العناصر
1- المقدمة
2- منزلة الصدق
.
3- الصدق في القرآن
الكريم .
4- الصدق في السنة
النبوية .
5- قصة كعب بن مالك
.
6- قصة رجل صدق
الله فصدقه .
المقدمة
الحمد لله رب العالمين,
الحمد لله الذي أراد فقدر, وملك فقهر, وخلق فأمر وعبد فأثاب, وشكر, وعصي فعذب وغفر,
جعل مصير الذين كفرو إلي سقر, والذين اقو ربهم إلي جنات ونهر, ليجز الذين كفرو بما
عملو, والذين امنوا بالحسنى
واشهد إن لا اله
إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو علي كل شيء قدير
يارب
رضاك خير إلي من
الدنيا وما فيها يا مالك النفس قاصيها ودانيها
فنظرة منك يا سـؤلي
ويـا أملى خير إلى من الدنيـا وما فيها
فليـس للنـفس أمـآل
تحققـها سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
وأشهد أن سيدنا
وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
بلغ الرسالة وأدى
الأمانة وكشف الظلمة وأحاط به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
يا سيدي يا رسول
الله :
أنت الذي تستوجب
التفضيل فصلوا عليه بكرة وأصيـلا
ملئت نبوته الوـجود
فأظهرا بحسامه الدين الحديد فأسفرا
ومن لم يصلي عليه
كان بخيل فصـلوا عليه وسلموا تسليما
وعلي اله وأصحابه
ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم
يا أرحم الراحمين
أما بعد
إن للصدق مكانة
عظيمة ومنزلة كبيرة بين مكارم الأخلاق، فالصدق مرتبط بالإيمان.
عَنْ صَفْوَانَ
بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّهُ قِيلَ للنبي صَلى الله عَلَيه وَسَلم: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ
جَبَانًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: نَعَمْ،
قال: فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ فَقَالَ: لا.
ويكفي الصدق شرفاً
وفضلاً أن مرتبة الصدِّيقية تأتي في المرتبة الثانية بعد النبوة، قال تعالى: ((وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ
رَفِيقًا)) {وَالصِّدِّيقِينَ}هم: الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق
وصدقوه بيقينهم، وبالقيام به قولا وعملا وحالا ودعوة إلى الله، جعلنا الله وإياكم منهم.
ما أن الصدق سمة
من سمات الأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين، قال -تعالى- عن خليله إبراهيم
على نبينا وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ
إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم: 41].
وقال عن إسحاق ويعقوب:
(وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا
) [مريم: 50].
وقال عن إسماعيل:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا
نَبِيًّا ) [مريم: 54].
وقال عن إدريس:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ) [مريم:
56].
وقال عن صحابة رسولِه
الأخيار: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) [الأحزاب:
23].
وقد أنزل الله في
شأن الصادقين معه آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فقد ثبت عن أنس أن عمه
أنس بن النضر لم يشهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشق ذلك على قلبه،
وقال: أول مشهد شهده رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غبتُ عنه، أمَا والله، لئن
أراني الله مشهدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليَرَينَّ الله ما أصنع! قال:
فشهد أحدًا في العام القابل، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عمر، إلى أين؟ فقال:
واهًا لريح الجنة! إني أجد ريحَها دون أُحُد، فقاتل حتى قُتِل، فوُجِد في جسده بضع
وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة، فقالت أخته الرُّبَيِّع بنت النضر: ما عرفتُ أخي
إلا ببنانه، فنزلت هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23][رواه البخاري].
