العناصر: -
أولاً : لماذا التأريخ بالهجرة النبوية .
ثانياً : ولماذا الهجرة .
ثالثاً : الهجرة دليل على قوة الإيمان .
رابعاً : سرعة استجابة المسلمين لأمر الله .
خامساً : الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ ، وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ .
سادساً : تَوْزِيعُ الْمَهَامِّ الْمُحْكَمُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ.
سابعاً : رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ .
ثامناً : بِنَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَالْمُؤَاخَاةِ .
تاسعاً : وأخيراً ، وقفة للتأمل .
الموضـــــــــــــــــــــوع
أولاً : لماذا التأريخ بالهجرة النبوية .
يقولُ اللهُ - جلَّ وعلا- : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
والأربعةُ الحُرُمُ التي ذكرَهَا اللهُ ربُّ العالمين في هذه الآيةِ العظيمة: ثلاثةٌ سَرْدٌ وواحدٌ فردٌ، فأمَّا الثلاثةُ السَّردُ: فذو القِعدةِ وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّم، وأمَّا الفردُ: فهو رَجَب بين جُمادَى وشعبان.
وهذه الآيةُ العظيمةُ تدلُّ على وجوبِ الأخذِ بالحسابِ العربيِّ الهِجريِّ الذي اختارَهُ اللهُ ربُّ العالمين لهذه الأُمَّةِ الخاتِمَةِ، وتدلُّ على عدمِ اعتبارِ تقاويم وحساباتِ غيرِ هذه الأُمَّةِ العربيةِ المُسْلِمة، واللهُ ربُّ العالمين قد جعلَ هذا الأمرَ كذلك؛ لأنَّ اللهَ – جلَّ وعلا- بَعَثَ مُحمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- في أُمةٍ أُميَّةٍ لا تكتبُ ولا تَحْسِب.
وجعلَ اللهُ ربُّ العالمين - رحمةً بهذه الأُمة - علامةً على الشهرِ آيةً كونيةً تظهرُ بحيثُ لا يُماري في رؤيتِها أحد وهي القمر، فربطَ اللهُ ربُّ العالمين تقويمَ هذه الأُمَّة بهذه الآيةِ الكونيةِ الظاهرةِ، وأخذَ العلماءُ سلفًا وخَلَفًا بهذا الأمرِ، فلم يفارقهُ منهم أحد، وكُتُبُ الفقهاءِ مشحونة وكذلك أحكامُ الحُكامِ والقُضاة بتلكَ الأحكامِ التي ارتبطت بهذا التقويمِ الهجريِّ الذي اختارَهُ اللهُ ربُّ العالمين لهذه الأُمَّةِ الخَاتِمَة ، فجعلَ اللهُ ربُّ العالمين إلى ذلك ما يتعلقُ بالكفَّارات وما يتعلقُ ببعضِ انقضاءِ العِدَد، وَجَعَلَ اللهُ ربُّ العالمين ذلك دائرًا في هذه الأُمةِ على ألسنةِ فقهائِها وقُضَاتِها سواءً.
وقد كان مِن شأنِ بدءِ التاريخِ لهذه الأُمةِ المرحومة أنَّ عُمَرَ بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- في السنةِ السادسةَ عشرةَ أو السابعةَ عشرةَ مِن هجرةِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- جمع الأصحابَ فتشاوروا بأيِّ سنةٍ نبدأُ تاريخَنا الإسلاميَّ العربيَّ؟
فاختلفوا بينهم؛ فقال قائلٌ: نبدأُ بسنةِ ميلادِ النبي الأُميِّ العربيِّ - صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم .
وقال قومٌ : بل نبدأُ تاريخَنَا ببَعثةِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم .
وقال قومٌ : بل نبدأ التاريخَ بهجرةِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم .
وقال فريقٌ : بل نبدأُ التاريخَ بوفاةِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم .
فَرَجَّحَ عُمَرُ – رضوان الله عليه - بَدْأَ التاريخِ الإسلاميِّ بهِجرةِ النبيِّ الأُميِّ العربيِّ - صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم - ؛ لأنَّ هجرةَ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم - وَقَعَت في أولِ سنةٍ قامَ فيها كِيانُ أُمَّةٍ مُسْلِمةٍ وفي أَوَّلِ عامٍ مِن أعوامِ هجرةِ النبي -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم - قامَ على الأرضِ أوَّلُ كِيانٍ لأُمَّةٍ مُسْلِمة ، فمِن أَجْلِ هذا البُعدِ الزمانيِّ والبُعدِ المكانيِّ معًا بهذه الأوَّليَّةِ ؛ بأوَّليَّةِ الأُمةِ زمانًا ومكانًا بكيانٍ مُستقلٍّ مُتَحَقَقِ الوجود، مِن أجلِ ذلك رَجَّح عُمَر – رضوان الله عليه - أنْ يكونَ بَدْءُ تاريخِ هذه الأُمَّةِ المُسلمةِ هجرةَ النبيِّ الكريمِ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم .
ثمَّ شاورَ عُمَرُ – رضوان الله عليه – أصحابَهُ ؛ قال: فبأيِّ شهرٍ نبدأُ السنة؟
فقال بعضُهم: نبدأُ السنةَ بشهرِ ربيعٍ الأول، ففيه كانت هجرةُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم ، ولم يُهاجِر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم - في شهرِ المُحرَّمِ ، وإنما بدأت هِجْرَتُهُ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- الفعلية في يومِ السابعِ والعشرين مِن شهرِ صَفَر مِن السنةِ الرابعةَ عشرةَ مِن النبوة ، ثم نزلَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم - قُباءَ في يومِ الثامنِ مِن ربيعٍ الأول ، ثمَّ أقامَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم - أربعةَ أيامٍ بقُباء، ثم نَزَلَ طَيْبَةَ وهو الطيِّبُ المُطَيَّبُ - صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم
فاختارَ قومٌ مِن أصحابِ عُمَرَ –رضوان الله عليه- أنْ يكونَ أولُ شهرٍ في سنةِ أُمَّةِ الإسلامِ وفي تاريخِ المسلمين هو شهرُ ربيعٍ الأول ، واختارَ آخرون شهرَ رمضان ؛ ففيه أُنْزِلَ القرآن، وأمَّا عُمَرُ – رضوان الله عليه- فرَجَّحَ شهرَ اللهِ المُحرَّم ؛ لأنه شهرٌ حَرَام ، ولأنَّ في هذا الشهرِ العظيم أَخَذَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- بكثيرٍ مِن جَلائلِ الأعمال ولأنَّ هذا الشهرَ العظيم يَعْقُبُ الشهرَ الذي يؤدي فيه المسلمونَ مَنَاسِكَهُم بأداءِ فريضةِ الحَجِّ ، وفريضةُ الحجِّ هي آخرُ فرضٍ مِن الفروضِ الخمسة التي فَرَضَهَا اللهُ ربُّ العالمين على أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم ، ولأنَّ شَهْرَ اللهِ المُحَرَّمِ يَعْقُبُ شهرَ ذي الحِجَّة ، وفيه أخذَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم - البيعةَ على الأنصار، ولا يَخْفَى أنَّ أَخْذَ البيعةِ على الأنصارِ كان مُقَدِّمَةً ثابتةً مضطردة مِن أجلِ هجرةِ النبي الكريم - صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.
وإذن ؛ فهذا الشهرُ الكريم هو الذي اختارَهُ عُمَرُ وعثمانُ وعليٌّ وجمهرةٌ صالحةٌ كبيرةٌ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- لكي يكونَ أولَ شهرٍ في سنةِ المسلمين التي بدأَهَا عُمَرُ –رضوان الله عليه- بحادثِ الهجرةِ الفَذِّ العجيب، فاللهم صلى وسلم على مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وسلم، واللهم ارض عن الصحابةِ أجمعين.
اللهُ – جل وعلا- جعلَ لنا بدايةَ اليومِ مِن غروبِ الشمسِ، فبدايةُ اليومِ لا مِن الزوالِ كما هو مألوفٌ معهودٌ معروف ؛ بل بدايةُ اليومِ عند المسلمين تبدأُ مِن غروبِ الشمسِ ، وذلك لأنَّ أوَّليَّةَ الشهرِ إنما تكونُ برؤيةِ الهلالِ بعد الغروبِ في المغربِ ، فإذا رُؤيَ الهلالُ فَقَدْ دخلَ شهرٌ وانسلخَ شهر، فهذا أولُ شهرٍ ونهاية شهر، وعليه فأولُ اليومِ عند المسلمينَ بالغروبِ لا بالزوال، وأولُ الشهرِ برؤيةِ الهلالِ، وأولُ التاريخِ عند المسلمين هو بهجرةِ النبي الكريم -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.
وهذا الشهرُ العظيمُ له فضيلةٌ عظيمةٌ بيَّنَهَا النبيُّ الكريم -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم -، فقال فيما يرويه أبو هريرة يرفعهُ وأخرجه مسلم أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- قال: ((أفضلُ الصيامِ بعدَ صومِ رمضانَ صومُ شهرِ اللهِ المُحرَّمِ وأفضلُ الصلاةِ بعد المكتوبة قيامُ الليل)).
فأضافَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- المُحَرَّمَ إلى الله، فقال: ((شهرُ اللهِ المُحَرَّم))، وهذه إضافةُ تشريفٍ وتكريمٍ ورِفعةٍ وتفضيل، واللهُ ربُّ العالمين لا يضيفُ إليه ولا يُضيفُ إليه نبيُّهُ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- إلَّا خواصَّ مخلوقاتِهِ كما أضافَ مُحَمَّدًا إليه بالعبودية -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وكذا أضافَ إليه إبراهيم والأنبياءَ والمرسلين، وأضافَ إليه البيتَ والناقةَ تشريفًا وتعظيمًا ورِفعة ، فهذا الشهرُ أضافَهُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- إلى اللهِ ((شهرُ اللهِ المُحَرَّم)).
وشيءٌ آخر: هو أنَّ الصيامَ الذي ذكرَهُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- واقعًا في شهرِ اللهِ المُحرَّم ، هذا الصيامُ مُضافٌ أيضًا إلى اللهِ ربِّ العالمين بإضافةِ اللهِ ربِّ العالمين إياهُ إليه ، إذ يقولُ اللهُ – جلَّ وعلا- في الحديثِ القدسيِّ الصحيح : ((كلُّ عملُ ابنِ آدمَ إلَّا الصوم فإنه لي)) ، وإذن ؛ فإنَّ الصيامَ في شهرِ اللهِ المُحرَّم تجتمعُ فيه إضافتان؛ إضافةُ الصيامِ إلى اللهِ كما أضافَ اللهُ ربُّ العالمين الصيامَ إليه ، وإضافةُ هذا الشهرَ إلى الله تعالى ، بإضافةِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم- الشهرَ إلى ربِّهِ.
