أولاً : العبرة بانقضاء
الأيام والسنوات : ثانياً : ساعة في نقد الذات :
ثالثاً : أعدى عدو
لك هو نفسك التي بين جنبيك : رابعاً : ومن هنا عليك بمُحاسَبة النفس :
خامساً : ورحمة الله
قريبة مِن المُحسِنين : سادساً : كيف تطمئن النفس ؟ :
سابعاً : مشقة الحساب
يوم القيامة : ثامناً : فلتسارع إلى الله بالتوبة :
الموضـــــــــــــــــــــــــوع
:
الحمد لله رب العالمين
: فتح بابه للطالبين ، وأظهر غناه للراغبين ، وبسط يده للسائلين ، قصَدَتْه الخلائق
بحاجاتها فقضاها وتوجهت له القلوب بلهفاتها فهداها ، وضجت إليه أصوات ذوي الحاجات فسمعها
، ووثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعها وطمعت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها . وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له : بابه الكريم مناخ الآمال ، ومحط الأوزار ، لا
ملجأ للعباد إلا إليه ، ولا معتمد إلا عليه . وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله :
وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، أرسله ربه رحمة للعالمين وحجة على
العباد أجمعين , فهدى الله به من الضلالة , وبصر به من الجهالة , وكثر به بعد القلة
, وأغنى به بعد العيلة , ولمَّ به بعد الشتات , وأمَّن به بعد الخوف , فصلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر وسلَّم تسليمًا كثيراً
أما بعــــــــــــــــــــــــــــــــد
:
أولاً : العبرة بانقضاء
الأيام والسنوات :
إذا رغبنا أن نتحدَّث
عن تزكية النفس فبلا شك أن الظرف الزماني الذي نعيش فيه يُعَد مُناسِباً ، فهذا عام
من العمر قد تصرم ، وانتهت تلك السنة ودخلت السنة الجديدة ، والعمر يمضي والعبد يسير
إلى ربه مرحلة بعد مرحلة ، حتى يقدم عليه سبحانه وتعالى ، انقضت سنة من عمر الإنسان
في نفسه ، وانقضت سنة من تاريخ المسلمين بمجملهم ، وذهبت تلك السنة بأتراحها وأفراحها
، والحياة تسير بك وبغيرك .
وإن أصعب ما في هذه
الدنيا ، أن العالم لا يتوقَّف لأحد حتى ولو كان نبياً ، الأنبياء كانوا يموتون والعالم
لا يتوقَّف ، تظل الشمس تُشرِق وتُغرِب على سَننها المعهود ، والناس يروحون ويجيئون
ويأكلون ويشربون ويأتون أهليهم ويسعون في مرمة معاشهم ، فالدنيا لا تتوقَّف لا لنبي
ولا لرسول ولا لملك ولا لعالم ولا لجاهل ولا لغني ولا لفقير ولا لأحد .
الدنيا لا تتوقَّف
حتى لموت جماعة من الناس أو أمة ، أهل بلد يُقتَلون من عند آخرهم والدنيا تمضي ، الدنيا
قاسية ، وهذا سر قسوتها ، ولذلك إياك أن تجعلها معبودة من دون الله ، هذه الدنيا لا
تستأهل ، لا تستأهل أن تجعل وجهك لها ، وأن تعمل لها ، لأنك حين تُغادِرها لن تتوقَّف
لك ثانية واحدة حتى .
ولذلك اعمل لوجه
مَن تقدم عليه وتُقبِل عليه لا إله إلا هو، فما يتبقى لك هو ما استثمرته لنفسك يوم
لقاء ربك ، وليس ما استثمرته عند الآخرين ، من مكانتك وشهرتك وحُب الناس لك ، كل هذا
لا طائل من ورائه في نهاية المطاف ، كل هذا حين يأتي يأتي عرضاً وليس غرضاً ، ويأتي
على خلفية إحسانك وتقواك لله وعملك الصالحات فيكون من المُبشِّرات – بإذن الله تعالى
– كما قال مولانا رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام في الحديث الشريف “عاجل بُشرى
المُؤمِن”، المُؤمِن الصالح التقي – اللهم اجعلنا صالحين طيبين مُبارَكين مُتقين –
حين يمدحه الناس ويذكرونه بالخير هذه عاجل بُشراه لأن ألسنة الخلق أقلام الحق .