لذلك فإننا اليوم
سنطوف في بستان الصدق والصادقين مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
قصة الصحابي كعب
بن مالك
_______________
تجهز صلى الله عليه
وسلم لغزوة تبوك - وغزوة تبوك كانت في حرارة الصيف، وفي شدة الحر وفي وهج الشمس- فخرج
إليها صلى الله عليه وسلم، ونادى في الناس، فخرج معه ما يقارب الثلاثين ألفاً من أصحابه
رضوان الله عليهم، وقبل المعركة أراد صلى الله عليه وسلم أن يجهز الجيش، فما وجد عليه
الصلاة والسلام مالاً، فصعد المنبر ودعا إلى التبرع ورغب في البذل والعطاء:
(من يجهز جيش تبوك
وله الجنة؟ فوقف عثمان بن عفان وقال: أنا يا رسول الله، فدمعت عيناه صلى الله عليه
وسلم وقال: اللهم اغفر لـعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني
عنه راضٍ، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وخرج صلى
الله عليه وسلم، ولكن لما خرج في حرارة الصيف نظر بعض الصحابة فرأوا أن الثمار قد دنت
في المدينة ورأوا أن الراحة في البيوت أحسن من الحر فجلسوا.والذين تخلفوا عن الغزوة
ثلاثة وثمانون رجلاً، لم يسجلهم صلى الله عليه وسلم في كتاب، ولم يكتبهم في ديوان،
أما ثمانون فكذبوا على الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي
أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]
والرسول عليه الصلاة
والسلام كان يمشي مع أصحابه مشياً على الأقدام، في حرارة الصيف، وفي ظمأ ونصب وجوع،
ومشقة لا يعلمها إلا الله. ثم جاء الجد بن قيس أحد المنافقين، فقال: (يا رسول الله!
ائذن لي ألا أخرج معك إلى تبوك، قال: ولماذا؟ قال: أنا رجلٌ مفتون، فإذا رأيت بنات
بني الأصفر افتتنتُ) أي: بنات الروم، وهو كذب على الله، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ .[التوبة:49] وقال المنافقون يوصي بعضهم
بعضاً: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] اطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم
أن يتأخر، لا تنفروا في الحر، فرد الله عليهم: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً
[التوبة:81].
فخرج عليه الصلاة
والسلام، وكان كعب بن مالك صادق الإيمان لكنه تخلف.يقول عن نفسه: قلت: أتهيأ غداً وألحق
بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه خطيئة مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ
مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ
عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120] كيف يخرج رسول الهدى عليه الصلاة والسلام ويتخلف هؤلاء؟!
هذا خطأ لا يقر.فتخلف رضي الله عنه، يقول: أتهيأ غداً، وذهب صلى الله عليه وسلم فلما
أصبح في الصحراء، يقول: فقمت غداً لأتهيأ فثبَّطني الشيطان فجلست، ومشى عليه الصلاة
والسلام حتى اقترب من تبوك فنـزل في الجيش وهو ما يقارب الثلاثين ألفاً، ولما نزل قبل
تبوك نزل عند شجر بجيشه العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي أثناء الجلوس قال للصحابة:
أين كعب بن مالك؟ -لم يذكره صلى الله عليه وسلم إلا عند تبوك - فقال رجلٌ من بني سلمة
-من قرابة كعب بن مالك؛ يا رسول الله! حبسه برداه ونظره في عطفيه، فانبرى له معاذ رضي
الله عنه وأرضاه سيد العلماء الذي يأتي أمامهم يوم القيامة برتوة- فقال: لا والله ما
قلت خيراً، والله ما علمنا فيه إلا خيراً، والله ما علمناه إلا صادقاً مجاهداً، فسكت
عليه الصلاة والسلام ولم يعلق على الحادث.وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم جالس تحت
الشجر.. وإذا برجلٍ أقبل كالصقر على ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة،
فاقترب الرجل فإذا هو أبو خيثمة -وهو أحد المجاهدين الكبار في الإسلام- وسأل صلى الله
عليه وسلم فقال: أين أبو ذر؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً
يلحق بنا).
