله -r-..
عن أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللهِ r وَاللهُ الْمَوْعِدُ إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مِسْكِينًا، أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ r عَلَى مِلْءِ بَطْنِي وَكَانَ الْمُهَاجِرونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ r ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ: مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي، ثُمَّ يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ"([10])
يلزمه لا يفارقه كل الوقت معه يضحي بوقته في سبيل حفظ الحديث للأمة،
وعن أبي هريرة t قال: )يقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث والله الموعد ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وإن أخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول الله r على ملء بطني فأحضر حين يغيبون وأعي حين ينسون وقال النبي r يوما (لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئا أبدا). فبسطت نمرة ليس على ثوب غيرها حتى قضى النبي r مقالته ثم جمعتها إلىى صدري فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئا أبدا {إن الذين يكتمونن ما أنزلنا من البينات -إلى قوله -الرحيم}( ([11]).
فلولا أنه ضحى بوقته لما كانت مثل هذه الأحاديث تصل إلينا.
ج-النفقة على الأولاد وتربيتهم
لولا أن الإنسان الأب يضحي بوقته وجهده وتعبه لما استطاع أن ينفق على أولاده.
ولولا أن المرأة التي يعاملها زوجها معاملة سيئة تضحي براحتها، تضحي ربما أحيانًا بكراماتها فتتحمل إهانته وسوء تعامله ما كانت تربي أولادها في بيت فيه أب وأم وإنما سارعت في طلب الطلاق أو الخلع أو الفسخ منه.
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى جُزْءٌ مِنَ العُمُرِ
بكَيْتُ عَلَى الشَّبَابِ بِدَمْعِ عَيْنِي فَلَمْ يُفِدِ البُكَاءُ وَلاَ النَّحِيبُ
أَلا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا فَأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ
4-التضحية للوطن
أ-حب الوطن:
عن عبد الله بن عدي بن حمراء t قال: رأيت رسول الله r واقفا على الحزورة فقال: " والله إنك لخير أرض الله وأحب الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " ([12])
ب-الدعاء له:
عن أنس بن مالك t قال قال رسول الله r لابي طلحة التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني فخرج أبو طلحة يردفني وراءه فكنت أخدم رسول الله r كلما نزل قال ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال هذا جبل يحبنا ونحبه فلما أشرف على المدينة قال اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة ثم قال اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم " ([13])
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها لنا وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة " ([14])
ج-العمل من اجله حتى في أحلك الظروف:
عن أنس t عن النبي r قال: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" ([15])
وعَنْ أَنَسٍ t قَالَ: " قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ r بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، ... "([16]).
د-التكافل والتراحم والتآخي والتآزر والتالف بين أبنائه
عن عبد الله بن عمر t أن رجلا جاء إلى رسول الله r فقال يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله فقال أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهرا ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضى ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام" ([17])
ذ-عدم ترويج الإشاعات والفتن
فقد قال تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾(الحجرات 6).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ " ([18]).
ر-الشهادة في سبيل الله دفاعا عن الوطن
فالشهادة تعنى بذل النفس والمال نصرة لدين الله عز وجل ودفاعا عن الوطن والأرض والعرض والمال فعن سعيد بن زيد t قال سمعت رسول الله r يقول من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دونن دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد. ([19])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ هُوَ فِي النَّارِ" ([20]).
5-التضحية للعبادة
وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 77، 78]
6-التضحية بمتاع الدنيا
أ-زوجات النبي r تركن متاع الدنيا بعد ان عرض عليهن رغبة في متاع الآخرة فهو خير وأبقى
قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)( الأحزاب.
ب-مصعب بن عمير
لما اقتنع بداخله بسلامة الدين والتوحيد وبخطأ ما عليه قومه أقبل مبايعًا للنبي -عليه الصلاة والسلام-فحرمته أمه من كل شيء كانت تعطيه إياه؛ من المال والمتاع والتجارة والثياب والطعام والرائحة الحسنة وما شابه ذلك من أنواع النعيم حتى إنه كان ساترا ممكنا منعما مرفها من أحسن وأجمل وأرفه شباب مكة.