أما ما يأتي من المدح
والتعظيم والإجلال والمحبة والشُهرة والمثابة عند الناس والاعتبار – شتى وجوه الاعتبار
– على غير خلفية إحسان العمل وتقوى الله – والله – لا قيمة له ، كله هباء وهواء وخيال
ووهم لا فائدة من ورائه .
إن قضية العود إلى
الله – تبارك وتعالى – وتزكية النفس ، ينبغي أن تُقدَّم في رأس القضايا التي يُوليها
المرء اهتمامه وعنايته ، لأن هذا ما سيتبقى لك .
ومن هنا كان لا بد
من الحزن والندم على ما مضى ، والالتفات إلى ما بقي ، فالإيمان قائد ، والعمل سائق
والنفس حرون ، فإن فتر السائق ضلت عن الطريق ، وإن فتر القائد حرنت واستعصت ، وإذا
اجتمعا استقامت ، والنفس إذا أطمعت طمعت وإذا فوض الأمر إليها أساءت ، وإذا حملت على
أمر الله حملاً صلحت، قال تعالى : ’’ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ ’’ سورة يوسف٥٢، وقال : ’’ قَدْ أَفْلَحَ مَن
زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ’’ سورة الشمس ٩، ١٠.
ثانياً : ساعة في
نقد الذات :
إذا تذكرنا الحقيقة
القائلة بأن الأمة بشطريها القادة والشعب ، ما هي إلا شخصية اعتبارية واحدة ، إذا تذكرنا
هذه الحقيقة فلنعلم أن على هذه الشخصية متمثلة في سائر أفرادها ، أن تعكف على ساعة
قدسية من نقد الذات وأن تعيد تنسيق المسؤوليات فيما بين أجزائها وأعضائها ، فما أكثر
ما ترامت هذه الأعضاء مسؤولياتها بعضها على بعض . هذه الحقيقة يذكرنا بها دائماً كتاب
الله عز وجل، وتأملوا يا عباد الله في هذه الآيات التي تأمرنا بهذه الساعة القدسية
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ
مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
) ،الحشر :1 . وتأملوا في قوله سبحانه وتعالى : ( بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) ، القيامة : 14-15 .
فبوسع كل واحد منا
أن يعلم نقائصه : وأن يقف أمام هوية ذاته ، وتأملوا في قوله سبحانه وتعالى في محكم
تبيانه وهو يقول : (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) الانفطار : 5 ، وهذا
العلم إنما هو في دار الدنيا كما قال العلماء .
عباد الله : إن لم
تنطلق الأمة أفراداً من العكوف على هذه الساعة القدسية – نقد الذات ، ومحاسبة النفس
– فإن القوانين مهما كثرت لا تصلح فاسداً ، ولا تقوِّمُ اعوجاجاً ، وإن موادها مهما
تناسقت أيضاً هي الأخرى ، لا تصلح فاسداً ولا تقوِّمُ اعوجاجاً ، فالمنطلق إنما يتمثل
في نقد الذات . وتعالوا نضرب بعض الأمثلة التي تجسد هذه الحقيقة التي يضعنا أمامها
بيان الله سبحانه وتعالى :
ما أكثر ما تتظالم
أفراد الأسرة الواحدة : ما أكثر ما يتظالم الزوجان ، لأن الزوج قد أهدر حقوق الزوجة
فيما يتعلق بحقها بالمهر ونحوه ، وما أكثر ما أهدر حق الزوج من قبل الزوجة في كثير
مما شرع الله وأمر ، لأن أياً منهما لم يعكف على ساعة قدسية من محاسبة النفس ، ما أكثر
ما يتظالم الأولاد ذكوراً وإناثاً ، لأن الإناث حرمن من حقهن في الميراث لأنهن إناث
، ولعلكم تعلمون هذه الظاهرة الجاهلية التي لا تزال تسري إلى كثيرٍ من البيوت ، والمجتمعات
، ومن ثم فإن الأحقاد والضغائن هي التي توضع في مكان المحبة والوئام .