فالصومُ في هذا الشهرِ له موقعٌ جليلٌ عند اللهِ ربِّ العالمين لا يعدلُهُ صيامٌ إلَّا ما وقعَ في رمضان، وقد يكونُ المعنى في حديثِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-: أفضلُ الصيامِ بعدَ الفريضةِ في رمضان صومُ شهرِ اللهِ المُحرَّمِ : بمعنى أنَّ الإنسان إذا ما صام الشهرَ كلَّهُ تطوعًا، وأمَّا تبعيضُ بعضِ أيامِهِ وخصُّها بصيامٍ فلا تقعُ فاضلةً مُفضلَّةً فوق ما يَثْبُتُ مِن الفضيلةِ والأفضليةِ ليومِ عرفة وللعشرِ الأُوَلِ مِن شهرِ ذي الحِجَّة ولِمَا يكونُ مِن سِتِّ شوال.
فعلى العبدِ الذي يرقبُ اللهَ ربَّ العالمين ويتلمسُ مواقعَ رضاهُ وأنْ يُجْهِدَ نفسَهُ وأنْ يجتهدَ في الوقوعِ على خيرِ صيامٍ يحبهُ اللهُ ربُّ العالمين ويرضاه بعد صومِ الفريضةِ في رمضان.
ثانياً : ولماذا الهجرة
وللجواب على هذا السؤال قصة .
إنها قصة طفل طهور ، وديع كالنسيم ، ولد يتيما واستمر اليتم يلاحقه ويلاحق طفولته في طرقات مكة ودروبها .
ويكبر محمد ، وتكبر غربته، ويكتشف في دروب الحياة يتماً أكبر من يتمه ، وهَمّاً أثقل من هَمّه.. فالأرض كلها يتم .. والبشرية كلها تئن بالألم ويعصر قلبها الحزن .
فالجزيرة العربية كلها غابة من الأصنام ، وأودية تسيل بالدماء البريئة والعادات العالية والتقاليد المحيرة.
فماذا يفعل محمد سوى أن يهجر هذه البيئة لينطلق بعيداً ... بعيداً على قمة جبل النور ليقضى النهار في التأمل والتفكير والتدبر وليقضى الليل في التعبد والتبتل والتضرع .
وفي ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان يصمت الكون كله.. النجوم في السماء والرمال في الصحراء ... والوحوش في البيداء... إنها لحظات فريدة ... إنها لحظات تربط الأرض بالسماء .. فها هو أمين وحى السماء جبريل عليه السلام يتنزل بالوحى على رسول الله ، ويحمل النبي الأمانة ، وينطلق بها إلى قومه .... ينطلق بها بهجة وبشرى لهم، ينتظر الإجابة ، وتأتى الإجابة على غير ما يتمنى .
تأتى الإجابة سباً ، وتكذيباً ، وتعذيباً.
وتحت وطأة هذا الظلم والطغيان لم يجد النبي بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة .. بالهجرة إلى أين ؟ إلى الحبشة لأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ولتغسل شلالات الحبشة دموع المؤمنين وأحزانهم.
ويشتد الأذى ويزيد الابتلاء فيخرج الحبيب المصطفى بنفسه يشق الأودية والجبال على قدميه الداميتين المتعبتين تحت حرارة الشمس المحرقة ، وعلى الرمال والصخور الملتهبة ولكن إلى أين ؟!.
إلى الطائف لعله يجد أرضاً تقبل بذرة التوحيد.. لعله يجد يداً حانية تحمل هذا الدين وتنشر معه هذا النور.
وإذا بأرض الطائف هي الأخرى تلفظ بذرة التوحيد ، وإذا بأهلها يفعلون معه أخس ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان.
ولا تزيد الأيام قريشاً إلا بطشاً ، وظلماً ، وطغياناً ، ويأمر النبي أصحابه مرة أخرى بالهجرة .. إلى أين . إلى يثرب.
ويشعر المشركون لأول مرة بحجم الخطر ويَعقدُ البرلمان الشركي (( في دار الندوة )) أخطراجتماع له في التاريخ ، لإصدار قرار بالإجماع للقضاء على حامل لواء الدعوة لقطع تيار نورها عن الوجود نهائياً.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ([7])*
ولكن : (( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ))
ثالثاً : الهجرة دليل على قوة الإيمان
ليست الهجرة انتقال موظّف من بلد قريب إلى بلد ناء، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة ...... إنها إكراه رجل آمن في سربه ، ممتدّ الجذور في مكانه ، على إهدار مصالحه ، وتضحية أمواله ، والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره - وهو يصفّي مركزه - بأنه مستباح منهوب ، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها ، وبأنّه يسير نحو مستقبل مبهم ، ولا يدري ما يتمخّض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل : مغامر طيّاش ، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها ، يحمل أهله وولده ؟! وكيف وهو بذلك رضيّ الضمير، وضّاء الوجه؟!.
إنّه الإيمان، الذي يزن الجبال ولا يطيش ! وإيمان بمن ؟! بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والاخرة، وهو الحكيم الخبير.
هذه الصّعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوّار القلق ، فما يستطيع شيئا من ذلك ، إنّه من أولئك الذين قال الله فيهم: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء: 66] .
أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى ، وتواصوا بالحقّ والصبر، فإنهم نفروا خفافا ساعة قيل لهم : هاجروا إلى حيث تعزّون الإسلام ، وتؤمّنون مستقبله.
ونظر المشركون، فإذا ديار ب (مكة) كانت عامرة بأهلها قد أقفرت ، ومحالّ مؤنسة قد أمحلت.
مر عتبة، والعبّاس، وأبو جهل على دار بني جحش بعد ما غلّقت ، فقد هاجر ربّ الدار، وزوجه ، وأخوه أبو أحمد - وكان رجلا ضرير البصر- ، ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يبابا ، ليس بها ساكن ! فلما رآها تصفر الريح في جنباتها قال :
وكلّ دار وإن طالت سلامتها ... يوما، ستدركها النّكباء والحوب
ثم قال : أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس : هذا من عمل ابن أخيك ، فرّق جماعتنا ، وشتّت أمرنا، وقطع بيننا.. وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة؛ فهم يجرمون ويرمون الوزر على أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبوا الاستكانة، فإباؤهم علّة المشكلات ومصدر القلاقل..!!.
رابعاً : سرعة استجابة المسلمين لأمر الله :
استجاب المسلمون لأمر الله ورسوله بالهجرة ، وكان من أول المهاجرين: أبو سلمة، وزوجه، وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد ؟! وأخذوا منه زوجته ، فغضب آل أبي سلمه لرجلهم ، وقالوا : لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا ، وتجاذبوا الغلام بينهم ، فخلعوا يده ، وذهبوا به ، وانطلق أبو سلمه وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمه بعد ذهاب زوجها ، وضياع ابنها - تخرج كلّ غداة بالأبطح ، تبكي حتى تمسي ، نحو سنة ، فرقّ لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة ؟! فرّقتم بينها وبين زوجها وولدها ، فقالوا لها : الحقي بزوجك إن شئت ، فاسترجعت ابنها من عصبته ، وهاجرت إلى المدينة ..
ولما أراد (صهيب) الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ، والله لا يكون ذلك ، فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي ، أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم ، قال: فإنّي قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ’’ربح صهيب ’’. حديث صحيح، ذكره ابن هشام في (السيرة : 1/ 289) معلّقا مرسلا ، وقد وصله الحاكم - 3/ 398، من حديث أيوب عن عكرمة مرسلا ، نحوه ، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، وهو كما قال ، وله شاهد من حديث صهيب نفسه، رواه الطبراني كما في المجمع: 6/ 60؛ والبيهقي كما في البداية: 3/ 173- 174.
وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة زرافات ووحداناً ، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين، وشعرت قريش بأنّ الإسلام أضحت له دار يأرز إليها، وحصن يحتمي به ، وتوجّست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهاجت في دمائها غرائز السّبع المفترس، حين يخاف على حياته.
خامساً : الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ ، وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ :-
أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ جَوْدَةُ الْإِعْدَادِ وَدِقَّةُ الِاسْتِعْدَادِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ اسْتِعْدَادَ بَشَرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اسْتِعْدَادُ بَشَرٍ يُوحَى إِلَيْهِ ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَبِخَاصَّةٍ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الْفَارِقَةِ ، حَتَّى أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَدَعْ مُحَمَّدًا ﷺ فِي مَعْرِضِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِلَّا وَقَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذِكْرِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ: ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التَّوْبَة: 40].
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ ﷺ، وَلَكِنَّ دِقَّةَ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةَ الِاسْتِعْدَادِ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ تَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَانْظُرْ فِيمَا كَانَ مِنْ تَفْصِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ وَحَدَّدَ لَهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَيْهِ ﷺ، قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ هِجْرَتِهِ ﷺ كُلَّ أَصْحَابِهِ ﷺ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُ ﷺ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَإِلَّا مَنْ فُتِنَ فِي دِينِهِ مِمَّنْ حَجَزَتْهُ قُرَيْشٌ ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ ﷺ.
وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الْكَرِيمِ هُوَ عَيْنُ التَّضْحِيَةِ وَعَيْنُ الْبَذْلِ وَعَيْنُ الْفِدَاءِ، لَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ ، بَلْ تَخَلَّفَ فِي مَكَّةَ ﷺ وَقَدَّمَ الْأَصْحَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَهَاجَرُوا جَمِيعًا إِلَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِفِتْنَتِهِ فَثَبَتَ أَوِ انْحَرَفَ عَنِ الْمَنْهَجِ السَّوِيِّ - نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ -.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي : فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ اخْتَارَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ صَاحِبًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَكَانَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ : « يَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى رِسْلِكَ ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا », فَكَانَ يَقُولُ : الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ النَّبِيِّ فِي هِجْرَتِهِ ﷺ، وَابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – رَاحِلَتَيْنِ ، فَعَلَفَهُمَا ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي مَكَانٍ حَدَّدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهِ بِالْخُرُوجِ مُهَاجِرًا ﷺ.