فترك كل ما كان فيه من نعيم ضحى به في سبيل التمسك بالتوحيد، حتى إذا أسلم نفر من أهل المدينة على يد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-طلبوا رجلا يسافر معهم إلى المدينة؛ ليعلمهم الدين فاختاره النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا به يضحّي إضافة إلى ما ضحى به من أمواله وعزه التي كانت أمه تعطيه إياه، يضحي -أيضًا-بالبلد التي نشأ فيه وترعرع فيه ومشى على أرضه وأكل من ثماره وصاحب أهل... يضحي بكل ذلك.
ويمضي إلى المدينة وبعد سنة واحدة يقيم فيها، أول جمعة أقيمت في الإسلام أقامها مصعب، ثم يعود بعد سنة إلى رسول الله -r-ومعه أكثر من سبعين ما بين رجل وامرأة كلهم قد أسلموا على يده.
فالتضحية التي ضحاها جعل بها دولة للنبي -r-في المدينة تستقبله لما يهاجر إليها.
فعن خَبَّاتٍ t قَالَ: )هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ r نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُميْرٍ؛ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ r أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ(([21])
فانظر كم من الوقت الذي ضحى به في سبيل نشر دين الله تعالى.
7-التضحية للدين
عن صهيب أن رسول الله r قال: (كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاما أعلمه السحر فبعث له غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه وأعجبه فكان إذا الساحر ضربه وإذا رجع من عندد الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه فشكا ذلك إلى الراهب فقال له: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم: الراهب أفضل أم الساحر؟ فأخذ حجرا ثم قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي سائر الأدواء فسمع جليس للملك - كان قد عمي - فأتى الغلام بهدايا كثيرة فقال : ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني قال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك يمشي يجلس إليه كما كان يجلس فقال الملك : فلان ! من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك واحد فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ؟ قال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشق به حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل : ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله فدفعه إلى قوم من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور فوسطوا به البحر فلججوا به فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله فقال للملك : وإنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتك ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد ثم صلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد قوسه ثم قال : بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في موضع السهم فمات فقال الناس : آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ثلاثا فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أمه اصبري فإنك على الحق )([22])
8 -التضحية بالصبر والاحتمال وكظم الغيظ. وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 -التضحية بالخلق الحسن والبشاشة والبسطة. وهو أعظم مما قبله.
10 -التضحية بـتـرك مـــا في أيدي الناس، وترك الالتفات إليه والتعرض له بالحال أو اللسان.
11-التضحية بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وهذا زكاة الجاه.
12 -التضحية بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كخدمة بدنية، وكلمة طيبة، وفكرة نافعة.
13 -التضحية بالعِرض، والتصدق على من شتم أو قذف أو اغتاب.
ويتاح للفقير أن يضحي بجوانب أخرى تكون الدعوة -في بعض الأحايين -أشد احتياجــــاً إليها من المال، وهذا مما لا يتاح للغني ذي الوفرة من المال الذي تشغله تنمية ماله؛ فإذا تـصـــــدق بشيء منه اكتفى به عن الجود بغيره. ثم للفقير أن ينال مثل أجره بحسن نيته، وصدقه فيها مع الله ـ تعالى ـ كما أخبر النبي r عن الغني الجواد والفقير المتمني للغنى ليعمل مثل عمله فقال: "فهما في الأجر سواء"([23]) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والنية أمر يعلمه الله من القلوب، ولكن من أدلتها الظاهرة الحرص على إنفاق القليل حال الضراء.
وكما يقع الجود من الأفراد فإنه أيضاً يحصل من المجتمعات والدعوات والجماعات.
أيها المسلمون إن هؤلاء الذين استطاعوا أن يضحوا، أن يبذلوا، أن يجعلوا راية الإسلام هي أهم عنده من أنفسهم، أهم عليهم من أموالهم، أهم عليهم من بيوتهم، أهم عليهم من أولادهم، أهم عليهم من عزهم وشرفهم.
هم الذين قام عليهم الدين، هم السلم الذي رفعت عليه راية الله -جل وعلا-حتى سار للدين مكانا وحتى فتحت بسببهم بلدان. أما الذين لم يضحوا ولم يستطيعوا أن يخرجوا أنفسهم من وحل الدنيا فإنهم يتردون في نار جهنم؛ لأنهم أثاروا الحياة الدنيا واستحبوها على الآخرة.