وتعالوا ننظر إلى
أسواق التعامل : ما أكثر ما يتظالم رجال المال والأعمال مع الناس من المستهلكين الذين
يغشون أسواق العمل وأسواق الاقتصاد ، وذلك لأن التجار ورجال الأعمال منصرفون إلى أبواب
الرشاوي ، والتي تجعلهم يفرون من القوانين والشرائع ، وتجعلهم يتملصون منها ذات اليمين
آناً ، وذات الشمال آناً ، أو يعكفون على ابتداع وسائل الغش والخداع والغرر ، وما أكثر
هذه الأنواع وما أكثر ما يُبتَدَعُ منها اليوم ، ومن ثم فإن علاقة ما بين هؤلاء الناس
بعضهم مع بعض تتحول إلى أحقادٍ وضغائن بدلاً من أن يمتد فيما بينها نسيج الأخوة ، نسيج
التعاون والوئام ، ترى ماذا عسى أن تصنع الشرائع المكتوبة ، وماذا عسى أن تفعل القوانين
المرسومة عندما تغيب هذه الساعة القدسية ، ساعة العكوف على نقد الذات ومحاسبة النفس
، وصدق من قال : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ) .
وتعالوا نتأمل في
الليالي وما تُحشى بها هذه الليالي وساعاتها : تعالوا نتأمل في العمر الثمين ، الذي
لا أقول ملكنا الله عز وجل إياه ، بل ائتمننا عليه ، فيم تزهق هذه الساعات ، فيم تتبدد
بل هذه الدقائق وهي أمانة وضعت في أعناقنا ، ونحن نعلم أيها الإخوة مما سمعنا الآن
من بيان الله عز وجل أن الإنسان مدفوع إلى هذه الساعة القدسية من محاسبة النفس ونقد
الذات ، مدفوع إلى ذلك من اليقين بالحقيقة التي لا ريب فيها ، وهي أننا نعيش من حياتنا
هذه في ممر نعبره إلى مقر، من لم يؤمن بذلك اليوم طوعاً ، فلا بد أن يستيقنه غداً قسراً
واضطراراً، هذه هي الحقيقة ينبغي أن نتبينها .
ثالثاً : أعدى عدو
لك هو نفسك التي بين جنبيك :
لما أراد الله أن
يتكلم عن النفس : قال : ’’ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى
رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي
’’ . وقال : ’’ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
’’ . وقال :’’ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي
’’ . وقال : ’’ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ’’ .
فيا ترى : هل هذه
النفس المُطمئنة ، هى ذات النفس التي أقسم الله تبارك وتعالى بها في سورة الشمس ، وإذا
كان كذلك فما موضع النفس الأمّارة بالسوء ، ثم ما موضع النفس اللوّامة ؟
هل ينطوي كل واحدٍ
منا على أنفس متعددة ، على ثلاث أنفس مثلاً ؟ بالضرورة يجد واحدنا من نفسه أنه واحد
، أي أنه كيانٌ واحد وليس كياناتٍ ثلاثة ، وهذه النفوس المذكورة في كتاب الله تبارك
وتعالى – أي النفس الأمّارة بالسوء ، والنفس اللوّامة ، والنفس المُطمئنة – هى نفسٌ
واحدة وهذه أنحاء ثلاثة لها ، هذه وجوه ثلاثة لها ، يغلب نحوٌ منها ، فيغدو ويُصبِحُ
صاحبها صاحب نفس أمّارة بالسوء – مثلاً – وقد يغلب عليه النحو الثاني وهو النفس اللوّامة
شديدة اللوم والعتب والحساب لصاحبها فيُصبِح صاحب نفس لوّامة ، وقد ينتهي به الأمر
إلى النهاية السعيدة ويغلب عليه النحو الثالث العالي الراقي وهو النفس المُطمئنة ،
فيُصبِح صاحب نفسٍ مُطمئنة .