وأبو ذر مسكين فقير،
يحشر يوم القيامة مع عيسى بن مريم، زاهد ليس عنده إلا جمل قحل هزيل، أتى بهذا الجمل
فركبه فرفض الجمل أن يقوم وبرك على الأرض، فأخذ أبو ذر متاعه على كتفه ومشى في الأرض
ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبينما هم جلوس وإذا بـأبي ذر يطل عليهم ويمشي في
آخر الصحراء فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا ذر، فاقترب فإذا هو أبو ذر، قال: رحمك
الله يا أبا ذر! تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك.وانتهى صلى الله عليه وسلم من الغزوة،
لكن كعب بن مالك واثنان معه: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وهؤلاء الثلاثة صدقوا لكن
تخلفوا بلا عذر، أخذتهم من الهموم والغموم ما لا يعلمه إلا الله، قال كعب:(فكنت في
غياب الرسول عليه الصلاة والسلام أخرج في الأسواق فلا أرى إلا منافقاً، أو شيخاً كبيراً
عذره الله أو طفلاً أو امرأة، فأزداد هماً إلى همي، قال: وسمعت أن الرسول صلى الله
عليه وسلم أقبل من تبوك إلى المدينة) الآن يتهيأ بحجج، وبراهين، ماذا يقول للرسول صلى
الله عليه وسلم؟ وكيف يتكلم معه؟ وما هو عذره؟ إن كذب فسوف يكذبه الله من السماء بالوحي،
وإن صدق فسوف يهلك، في الأخير قال: لما أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم حضرني بَثِّي
-ما معنى بَثِّي؟ البث: أشد الحزن، قال تعالى: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى
اللَّهِ [يوسف:86] -
قال: حضرني بَثِّي
وغمي وعلمت أني لا أخرج من غضب الله ولا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالصدق،
قال: فلما نزل صلى الله عليه وسلم المدينة بالجيش توضأ وبدأ بالمسجد عليه أفضل الصلاة
وأتم السلام، فصلى ركعتين، ثم جلس للناس يفتيهم ويأخذ أخبارهم ويستقبلهم ويسلمون عليه
ويرحبون به لأنه غاب عليه الصلاة والسلام ما يقارب شهراً أو أكثر، فصلى عليه الصلاة
والسلام ركعتين ثم جلس.
صدق كعب بن مالك
وصاحبه، والأمر بمقاطعتهم
قال كعب بن مالك:
{فتقدمت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم أدْرِ هل رَدَّ عليَّ أم لا!
ووضع يده في يده} حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقماتٍ قوله القيل {فقال لي:
يا كعب بن مالك! ما تخلف بك؟ أما كنت ابتعت ظهرك؟ فقال كعب: والله يا رسول الله! لو
جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من غضبه بكلام، إني رجل شاعر، وإني قد أوتيت
جدلاً -أي: رجلٌ فصيح يستطيع أن يتكلم- لكن يا رسول الله، لئن غضبت عليَّ اليوم في
صدقٍ أقوله أرجو من الله عز وجل أن ترضى عني غداً، قال: قم حتى يقضي الله فيك وفي صاحبيك،
فقام رضي الله عنه وأرضاه لا يكاد يرى الطريق من الهم والغم، فلحقه قرابته من بني سلمة،
قالوا: كلنا اعتذر إلا أنت ما أحسنت تعتذر، فعد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأحسن
واعتذر بعذر، فقال رضي الله عنه وأرضاه: والله ما زالوا بي حتى أردت أن أعود فأكذب
نفسي عند الرسول صلى الله عليه وسلم -لكن عصمه الله- قال: فسألتهم هل معي أحدٌ وقع
في مثل ما وقعت فيه من التخلف؟ قالوا: معك رجلان: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قال:
فذكرا لي رجلين من أهل بدر صالحَين، قلت: لي بهم أسوة قال: فخرجت من المسجد، وقام عليه
الصلاة والسلام في أهل المدينة رجالاً ونساءً وأطفالاً وقال: لا تكلموا الثلاثة: كعب
بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع} فمنع صلى الله عليه وسلم الناس من كلامهم،
قال كعب بن مالك: {فتغيرت لي الأرض التي كنت أعهد، فوالله ما هي التي كنت أعرف، وضاقت
عليَّ الدنيا بما رحبت، كما وصف الله ذلك، وأظلم في عينيَّ كل شيء} لعل عتبك محمود
عواقبه وربما صحت الأجساد بالعلل واستمر الصحابة لا يتكلمون مع كعب، تأتي امرأته فتصنع
له الطعام وتعطيه إياه، ولا تلتفت إليه، إذا أتى يأكل أعطته ظهرها؛ لأنها تريد أن تقاطعه،
فالولاء والحب والبغض والعطاء والمنع لله، يقول لامرأته: اسقيني، فتأخذ الماء في الإناء
وتعطيه إياه وهي لا تلتفت إليه؛ لأنه رجل تخلف وعصى الله ورسوله، ينـزل إلى السوق فيسلم
على الصحابة لا يكلمه أحد، يذهب إلى أقاربه فلا يفتحون له الباب، لا يزوره أحد، هذا
هو مستوى المجتمع الذي رباه صلى الله عليه وسلم، قال: [[ فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت،
فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادة -وأبو قتادة هذا فارس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو
ممنوعٌ أن يدخل من الباب فأتى من الجدار، فهو ابن عمه ويريد أن يكلمه- قال: فتسورتُ
الجدار واقتحمت عليه البيت فدخلت، قلت: يا أبا قتادة! أسألك بالله! هل تعلم أني أحب
الله ورسوله؟ فلم يكلمني، قلت: يا أبا قتادة! أسألك بالله! هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فلم يجبني، فسألته في الثالثة ودمعت عيناي، فقال: الله ورسوله أعلم، قال: فعدت من الجدار]].