ثالثا: الأسباب التي تعين على التضحية والأسباب التي تعوقها
أ-الأسباب المعينة على التضحية
أيها الإخوة الكرام: إن من ينظر في حال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-وحال الأنبياء من قبله يجد أن الذي وقَر في قلوبهم من أسباب جعلتهم -فعلا-يستطيعون البذل والتضحية أول ذلك:
1-الثقة بالطريق الذي يسيرون عليه. الإنسان لو لم يثق أنه لو بذل ماله سيؤجر لما بذل ماله؛ فلماذا أوزع مالي الذي تعبت في جمعه، أوزع على الناس من الفقراء وأنا أعلم أنه لا ثواب لي، إذًا أزيد فيه نفسي نعيمًا أنا وولدي.
لكن لما يكون عنده ثقة في الطريق الذي يسير عليه، أنا أبذل مالي؛ لأن عندي ثقة تامة أن الله -تعالى- سوف يعوضني خيرا وسوف يأجرني كما قال -تعالى-: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران 159] لماذا (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل 79]، (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة 24].
إذا قدم الإنسان لذات نفسه على الطريق الذي يسير عليه دل هذا أنه يشك في صحة هذا الطريق، ما دمت واثقا بأنك إن بذلت نفسك إن بذلت جهدك إن بذلت مالك إن بذلت خبرتك إن بذلت نصيحتك إن بذلت علمك أنك مأجور عند الله -تعالى-فهذا يجعلك تضحي وأنت واثق بصحة الطريق.
2-الثقة بأن الله -تعالى-يعطي الإنسان خيرا مما بذل، كما قال الله جل وعلا: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ثم قال (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ 39].
إذا كان الرزق الذي آتاك الله تعالى إياه بذلته وأنفقته فاعلم وثق ثقة تامة أن الله تعالى سيعوضك خيرا، إن لم يعوضك مالا فسوف يعوضك سلامة في بدنك، فبدل ما تبذل المال وينقص مالك في سبيل الطب والعلاج يكفيك الله -تعالى-الأمر فيبارك في مالك يحفظ لك، يسلمك في دابتك، يسلمك في بيتك، في سيارتك، في شأنك.
بحيث إنك لما ما بذلت مائة ريال فقد قدر عليك أنت أن يصيبك شيء في سيارتك فتنفق ربما خمسمائة ريال سيكفيك الله -تعالى-هذه المصيبة في سبيل ذلك المال.
أنت تتعامل مع رب رحيم، وإذا بذلت جاهك اعلم أن الله -تعالى-يؤجرك ويرفعك.
قال حكيم بن حزام t وقد أقبل إليه رجل يستشفع به عند أخر، ابن حزام صحابي جليل له شأنه.
أقبل هذا الرجل يطلب شفاعته؛ لأن له جاه يطلب شفاعته عند رجل فقال له حكيم: هذه يدي في يدك فلنمضي إليه، فأخذ الرجل في أثناء الطريق يعتذر كأنه يقول له: كلفتك، قطعتك عن مشاغلك، أتعبتك معي.
فقال له حكيم: "يا رجل والله إنا نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة، فلابد أن أبذل منه".
3-مما وقر في قلوب الأنبياء: أنهم كانوا يبحثون دائما عن أتباع يعيشون معهم؛ ليتعاونوا على البر والتقوى كما قال الله -جل وعلا-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الكهف 28] يعني كن دائمًا مع الصالحين القانتين المقبلين لتتعاون معهم على البر والتقوى.
إذا كان -عليه الصلاة والسلام-في أوائل الإسلام يطوف على القبائل يقول: "من يؤويني لأبلغ رسالة ربي"، أريد دولة تؤويني، أريد مجتمعا أتعاون معه على نشر الدين، من يؤويني لأبلغ رسالة ربي؛ فإن قريش منعتني أن أبلغ رسالة ربي. حتى بعد ذلك كون -r-له دولة إسلامية في المدينة.
فأنت إذا أردت فعلاً أن تتعلم البذل والتضحية فليكن الذين تسير معهم وتجالسهم وتصاحبهم من هذا الجنس فعن أَبي سعيد الخدري t عن النَّبيّ r قَالَ : (( لا تُصَاحِبْ إلاَّ مُؤْمِناً ، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إلاَّ تَقِيٌّ ))([24])
يعني لا تصاحب إلا المؤمن الذي عنده من الإيمان ما يجعله ما يكون همه نصرة الدين والتضحية والبذل من خلاله.
4-عدم الانكباب على الدُّنيا.