والنفس الأمّارة
بالسوء : هى ذات الجاذبية الأثقل في الإنسان ، والدليل مُشاهَد بالعيان وهو أنك ترى
مُعظَم الناس إلى التحلل والانحراف عن طريق الله تبارك وتعالى ، ومعصية الله أقرب وأدنى
، والناس ليس يغلب عليهم الصلاح ، فترى كثرتهم الصالحين وكثرتهم المُتقين وكثرتهم من
أولياء الله ، هذا غير صحيح لأن هؤلاء نُدرة ، هؤلاء امتياز، صلاحهم امتياز لهم ، وهم
قلة فاللهم اجعلنا منهم ، مُعظَم الناس يحطبون في حبل المعاصي لا يلوون على شيئ ، أحياء
كأموات كما قال تبارك وتعالى ، لأن جاذبية النفس الأمّارة بالسوء ثقيلة جداً ، لها
جاذبية فائقة ، فالأمّارة بالسوء تتضمَّن وتُشير إلى الجانب الغرزي الحيواني البهيمي
فينا ، ما يتعلَّق بالأكل والشرب والتعاطي مع ذلك الشأن الذي تعرفون ، النساء ، وأيضاً
السُلطة ، والسطوة ، والقوة ، وما يتفرَّع عنها من الغضب ، والانتصار للنفس ، والانتقام
للذات ، ومحبة الامتيازعلى عباد الله ، وهذا مُلاحَظ في كل واحد منا ، الإنسان بما
هو إنسان فيه هذه الجوانب ، وقد تذهب بالإنسان مذهباً يُلحِقه بالمجانين أو الحمقى
. فبعض الناس إن رأى من نفسه تميزاً على أخيه أو صاحبه أو جاره بشيئ يسير من المال
، شمخ وذهبت به نفسه كل مذهب، لأنه أعلى وأغنى قليلاً في باب المال .
وبعض الناس إذا حفظ
شيئاً يسيراً أزيد من أخيه طالب العلم مثلاً يرى نفسه عليه ، فالإنسان يُحِب أن يمتاز
وهذا من حمقه ومن أنانيته ، يدور حول نفسه بطريقة مجنونة ، الإنسان يُحِب أن يمتاز
بأي شيئ ، كأن يقول أحدهم أنني أعرف ما لا تعرف ، وأملك ما لا تملك وأُحسِن ما لا تُحسِن
. فالنفس الأمّارة ذات ثقل فائق وجاذبية مُتعِبة ، ومن الأسهل على الإنسان أن يستجيب
لها طبعاً ، من الأسهل على الإنسان النفس الأمّارة بالسوء ، كما قلت لكم ، هى نفس الغريزة
ونفس الشهوة ، يمدها الشيطان وهى مددٌ لنفسها ، فالله يقول : ’’ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا ’’ ، فهذا مغروس ومدفون أو دفينٌ فيك ، المدد من ذاتها ، ومن الشيطان،
أي اثنان ، فإن لم يُقاوِمها ، ويقاوم شيطانه معها ، ينتهي إليها ، وإلى ما تُريد ،
فمن ترك سلطان النفس حتى ’’ ...... طغى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) ، النازعات:38-41 .