وَأَمَّا أَمْرُ نَبِيِّنَا ﷺ فِي لَيْلَةِ هِجْرَتِهِ ؛ فَأْمْرٌ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ :
يَظَلُّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَدْ تَسَجَّى بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، وَالرَّسُولُ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ﷺ، بَلْ ذَهَبَ فِي وَقْتٍ تَخْفُتُ فِيهِ الرِّقَابَةُ وَتَنَامُ فِيهَا أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، ذَهَبَ فِي الْهَاجِرَةِ وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي آخِرِ شَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ الصَّيْفِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَبْعَثِ الرَّسُولِ ﷺ، فَذَهَبَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ فِي الْهَاجِرَةِ فِي وَقْتٍ لَوْ وَضَعْتَ فِيهِ لَحْمًا نَيِّئًا عَلَى رِمَالِ الصَّحْرَاءِ الْمُحْرِقَةِ لَأَنْضَجَتْهُ ، ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي فِيهَا أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «مَا أَرَى النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَتَى فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَّا لِحَدَثٍ حَدَثَ».
فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْهِجْرَةِ قَدْ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ ! ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ صَاحِبًا يَا أَبَا بَكْرٍ».
وَخَرَجَ الرَّسُولُ فِي وَقْتِ الْهَاجِرَةِ مِنْ خَوْخَةٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ - وَهِيَ كُوَّةٌ نَافِذَةٌ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ-، وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ رِقَابَةٌ مِنَ اسْتِخْبَارَاتِ قُرَيْشٍ تَرْقُبُ مُحَمَّدًا ﷺ، وَكَانُوا قَدْ بَيَّتُوا قَتْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي هَاجَرَ فِيهَا ﷺ، إِذَا كَانَتْ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ تَرْقُبُهُ ؛ فَإِنَّهَا تَتَطَلَّعُ إِلَى بَابِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الرَّسُولُ ﷺ فَيَخْرُجُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِنْ خَوْخَةٍ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَيَسِيرُ صَوْبَ الْجَنُوبِ ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ طَرِيقَ الشَّمَالِ مُؤَدٍّ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي يُهَاجِرُ إِلَيْهَا ﷺ ، نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ جَنُوبًا إِلَى جَبَلِ ثَوْرٍ .
وَدَخَلَ الْغَارَ مَعَ صَاحِبِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي غَارِ ثَوْرٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، وَدَخَلَ فَفَتَحَ الْغَارَ، مَزَّقَ رِدَاءَهُ وَجَعَلَهُ فِي الشُّقُوقِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ فَيُؤْذِيَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَدَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ.
أَمَّا السَّكِينَةُ فَأَنْزَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَأَسْلَمَ جَنْبَهُ لِرِمَالِ الْغَارِ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِ أَبِي بَكْرٍ وَنَامَ ﷺ .
سادساً : تَوْزِيعُ الْمَهَامِّ الْمُحْكَمُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ .
مِنْ جَوْدَةِ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةِ الِاسْتِعْدَادِ أَنْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَيْنًا عَلَى قُرَيْشٍ يَتَلَصَّصُ عَلَيْهِمْ فِي الإصباح ، فَإِذَا مَا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذَ مَا وَضَعَ عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَيَدَهُ وَسَمْعَ قَلْبِهِ وَذَهَبَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ ، وَالنَّبِيُّ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ ﷺ, وَأَمَّا تَأْمِينُ أَمْرِ المئونة فَقَدْ جُعِلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا وَعَنْ أَبِيهَا -.
وَانْظُرْ إِلَى تَوْزِيعِ الْأَدْوَارِ هَاهُنَا ، لَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرَ الزَّادِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَ زَادًا فِي إِحْدَى يَدَيْهِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَيِّ سَبِيلٍ لَتَبِعَتْهُ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ وَتَبِعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْدَامُهُمْ وَلَعَلِمُوا مَوْضِعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَحَّى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ مَنُوطًا بِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْأُنْثَى وَالْمَرْأَةُ - وَكَانَتْ أَسْمَاءُ حَامِلًاً - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَسِيرُ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ كَامِلَاتٍ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ - وَهُوَ جَبَلٌ شَاهِقٌ شَهْمٌ صُلْبٌ مُتَجَهِّمٌ حِجَارَتُهُ مَسْنُونَةٌ عَنِيفَةٌ حَادَّةٌ حَتَّى لَقَدْ حَفِيَتْ قَدَمَا رَسُولِ اللَّهِ - ، الْمَرْأَةُ إِذَا حَمَلَتْ زَادًا وَطَعَامًا وَمَتَاعًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، كَانَتْ أَسْمَاءُ تُؤَمِّنُ أَمْرَ الزَّادِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَأْتِي لِلنَّبِيِّ بِاسْتِخْبَارَاتِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَمْرَ الِاسْتِخْبَارَاتِ مَوْكُولًا بِأَسْمَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَهْمَا بَلَغَ عَقْلُهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاعِياً حَافِظًا كَالرَّجُلِ الْحَاذِقِ اللَّبِيبِ ؛ هَذِهِ وَاحِدَةٌ .