5-التَّخلُّص من الرُّوح الانهزاميَّة.
قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
6-حبُّ الآخرين.
7-التَّحلِّي بالشَّجَاعَة والإقدام.
8-التَّحلِّي بعلو الهمَّة.
9-التَّحلِّي بالكرم وعدم البخل.
10-مصاحبة أهل الخير والرِّفعة، الذين ينفقون أموالهم ودماءهم في سبيل نصرة دين الله.
11-اليقين الجازم بما أعدَّه الله لعباده المجاهدين في سبيله، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39].
وقال أيضًا: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران: 157].
12-قصر الأمل في الدُّنيا.
13-القراءة في أخبار السَّلف الصالح، والنَّظر في تضحياتهم بالنَّفس والمال، لنستلهم العبرة من أخبارهم ونقتدي بهم.
ب-الأسباب المعيقة لها
1-عدم الإخلاص لله في العمل.
2-حبُّ النَّفس والأثرة.
3-الانغماس في اللَّهو والتَّرف والدعة.
4-إساءة الظنِّ وعدم الثِّقة.
5-ضعف الإيمان، والتَّفكير في الرِّزق الذي يقعده عن الإنفاق والتَّضْحية بالمال، والخوف من الموت الذي يقعده عن الجهاد والتَّضْحية بالنَّفس.
6-التَّعلق بالدُّنيا وزينتها، والتثاقل إلى الأرض.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 38-39].
إنَّها ثَقْلة الأرض، وثَقْلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللَّذائذ والمصالح والمتاع. ثَقْلة الرَّاحة والاستقرار. ثَقْلة الذَّات الفانية، والأجل المحدود، والهدف القريب. ثَقْلة اللَّحم والدَّم والتراب.
7-البخل، وعدم الإنفاق في سبيل الله:
قال تعالى: هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38].
وقال تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف: 10-11].
رابعًا: عقوبة الامتناع عن التضحية
1-الحرمان من دخول الإسلام
ا-هرقل
بعث النبي -r-إلى هرقل كتابا مع دحية بن خليفة الكلبي -رضي الله تعالى-عنه فقرأ الكتاب ثم جمع إليه من كان من أهل مكة تجارا في دمشق في الشام فجيء بهم إليه فسألهم عن النبي -عليه الصلاة والسلام-أسئلة حتى استقر في قلبه أن النبي -r-هو رسول حقا، وأنه الذي بشرت به من قبل الأنبياء، وأنه الذي أمرهم موسى باتباعه وأمرهم عيسى باتباعه، وأنه النبي الذي كان ينتظره أهل الكتاب.
أيقن هرقل ذلك بقلبه إيقانًا تامًّا وقرأ عليه كتاب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وإذا به ) مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ -يعني عليك إثم قومك- (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ([آل عمران 64]" ([25])
قرئ عليه الكتاب وأيقن في داخله يقينًا تامًّا لا شك فيه أن النبي -r-على حق، لكن هل عنده استعداد أن يضحّي بملكه؟ هل عنده استعداد أن يضحّي بقصره؟ هل عنده استعداد أن يضحي بماله؟ هل عنده استعداد ربما يضحي بنفسه لو قتله قومه؟
وإذا بهرقل يوازن بين هذا وبين الإسلام فتميل نفسه إلى ما هو فيه من عز ويلتفت إلى أبو سفيان -وكان أبو سفيان من التجار المكيين الذين جيء بهم إليه ليسألهم-فقال: "والله كنت أعلم أنه خارج" أن هذا النبي سيخرج بالناس في الأمة كما بشر به الأنبياء من قبل.
"كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أعلم أنه منكم، ووالله لو كنت أعلم أني أخلص إليه لغسلت عن قدميه بالماء فجئت إليه ذليلاً منكسرًا".
ثم أخرجهم من بين يديه ولم يؤمن برسول الله -عليه الصلاة والسلام-، لم يستطع أن يضحي بملكه وبأمواله بل ولا في نفسه في سبيل الدين، ومات كافرا عياذا بالله.
ب-أبو طالب
كان مؤمنًا في داخله مصدقًا في داخله أن النبي -r-على حق وكان يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا
لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً *** لَوَجَدتَني سَمحًا بِذاكَ مُبينا
لم يستطع أن يضحي بصداقاته من قومه يخاف أن يلوموه وأن يسبوه، هو أهل شرف في قومه لم يستطع أن يضحي بهذا الشرف ويتلقى بأنواع من الإهانة والسخرية كما يفعل مع بعض المسلمين، ما استطاع أن يضحي حتى مات كافرًا.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r-قَالَ «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» ([26]). ما استطاع أن يضحي.