أما النفس اللوّامة
: فتأتي في برزخ أو في منطقة وسط بين النفس الأمّارة والنفس المُطمئنة ، حين ينجذب
الإنسان للنفس الأمّارة على وجهٍ لا يُرضي الله تبارك وتعالى ، تقوم له هذه النفس اللوّامة
، فتُقرِّعه وتُبكِّته وتُثرِّب عليه وتعتب عليه . قال الحسن البصري رضيَ الله تعالى
عنه وأرضاه : ( إن المُؤمِن جمع إحساناً وشفقة - أي دائماً يُقرِّع نفسه مع أن غالب
أمره الإحسان - وإن المُنافِق جمع إساءةً وأمناً ) ، المُنافِق هذا كالكافر، هذا الذي
استنام واطمأن لنفسه الأمّارة وانجذب إليها بالكُلية ، فلا يكاد يُقاوِمها إلا فيما
ندر و قل ، ويكون عظيم الثقة أن الله يُحِبه ويغفر له ، وأنه إن رُدَّ أو رُجِع إلى
ربه إن له عنده للحُسنى أكثر منك ومني ، ومن كل هؤلاء الذين دأبوا أنفسهم وأتعبوها
في ذات الله تبارك وتعالى – اللهم اجعلنا منهم – وهذا شيئ عجيب بل أن هذا من العمى
، قال تبارك وتعالى في صفة عباده الصالحين :’’ و الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ’’ ، فكأن الحسن البصري تلمَّح معنى
هذه الآية ، قالت أم المُؤمِنين عائشة رضوان الله عليها : يا رسول الله ’’ الَّذِينَ
يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ’’ – هم في حال الوجل والخوف مما آتوا
– ’’ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ’’ هل هو الرجل الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟
قال صلى الله عليه وسلم : “ كلا يا ابنة الصدّيق ، بل هو الذي يُصلي ويصوم ويتصدَّق
ويخاف ألا يُقبَل منه ” .
فهذا هو المُؤمِن
: جمع إحساناً وشفقة ، بفعل نشاط النفس اللوّامة فيه ، لا يكاد يُغلِّب حُسن الظن بنفسه
، يُسيء دائماً في أكثر الأوقات والأحوال الظن بنفسه ، يخاف منها ، لأنه يخاف من جذب
النفس الأمّارة ، يخاف إن استنام قليلاً تجذبه تلك الملعونة النفس الأمارة ، وكم قد
رأينا ذلك ، ولذلك يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم عليهم صلوات ربي وتسليماته
أجمعين وعلى نبينا وآل كلٍ ، قال تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
’’ .
هل هذه مُنيتك أن
تموت مسلماً : طبعاً هذه مُنية كل عاقل لأن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة ، وهذا يوسف
عليه السلام الذي قال : ’’ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ’’
، أي أن أهم شيئ أن أموت مُسلِماً – يالله – لأن الحي قد يُفتَن والعياذ بالله ، لأنه
إن لم يصل إلى المُعاَدلة المطلوبة في مُعامَلة هذه النفوس ، قد يُفتَن وقد يُكَب على
وجهه ويتردى ، والآلم والأبأس هو أنه لا يفطن إلى هذا ولا يتأثَّر به .
كم ذا قد رأى أحدنا
رجلاً كان عليه سيماء الصالحين وبهجة القرآن وجمال الإيمان ، ثم حار وانقلب وبدأ يتعاطى
المعاصي ، وأذية عباد الله ، وهتك حُرماتهم وتغوّل حقوقهم فاسود وجهه ، يسود السواد
المعنوي ، وابشعت خلقته وأصبح حين تنظر إليه يظهر فيه شيئٌ يُنفِّرك منه واختبط ، يتخبَّط
كالذي مسه الشيطان ، وهو راضٍ مسرور بنفسه .