وبعد أن تمت لهؤلاء الثلاثة أربعون ليلة أرسل صلى الله عليه وسلم إليهم أن اعتزلوا
نساءكم.انظر إلى الشدة، وانظر إلى الكرب الشديد، وانظر إلى الزلزلة التي لا يعلمها
إلا الله، إنسان يرى أن الله من السماء قد غضب عليه بسبب معصية، وأن الرسول صلى الله
عليه وسلم قد قاطعه، وأن الصحابة لا يكلمونه، أين شعوره؟ وأين أشواقه؟ وأين حياته؟
وأين صبره؟قال: {فرفض الناس تكليمنا ولما تمت لنا أربعون يوماً أمر صلى الله عليه وسلم
أن نعتزل النساء، فأتت امرأة هلال بن أمية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: يا
رسول الله! ماذا أفعل؟ قال: اعتزلي هلالاً، قالت: يا رسول الله! هلال شيخٌ كبير، والله
ما زال يبكي منذ تخلف عنك إلى اليوم، والله ما يأكل من الطعام إلا قليلاً.
رسالة ملك غسان
لكعب بن مالك
قال كعب بن مالك:
كنت أنا أشب القوم -كان أصغر الثلاثة- فكنت أنزل إلى الأسواق فلا يكلمني أحد، أسلم
فلا يردون، قال: بينما أنا بالسوق إذا بنبطي -النبطي هذا يبيع ملابس، وقد أتى من الشام،
وهو أعجمي أرسله ملك غسان برسالة إلى كعب بن مالك يريد أن يغرق بينه وبين الرسول صلى
الله عليه وسلم- قال: ففتحت الرسالة -وكان كعب يقرأ- فإذا هي من ذاك الملك يقول: لم
يجعلك الله بدار مضيعة، وإنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسِك -يقول: الحق
بنا واترك الدين؛ فإن صاحبك محمداً صلى الله عليه وسلم جفاك- قال كعب: فقلت: هذا من
البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها -التنور هو الكانون، سحرتها أي: أحرقتها.ثم لبث
في بيته حتى تمت خمسون ليلة.وقد يقال الثمانون؟ أما تخلف ثلاثة وثمانون، ثلاثة يعيشون
المرارة والأسى واللوعة والقلق والاضطراب، وثمانون أين هم؟الثمانون منافقون جميعاً،
عفا عنهم صلى الله عليه وسلم وما عاتبهم؛ لأن هؤلاء منافقون، وحسابهم على الله ولا
ينفع فيهم الهجر، فهو كافر فكيف يعاتبه صلى الله عليه وسلم؟أما كعب بن مالك وصاحباه
فإن فيهم خير وإيمانٌ وجهاد وصدق، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.فقد أساءوا
لكنه صلى الله عليه وسلم يمحصهم بالعتاب، والعتاب فيه مرارة، حتى يقول كعب بن مالك:
{كنت أنزل فأحضر الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم -صلاة الفريضة- قال: إذا أتيت
وهو يصلي سلمت عليه، وقال: وإذا كان جالساً سلمت عليه، فوالله لا أدري هل يرد عليَّ
السلام أو لا، قال: فإذا سلمت من صلاتي أقبل على شأنه عليه الصلاة والسلام، فإذا قمت
أصلي التفتَ إليَّ عليه الصلاة والسلام} وتصور الصورة، الرسول صلى الله عليه وسلم يريد
أن يعاتب ويربي أحد تلاميذه الأخيار الأبرار الصادقين مع الله- يقول: إذا قمت أصلي
النافلة أتى صلى الله عليه وسلم ينظر فِيَّ ويتفقد حالي ويمد بصره فيَّ، قال: {فإذا
سلمت رجع عليه الصلاة والسلام ونكس رأسه}.