2-نعى القرآن على مَن لا يضحِّي:﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‘وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾[الأعلى: 16].
3-العقاب الأليم
إن للقاعدين عن التضحية من غير عذر عقابًا أليمًا
قال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[التوبة: 38، 39].
وقال تعالى لرسوله r أن يقول للمنافقين:﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾الفتح:
4-هم الفاسقون
وقال تعالى:﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾[التوبة: 24].
5-البخيل هو من لا يضحي
قال جل شأنه:﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾[محمد: 38].
6-متاع الدنيا قليل
قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾[النساء: 77].
7-الشيطان يعد بالفقر والخزي في الدنيا والآخرة
قال تعالى: ((الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)) [البقرة: 268].
8-حال بعض الناس اليوم مع التضحية
أ-بعض الناس يسمع الأذان لصلاة الفجر ولا يستطيع أن يضحي بنومه ويقدم نومه على الصلاة.
ب-بعض الناس اليوم تجد أنه يجلس أمام شاشة من الشاشات سواء حاسب آلي أو تلفاز، ثم يعرض أمامه ما حرم الله ولا يستطيع أن يضحي بهذه النظرة لأجل الله فيقدمه على مراد الله، ويستمتع بها -وإن علم أن الله نهى عن ذلك-فيستهين بمراقبة الله له.
د-يسمع الآيات والأحاديث تقرع سمعه تصل إلى قلبه ولا يستطيع أن يضحي بهذا المال، ربح يدخل عليه بالمقدار الفلاني أو يجلب إليه الزبائن يبيع دخانًا أو يبيع مجلات فاسدة أو ربما في بعض البلدان يبيع الخمور والمسكرات أو بعض الناس يبتلى ببيع المخدرات، فإذا وعظ وذكر لم يستطع أن يذبح هواه في سبيل الله تعالى.
ر-عنده أموال لا يستطيع أن يقود نفسه للتضحية بها، يقدم هذا المال وهذه الشهوة التي يجمع عليه عقابها وحسابها وربما مات وتركها لغيره ممن لا يرفع كفه داعٍ له بالمغفرة أو بالرحمة.
ز-بعض الناس يكون له منصب في مكان محرم سواء في بنك ربوي أو في غير ذلك من الأعمال التي لا تجوز ويكون له شرف عند قومه ومنصب، ثم يذكر بالله تعالى ويطرق سمعه الأحاديث والآيات ولا يستطيع أن يضحي بهذا المنصب.
س-عنده منصب، عنده مال، عنده جاه، عنده ربما قناة فضائية يملكها يعرض فيها الفحش والفجور ومع ذلك إذا وعظ وقيل له: اتقِ الله، لكنه يعلم أنه إنما يجذب الناس إلى قناته ويشهرها ويظهرها بهذه البرامج الفاسدة فلا يستطيع أن يضحي بهذه البرامج. ربما يضع الأمر والنهي والشرع آخر اهتماماته، ولا يلتفت إليها، ينظر فقط إلى نجاح مشروعه، إلى نجاح قناته.
ش-بعض الناس بينه وبين أخيه هجر أو ضغينة ثم يقال له: يا فلان ادحر الشيطان وخيرهم الذي يبدأ بالسلام. اذهب إليه واعتذر عما بدر منك، وأعد المياه إلى مجاريها، واستعذ بالله من الشيطان إن الله يحب الإصلاح والشيطان يحثك على الفساد وعلى الضغينة. فلا يستطيع أن يضحي بعزة نفسه التي ربما ينفخ فيها الشيطان وفي غرور نفسه، فيقول: أنا أذهب أعتذر لفلان، أنا انزل نفسي إلى مستواه، ولا يستطيع أن يضحي، والنبي -عليه الصلاة والسلام-يقول: "يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا"؛ لأن من طبيعة بني آدم الكبر، قال: "فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"([29]) الذي يضحّي يبدأ بالسلام.
· وانت أيها المسلم بم ضحيت ؟؟؟؟؟؟؟ .
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
---------------------
تعليقات: (0) إضافة تعليق