وهذه الحالة مُخيفة
فتجعلك تخشى على نفسك أنني يُمكِن أن اُغمَر في مثل هذه الحالة ، ثم لا أفطن إلى التغير
المُريع الذي طرأ على كياني ، على نفسي ، على ذاتي ، وكل واحد مُمكِن أن تحدث له هذه
الحالة ، فنسأل الله الحفظ والسلامة . والتسديد والتوفيق من الله شيئ مُهِم ، فقبل
أن تصل إلى هذه المُعادَلة أنت في خطر ، ووضعك كله في خطر، ومشوارك كله ومسيرتك في
خطر، فعليك أن تكون واعياً باستمرار.
رابعاً : ومن هنا
عليك بمُحاسَبة النفس :
كما تُحاسِب شريكك
الشحيح الخوّان ، مثل لو دخلت مع شريك خائن يتغوَّل حقك وربحك ، وربما يأتي على رأس
المال إن غفلت عن مُحاسَبته ومُحاقَقته أولاً بأول كما يُقال ، النفس لابد أن تُحاسَب
أكثر مما يُحاسَب الشريك الخوّان الشحيح ، ومن هنا كان الصحابة شديدي الحساب لأنفسهم
في دقائق الأمور وكذلك التابعون وتابعو التابعين ، الصالحون عموماً هذه سمتهم ، والنبي
نفسه هو الذي سنَّ لنا هذه السُنة ونهج لنا هذه الطريق في تزكية النفس . وذلك بتقويمها
وتزيكتها وفطامها عن مواردها ، وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها ، فإن أهملتها
جمحت وشردت ، ولم تظفر بها بعد ذلك ، وإن لزمتها بالتوبيخ ، رجونا أن تصير مطمئنة ،
فلا تغفلن عن تذكيرها. عنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ
كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ
مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا
مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ
وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا
لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( وَمَا ذَاكَ
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ
حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأزْوَاجَ
وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ
عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ
وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلاثَ مَرَّاتٍ )) ، فهنا حنظلة حاسب نفسه
على ما ظنه تقصيراً .
وسبيلك أن تقبل عليها
، فتقرر عندها جهلها وغباوتها : وتقول لها : يا نفس ، ما أعظم جهلك ، تدعين الذكاء
والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً ، أما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار؟ فكيف
يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير ؟! وربما اُختطف في يومه أو في غده ! أما تعلمين أن
كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتي بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل
نفس من الأنفاس ، يمكن أن يكون فيه الموت فجأة ، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة
، ثم يفضي إلى الموت، فمالك لا تستعدين للموت وهو منك قريب ؟ فاعملي قبل أن تتمني الرجعة
يوماً فلا يستجاب لك: ’’ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ
’’ ، المؤمنون:99-100، فيكون الجواب: ’’ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ’’، المؤمنون:100 .
يا نفس : إن كانت
جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك ! وإن كانت جرأتك
مع علمك باطلاعه عليك ، فما أشد رقاعتك ، وأقل حياءك ! ألك طاقة على عذابه ؟ جربي ذلك
بالقعود ساعة في الحمام ، أو قربي أصبعك من النار. يا نفس ! إن كان المانع لك من الاستقامة
حب الشهوات، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات .
وما قولك في عقل
مريض : أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟! فما
مقضي العقل في قضاء حق الشهوة ؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر ؟ أم يقضي شهوته
في الحال ثم يلزمه الألم أبدًا ؟ فجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل
الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة
بالإضافة إلى عمر الدنيا .
وليت شعري: ألم الصبر
عن الشهوات أشد وأطول ، أم ألم النار في الدركات ؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة
، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة ؟ أشغلك حب الجاه ؟ أما بعد ستين سنة أو نحوها ، لا
تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه , هلا تركت الدنيا لخسة شركائها ، وكثرة عنائها ،
وخوفًا من سرعة فنائها , أتستبدلين بجوار رب العالمين . وتذكري يانفس أن يومها لا ينفعك
إلا ما قاله الله تبارك وتعالى ’’ يوم لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ’’ هذه هى الحكمة وهذا هو العقل .