فلما تمت لهم خمسون
ليلة أتى الفرج من الله، من فوق سبع سماوات، ليس من أحد، وإنما من الله.أما المنافقـون
فالله يقـول: عَفَا اللَّهُ عَنْـكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43] يقول: ما لكَ تعفو عنهم وهم
قد كذبوا على الله وخانوا شرعه، وعطلوا الجهاد في سبيله؟! فلماذا تعفو عنهم؟! إنما
عفا عنهم صلى الله عليه وسلم، فعفا الله عنه ثم عاتبه.فتمت خمسون ليلة وأتى العفو من
الله عز وجل، قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118
.
توبة الله على كعب
وصاحبيه
قال كعب: {فصليت
الفجر على بيتي} كان بيته في سلع وسلع جبلٌ في المدينة قريب من مسجده صلى الله عليه
وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة}
أي: إذا تطاول الناس بالبنيان والعمران وبلغَتْ جبل سلع فاخرج من المدينة، فلما بلغ
البناء سلعاً خرج أبو ذر إلى الربذة.فصلى كعب بن مالك صلاة الفجر مكانه، قال: {ولما
سلمت من الصلاة، وإذا برجلٍ على فرس أقبل يريد أن يبشرني وبرجلٍ آخر على قدميه على
جبل سلع} يعني: الذي يمشي على رجليه صعد الجبل، والفارس أتى من الوادي يريدان جميعاً
أن يبشراه، وهذه شيمة المؤمن أنه يفرح لأخيه ويبشره إذا وقع ما يسره، وأن يقدم له ما
يفرحه؛ فإن هذا من عمل الخير ومن شيم المؤمنين، قال: {فسبق صوت ذاك الرجل الذي على
الجبل - فقد أراد الفارس أن يسبقه بالفرس، لكن ذاك صاح- وقال: يا كعب بن مالك! أبشر
بتوبة الله عليك، أبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك، قال: فسجدت لله شاكراً} وهذا سجود الشكر.وإذا
الحسن همى فاسجد له فسجود الشكر فرض يا أخي وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي وقالت
لي إليَّ فتعاميت كأن لم أرها حينما أبصرت مقصودي لدي والرسول صلى الله عليه وسلم كان
يسجد سجود الشكر إذا أتاه ما يفرحه ويسره عليه الصلاة والسلام، وفي إحدى المرات نزل
صلى الله عليه وسلم من على الدابة وسجد على الأرض والحديث حسن، فقال سعد بن أبي وقاص:
{ما لك يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل الآن أن الله يقول: لا يصلي عليك رجلٌ صلاة
إلا صليت عليه بها عشراً} فسجد عليه الصلاة والسلام من هذه النعمة، وأتاه كتابٌ من
علي من اليمن يبشره أن قبائل همدان قد أسلمت، فسجد عليه الصلاة والسلام شاكراً لله،
وقال: {السلام على همدان، السلام على همدان، السلام على همدان}
وللفائدة: لا يشترط
في سجود الشكر الوضوء، بل إذا أتاك ما يسرك ويفرحك فضع رأسك فرحاً لله عز وجل، خاصةً
في الأمور الدينية، وتأتي الأمور الدنيوية تبعاً، لكن بعض الناس لا يظن أنه انتصر إلا
إذا حصل على وظيفة أو منصب أو مال أو سيارة أو قصر، أما أمور الدين فلا يحسب لها ذلك
الحساب: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] فسجد رضي الله عنه ورفع رأسه.قال: {وكان عندي ثوبان}
وهم فقراء، وغنيهم قد يعادل فقيرنا اليوم، هو من أحسن الحال، عنده ثوبان وهو يحمد الله
عز وجل على أن عنده ثوبين، لكن عند بعضنا اليوم ثلاثين ثوباً، عشرة زرق وعشرة بيض وعشرة
صفر، وللعيد ثياب، وللأضحى ثياب، وللعرس ثياب، وللجمعة ثياب، بذخ، أما عنده فقال:
{كان عندي ثوبان -وفي رواية البخاري كان عندي إزارٌ ورداء-
قال: فلبست لباساً
قديماً ثم أعطيت هذا المبشِّر} من بشرك بشيءٍ فلك أن تعطيه شيئاً من المال، فلا يكون
الإنسان جافاً مثل الحجر صلداً، لابد من شيء، قال: {فلما بشرني خلعت له ثوبي ولبست
ثوباً قديماً وسلمت له الثوب -هذا جزاء البشارة- وذهبت إلى ابن عمي، فاستعرت منه ثوباً
فلبسته} لبس ثوباً جديداً ليلقى به الرسول صلى الله عليه وسلم.ومضى إلى المدينة، إلى
مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، وهو
جالس وسطهم كالبدر يقول شوقي:لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
يقول: مثل هؤلاء مثل النجوم إذا حفت بالقمر ليلة البدر أو مثل الجنود إذا حفوا بالعلم،
فالعلم محمد عليه الصلاة والسلام، والقمر محمد عليه الصلاة والسلام، والجنود أصحابه،