وَثَانِيَةٌ : أَنَّ أَسْمَاءَ لَا تَسْتَطِيعُ - وَهِيَ امْرَأَةٌ - أَنْ تَدْخُلَ فِي مُنْتَدَيَاتِ قُرَيْشٍ وَلَا أَنْ تَدْخُلَ فِي مَجَامِعِ الرِّجَالِ لِتَتَفَقَّدَ الْأَخْبَارَ ثُمَّ تَذْهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
كَذَلِكَ وَزَّعَ النَّبِيُّ الْأَدْوَارَ ﷺ، وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُغْفِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَصْنَعَ، ﷺ - وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ- إِذَا مَا سَارَا إِلَى الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ لِلْأَقْدَامِ آثَارٌ عَلَى الرِّمَالِ، فَرُبَّمَا أَتَى الْقَافَةُ مِنْ تُبَّاعِ الْأَثَرِ فَدَلُّوا قُرَيْشًا عَلَى مَوْضِعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اقْتِفَاءً لِلْآثَارِ عَلَى الرِّمَالِ.
فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى غَنَمٍ لَهُ ، إِذَا مَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ وَلَدَا أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - جَاءَ بِغَنَمِهِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِهِمَا فَعَفَّ عَلَى الْآثَارِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِأَغْنَامِهِ عِنْدَ الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَحْلِبُ لَهُمْ فَيَشْرَبُونَ هَنِيئًا مَرِيئًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ رِضْوَانًا كَبِيرًا- ، فَإِذَا مَا كَانَ الصَّبَاحُ وَقَدْ لَاحَ بِتَبَاشِيرِهِ عَادَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ إِلَى قُرَيْشٍ كَأَنَّمَا أَصْبَحَ فِيهِمْ ، وَكَذَلِكُمْ كَانَ اسْتِعْدَادُ النَّبِيِّ ﷺ .
وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَغِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَغِيبَ - ؛ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ الْخِبْرَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ ابْنَ أُرَيْقِطَ لِيَكُونَ دَلِيلًا هَادِيًا، وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا بِمَجَاهِلِ الصَّحْرَاوَاتِ ، فَأَتَاهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَبِيتِهِمْ فِي الْغَارِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَرَضِيَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ صَاحِبِهِ -، جَاءَهُمْ فَأَمْعَنَ بِالسَّيْرِ تِجَاهَ الْجَنُوبِ ثُمَّ اسْتَدَارَغَرْبًا حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ سَلَكَ طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ أَبَدًا - هِيَ نَادِرَةٌ جِدًّا مَا يَطْرُقُهَا طَارِقٌ - ، وَسَارَ مُصْعِدًا صَوْبَ الشَّمَالِ حَتَّى قَدِمَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ.
سابعاً : رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ .
كَانُ أهل المدينة مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَحِبَّائِهِ يخْرُجُونَ يَتَوَقَّعُونَ مَقْدَمَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَيْئًا إِلَّا السَّرَابُ يَلُوحُ مِنْ بَعِيدٍ وَلَيْسَ بِهِ مِنْ حَقِيقَةِ وُجُودٍ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً مِنْ الْبَعْثَةِ، جَاءَ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ وَنَزَلَ هُنَاكَ ﷺ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ - وَمَا ظِلُّ نَخْلَةٍ ، وَمَا يَبْلُغُ أَنْ يَكُونَ -. وَخَرَجَ يَهُودِيٌّ عَلَى أُطُمٍ لَهُمْ هُنَالِكَ ؛ فَرَأَى النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا بَنِي قَيْلَةَ هَذَا جَدُّكُمْ ! هَذَا رَجُلُكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ ! فَخَرَجَتِ الْمَدِينَةُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهَا لِلِقَاءِ الْحَبِيبِ الْمَحْبُوبِ ﷺ. خرجوا جميعاً إِلَى النَّبِيِّ يَتَسَابَقُونَ ﷺ ،- فَلَمْ يُفَرِّقْوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا حَتَّى تَحَوَّلَ الظِّلُّ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّ النَّبِيَّ بِرِدَائِهِ وَيَضْحَى هُوَ، فَيَقِفُ هُوَ فِي الشَّمْسِ وَيُظِلُّ النَّبِيَّ بِرِدَائِهِ ﷺ- . وَخَرَجَ جَوَارِي الْأَنْصَارِ وَرِجَالُ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءُ الْأَنْصَارِ - حَتَّى الْيَهُودُ - فَأَمَّا الْجَوارِي مِنْ وَلَائِدِ الْأَنْصَارِ فَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ وَيُغَنِّينَ فَرَحًا بِمَقْدَمِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ
حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
وَلَمْ يَقُلْنَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَخَاصَّتِهِمْ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا ..... مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا .... مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ
لِأَنَّ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ إِنَّمَا هِيَ فِي قِبَلِ الشَّامِ صَوْبَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَعْلَى مِنْ جِهَةِ الْقَادِمِ مِنَ الشَّامِ ، وَأَمَّا ثَنِيَّاتُ الْوَدَاعِ وَالْغِنَاءُ الَّذِي كَانَ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ فَرَحًا بِقُدُومِ النَّبِيِّ ؛ فَكَانَ عِنْدَ عَوْدَتِهِ ﷺ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَأَمَّا فِي الْهِجْرَةِ فَكُنَّ يُغَنِّينَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِلَاتٍ:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ
حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
ثامناً : بِنَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَالْمُؤَاخَاةِ .
إِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ بَنَى مَسْجِدَهُ ﷺ ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَظَلَّ فِيهِمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ رَكَبِ نَاقَتَهُ القَصْوَاءَ وَسَارَ إِلَى بَنِي عَوْفِ بْنِ سَالِمٍ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِمُ الْجُمُعَةُ ، فَنَزَلَ فَصَلَّى هُنَالِكَ الْجُمُعَةَ وَلَم يَكُنْ مَسْجِدُهُ قَدْ أُسِّسَ بَعْدُ ﷺ، ثُمَّ بُعِثَتِ النَّاقَةُ مِنْ مَبْرَكِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَالْقَوْمُ جَمِيعًا يَتَدَافَعُونَ: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَأَكْرِمْ بِكَ مِنْ جَارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ . كُلُّهُم يُرِيدُ أَنْ يَحْظَى بِشَرَفِ نُزُولِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَانْطَلَقَتِ النَّاقَةُ وَعَلَيْهَا خَيْرُ رَاكِبٍ، خَيْرُ مَنْ مَسَّ الْحَصَى قَطُّ وَانْطَلَقَتْ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ بِحَيِّهِمْ قَالُوا : إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَى الْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ، يَقُولُ : « خَلُّوا سَبِيلَ نَاقَتِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ »، فَتَنْطَلِقُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ أَخْوَالِ أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ خَرَجُوا إِلَيْهِ بِخُؤُولَتِهِمْ لِأَبِيهِ ، يَقُولُونَ: هَلُمَّ إِلَى أَخْوَالِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لَنَا عِنْدَكَ لَرَحِمًا مَصُونَةً ، فَهَلُمَّ إِلَيْنَا وَانْزِلْ عَلَيْنَا يَا أَكْرَمَ جَارٍ، فَسَرَّحَ النَّبِيُّ فِي الْحَيِّ بَصَرَهُ وَعَادَ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ عَامًا عِنْدَمَا أَتَتْ بِهِ أُمُّهُ وَهُوَ فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمُرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ لِتُزِيرَهُ قَبْرَ أَبِيهِ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ، وَلَعِبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي سَاحَةِ خُؤُولَتِهِ فِي مَرَاتِعِ الشَّبَابِ وَفِي مَوَاطِنِ الصِّبَا مَعَ لِدَاتِهِ مِنْ خُؤُولَةِ أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ مُنْذُ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا .
النَّبِيُّ الْآنَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَقُولُ : « خَلُّوا سَبِيلَ نَاقَتِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ »، وَالدُّمُوعُ تَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ إِذْ يَذْكُرُ أُمَّهُ عِنْدَمَا جَاءَتْ بِهِ مُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ لِتُزِيرَهُ قَبْرَ أَبِيهِ ، فَبَكَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ مَا بَكَتْ ، ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِ وَلِيدِهَا صَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ ﷺ ، يَتِيمِ الْأَبِ ، فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمُرِهِ ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَعُودَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ إِلَى آلِ أَبِيهِ ، فَلَمَّا أَنْ كَانَتْ بِالصَّحْرَاءِ بِالْبَادِيَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ جَاءَهَا أَجَلُهَا، وَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَيَتَخَطَّى بَصَرُهُ يَوْمَ الْهِجْرَةِ نِصْفَ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ لِيَرَى مَنْظَرَ الْمُحْتَضَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَمَتُهُ أُمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ وَقَدْ أَسْنَدَتْ مَوْلَاتَهَا إِلَى صَدْرِهَا.
وَسَمْعُ الزَّمَانِ يَأْتِي إِلَى سَمْعِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْهِجْرَةِ عِنْدَمَا نَظَرَ إِلَى السَّاحَةِ عِنْدَ خُؤُولَةِ أَبِيهِ، يَأْتِي سَمْعُ الزَّمَانِ إِلَى سَمْعِ النَّبِيِّ بِحَشْرَجَةِ أُمِّهِ الْمُحْتَضَرَةِ وَكَيْفَ أَنَّهَا فَاضَتْ رُوحُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ حَمَلَتْهَا أَمَتُهَا وَمَوْلَاتُهَا إِلَى الْأَبْوَاءِ بِقَرْيَةٍ بَيْنَ يَثْرِبَ عِنْدَمَا كَانَ ذَلِكَ اسْمُهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَا بَيْنَهَا، فَدُفِنَتْ بِالْأَبْوَاءِ، وَعَادَتْ بِيَدِ النَّبِيِّ مُضَاعَفَ الْيُتْمِ ﷺ.
وَالْيَوْمَ يَعُودُ ﷺ عَلَى نَاقَتِهِ : « خَلُّوا سَبِيلَهَا يَا خُؤُولَةَ أَبِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ »، وَخَلَّوْا سَبِيلَهَا ، وَخَرَجَتْ فَذَهَبَتْ إِلَى الْمِرْبَدِ -وَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ بِالْمَدِينَةِ – فَبَرَكَتْ ، ثُمَّ قَامَتْ فَانْبَعَثَتْ ، ثُمَّ أَعَادَتْ نَظَرَهَا مُوَلِّيَةً فَعَادَتْ شَيْئًا، فَبَرَكَتْ فِي مَبْرَكِهَا الْأَوَّلِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ، وَوُضِعَ رَحْلُ نَاقَتِهِ فَحَمَلَهُ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى دَارِهِ مُسْرِعاً ، وَالْقَوْمُ يَقُولُونَ : إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى نَبْنِيَ لَكَ بَيْتًا ! فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: « الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ ».
فَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي بَرَكَتْ فِيهِ النَّاقَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَهْفُو إِلَيْهِ قَلْبُ كُلِّ مُسْلِمٍ الْيَوْمَ ؛ هُوَ مَوْضِعُ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَبُنِيَ لَهُ فِيهِ الْمَسْجِدُ، وَشَارَكَ فِي حَمْلِ التُّرَابِ عَلَى عَاتِقِهِ ! وكان نشيد المهاجرين والأنصار وهم يبنون المسجد ،
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ,,,,,, لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ
« اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ » ؛ يَقُولُهَا النَّبِيُّ ﷺ مُشَارِكًا لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي الْعَمَلِ فِي الْحَفْرِ لِأَسَاسِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
ثُمَّ بُنِيَتْ حُجُرَاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا وَصْفُهَا؟
يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: «كُنْتُ أَدْخُلُ أَبْيَاتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا غُلَامٌ مُرَاهِقٌ، فَتَطُولُ يَدِي سَقْفَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ».
فَأَمَّا بَعْضُ حُجُرَاتِ الرَّسُولِ فَحِجَارَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَسَقْفُهَا مِنْ جَرِيدٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا حُجْرةٌ عَائِشَةَ فَجُدُرُهَا مِنْ جَرِيدٍ مُطَيَّنٍ وَسَقْفُهَا مِنْ جَرِيدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى بَابِهَا سِتْرٌ مَرْخِيٌّ هُوَ بَابُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي بَنَى فِيهِ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - ، وَأَمَّا أَثَاثُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَشُدَّتْ أَعْوَادٌ وَجُعِلَ عَلَيْهَا حِبَالٌ مِنْ لِيفٍ وَطُرِحَ عَلَيْهَا فِرَاشٌ مِنْ أَدَمٍ - أَيْ: مِنْ جِلْدٍ - حَشْوُهُ لِيفٌ ، لَيْسَ بَيْنَ الْفِرَاشِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ إِلَّا الْحَصِيرُ، فَهَذَا بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَأَمَّا الْقُصُورُ فِي الشَّمَالِ ؛ قُصُورُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأُمَرَاءِ غَسَّانَ يَرْتَعُونَ فِي قُصُورِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي الْحِيرَةِ وَفِي مِصْرَ، وَفِي الْجَنُوبِ فِي صَنْعَاءَ فِي الْيَمَنِ- فَأَمَّا الْقُصُورُ فَآيَاتٌ مِنْ آيَاتِ الْمِعْمَارِ - حَدِّثْ عَنْهُ وَلَا حَرَجَ -، وَأَمَّا الْأَثَاثُ فَبَاذِخٌ بَاذِخٌ بَاذِخٌ لَا يَصِفُ الْعَقْلُ تَوَهُّمًا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَبْرُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي هُوَ الْيَوْمَ فِي حُجْرةِ النَّبِيِّ ﷺ فَحُجْرَتُهُ قَبْرُهُ وَقَبْرُهُ حُجْرَتُهُ وَأَثَاثُ بَيْتِهِ مَا قَدْ وَصَفْتُ وَأَمْرُ نَبِيِّكَ إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَرْعَاهُ، فَأَمَّا الْأَضْوَاءُ فَلَمْ تَخْطِفْ شَيْئًا مِنْ أَضْوَاءِ النُّبُوَّةِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْمُتَوَاضِعِ - بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- ، فَلَمَّا طَلَعَتْ شَمْسُهُ كُسِفَتْ كُلُّ الْأَنْوَارِ وَأُطْفئِتْ كُلُّ الشُّمُوعِ ، وَأَضَاءَتْ شَمْسُ الرَّسُولُ ﷺ.
تاسعاً : وأخيراً: وقفة للتأمل .
أيها الحبيب : لقد مضى عام من عمرك ، فقربك إلى الله عاماً، وأبعدك عن الدنيا عاماً.
فهل تأملت وتدبرت هذا ؟ ، وهل سألت نفسك : ماذا قدمت ؟
فإن الإنسان يذكر القريب ولكن كلما ضرب الزمن بأيامه ولياليه..، فإن الجروح تندمل .. ، والمعالم تنمحى ، وينشغل الإنسان بحاضره وينسى ما مضى.
ولكن .. ، هل ما ينساه الإنسان ينساه الديان؟
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا ،،،، واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته ،،، بل أثبتاه وأنت لا ه تلعب
والروح منك وديعة أُودعتها ،،،، ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التى تسعى لها ،،،، دارٌ حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما ،،،، أنفاسنا فيها تعد وتحسب
فهيا أيها المسلمون لدين الله ودعوة رسول الله ، كل واحد منكم يستطيع أن يدرك ؛ ثواب الهجرة .. نعم
ففي الحديث الصحيح عن مقبل بن يسار أن النبى قال : « العبادة في الهرج كهجرة إلىّ»
والمراد بالهرج هنا : الفتن ، فالهرج: عندما تكثر الفتن وتنتشر الرذيلة وتغلب الرذيلة.
فالصبر على الدين والعبادة ، ينال به التقى الصابر أجر وثواب الهجرة إلى رسول الله .
لأن الهجرة لم تُكَرَّم لأنها سفر من مكان إلى مكان، فما أكثر الذين يسافرون فالهجرة لم تكرم على إنها سفر، لكنها كرمت لأنها انتقال عقدي ونفسي وفكري وروحي إلى حيث يريد الله ورسوله .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة ورضواناً.......
الدعاء
تعليقات: (0) إضافة تعليق