يا نفس : متى ستعيشين
بالإسلام وللإسلام؟! يا نفس! متى ستحافظين على قراءة القرآن، وعلى هدي النبي عليه الصلاة
والسلام، وعلى تحقيق التوحيد لله، وعلى بر الوالدين، وعلى الإحسان للجيران؟! ومتى ستبذلين
المال للفقراء؟! ومتى ستحسنين العمل؟! متى متى متى ...؟!
يا نفس : أما لك
بأهل القبور عبرة؟! أما لك إليهم نظرة؟! كانوا كثيراً، وجمعوا كثيراً، فأصبح بنيانهم
قبوراً، وأصبح جمعهم بوراً ! ألا تفكرين في القبر وضمته؟! ألا تفكرين بالصراط ووحدته؟!
ألا تفكرين في النار والأهوال والأغلال؟! أما تخشين من الحجاب عن النظر إلى وجه الكبير
المتعال؟! ويحك يا نفس فـــ’’ الكَيِّس مَنْ دانَ نفسَه، وعَمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ
مَنْ أتْبَعَ نَفَسَهُ هَواهَا وتمنَّى على الله الأماني ’’ ، أخرجه الترمذي عن شداد
بن أوس .
يا نفس قـد أزف الرحـيل
وأظلك الخطب الجليــل
فتأهبي يا نفـــــــــــس
لا يلعبن بك الأمل الطـويل
فلتنـزلن بمنــــــــزل
ينـ ـسى الخليل به الخليـــل
وليركبن عليك فيـــــــه
من الثرى حمل ثقيـــــــــل
قرن الفناء بنا جميعـــاً
فما يبقى العزيز ولا الذليل
خامساً : ورحمة الله
قريبة مِن المُحسِنين :
ومَن هم المُحسِنون؟
هم هؤلاء الذين في حال مُراقَبة دائمة لله تبارك وتعالى ، ومُحاسَبة دائبة لأنفسهم
، فيُوشِك بعون الله وفضله ومّنه ، أن يترقوا إلى منزلة أهل المُشاهَدة ، أي أن تعبد
الله كأنك تراه ، وهذا هو الإحسان ، ’’ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
’’ . هؤلاء هم ، ولا يتأتى ذلك بالمراقبة والمحاسبة وحدهما ، دون العمل ، بل بهما معاً
، و بدون العمل تقريباً لا أمل، وعلينا أن ننتبه إلى هذا حتى نفهم الأمور فهماً سليماً
، فلا يبنغي أن تترك العمل ، وتفعل ما تُريد وتأخذ ما تشتهي ثم تقول : “ الله غفور
رحيم’’ و ’’ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ “ .
فهل أنت منهم؟ هل
كنت مُحسِناً حين ودعت الصلاة وفرَطت فيها ، وهى وسيط الله لأنبيائه ، وهذا عيسى عليه
السلام ، الذي أحيا الله على يديه وأحيا له الموتى قال : ’’ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ’’ ؟
هل أنت مُحسِن وأنت
لا تشتاق إلى ربك؟ ولو اشتقت إليه حقاً لما اكتفيت بخمسة أوقات فقط فتُصِف قدميك واقفاً
بين يديه لا إله إلا هو لأن هذا لا يُشبِعك ، ستأخذ في شيء آخر ، لو كنت مُحسِناً ،
’’ ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ’’ .