والنجوم أصحابه. أتى كعب رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم،
ودخل المسجد على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {فإذا وجه الرسول صلى الله عليه
وسلم كأنه قطعة قمر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر بالأمر رئي وجهه يبرق من السرور}
.فجلس كعب بن مالك
بعد أن قام له طلحة بن عبيد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أبشر يا كعب بخير يومٍ
مر عليك منذ ولدتك أمك} قال كعب: فبكيت من الفرح.
قال عليه الصلاة
والسلام {يا كعب: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك -يوم تاب الله عليه- قال كعب:
يا رسول الله! إن من توبة الله عليَّ أن أتخلع من مالي} يقول: من حق الله ما دام أنه
قد تاب عليَّ وقبلني، فمن حق الله عليَّ أن أنخلع من مالي، وأتصدق به في سبيل الله.قال
الرسول صلى الله عليه وسلم: {أبقِ عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك} وهذا مبدأ في الإسلام
لابد أن يُتْنَبَه إليه، بعض الناس يمدح بعض الناس يقولون: لا يمسك درهماً ولا ديناراً!
وورثته ومكسبه وأهله وأطفاله أين يذهبون؟! قال صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص:
{إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس} فيقول رسول الله
لـكعب بن مالك: {أبقِ عليك بعض مالك، فهو خير لك؛ فإني أمسك سهي الذي بخيبر} وعاد كعب
وقد فرح بعفو الله ورحمته ورضوانه، وكان له هذا فرجاً بعد الشدة، أي: أن الله فرج كربته
بعدما اشتدت عليه الضوائق، قال الشافعي:ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله
منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج قال ابن عباس: [[لن
يغلب عسرٌ يسرين]] قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6] وهنا سؤال: كيف يقول ابن عباس: [[لن يغلب
عسرٌ يسرين]] وهو قد ذكر في الآية العسر مرتين وذكر اليسر مرتين، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6
قول ما تسمعون واستغفر
الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه
والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على من جاء بالصدق وأمر به وحذر ونهى
عن ضده صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحابته ومن صدقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون:
إن من ثمار الصدق
التوفيقُ للخاتمة الحسنة، عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ
جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ،
ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْضَ أَصْحَابِهِ.
فَلَمَّا كَانَتْ
غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ
لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا
جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟، قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: «قَسَمْتُهُ لَكَ»، قَالَ: مَا
عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا،
وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «إِنْ
تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ»، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ،
فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ
سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهُوَ
هُوَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ»، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ
هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى
ذَلِكَ»
الصادقون يجدون
ثمرة صدقهم يوم القيامة إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر قال تعالى: ﴿ قَالَ
اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة 119
عباد الله: إن الله
تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
﴾ [الأحزاب: 56.
تعليقات: (0) إضافة تعليق