هل أنت محسن وأنت
ترى لنفسك فضلاًعلى إخوانك : إن الصحابي الجليل أبو عُبيدة بن الجراح أمَّ الناس مرةً
، قالوا له تقدَّم يا صاحب رسول الله أُمّ فأمَّ ، وهو أمين هذه الأمة ، ومن هنا كان
أميناً لأنه أمين حتى على خلجات نفسه ، أمين على ما في قلبه وحناياه ، فأمَّ الناس
وبعد قليل قال :“ لم يزل الشيطان بي - أي لزمني الشيطان بعد أن أمّيت الناس فظل يُوسوِس
له ويُسوِل له - حتى رأيت أن لي فضلاً على مَن كان خلفي ” . كأن الشيطان يقول له :
“ قدَّموك لأنك تُحسِن قراءة القرآن أكثر منهم ، وصوتك أحسن لأن فيه خشوع ، ثم أن عليك
سيماء التقوى والمُخبِتين ، ولو لم يكن في علم الله لما يسَّر الله تقديمك ” ، فالشيطان
لعين – لعنة الله عليه – ويُريد أن تُعجِبه نفسه، يُريد أن يغره بنفسه ، فقال أبو غُبيدة
“ لا والله لا أؤم أبداً ” ولم يؤم بعدها أحداً . ولذلك تسمع عن كبار أولياء الله في
كل زمان - وهم قلة قليلة جداً - أن الواحد منهم يعيش سبعين وثمانين سنة ولا يؤم أحداً
، أرأيت سوء الظن بالنفس ؟
وهذا أبو حازم الأعرج
رضوان الله عليه : وهذا لقبه ، الله يقول : ’’ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ
’’ ، ولكن هذا لقبه الذي عُرِف به وهذا جائز في هذه الحالة ، أبو حازم الأعرج – سلمة
بن دينار – رأس من رؤوس أولياء هذه الأمة ، يقول لنفسه مرةً : “ يا أعرج يُنادى يوم
القيامة ليقم أهل خطيئة كذا وكذا فتقوم معهم - أي ستقوم لأن عندك هذه الخطيئة - ثم
يُنادى ليقم أهل خطيئة كذا وكذا فتقوم يا أعرج ، فأُراك يا أعرج تقوم مع أهل كل ذنبٍ
وخطيئة ” ، والذي يسمع هذا الكلام سيقول : هذا كان يعمل السيئات ، وليس كذلك فهو من
أولياء المُقرَّبين ، ولكنه كان شديد المُحاسَبة لنفسه ، شديد سوء الظن في نفسه ، وهذه
هى النفس اللوّامة التي هى طريق النفس المُطمئنة ، فلا طمأنينة للنفس إلا بالنفس اللوّامة
.
سادساً : كيف تطمئن
النفس ؟ :
الطمأنينة في الأصل
هى السكون ، سكون الشيئ الحسي كسكون البدن ، فإذا سكن بدنك يُقال اطمأن ، فهى حقيقة
في سكون البدن ، ومجاز في سكون العقل والقلب والنفس ، اطمأن قلبك واطمأنت نفسك مجاز،
ولكن لشيوع هذا المجاز أصبح مُعادِلاً للحقيقة ، فيقول لك أحدهم اطمأن باله أو أنك
طمنته وطمأنته، ويُقال أيضاً المُطمئن . أو المُطمأن بالفتح . قال الله تعالى ’’ يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ’’ وقال أيضاً : ’’وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا
’’ .
ويُوجَد في كتاب
الله أكثر من ضرب من الطمأنينة : فهناك مثلاً طمأنينة الإيمان حيث أن الله يقول
:’’ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ’’ هذه طمأنينة
الإيمان. وهناك طمأنينة أهل الهوى والدنيا المُتمثِّلة في قوله في سورة يونس : ’’ إَنَّ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ
بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ’’ فهذه طمأنينة ، ولكنها ليست طمأنينة
أهل الإيمان ، وإنما طمأنينة أهل الهوى والدنيا ، وهي طمأنينة منقوصة ، ولكنها طمأنينة
حيث أن يُمكِن للنفس أن تطمئن ، لأن النفس ما لم تطمئن على وجه من الوجوه ، ظل صاحبها
كالمجنون فيتخبَّط المسكين مثل ميزان ، ترفع هذه الكفة ثم ترجح ، ثم ترفع الكفة الأُخرى
ثم ترجح وهكذا يتخبَّط ، والناس تقول لك عن هذا الشخص أنه ليس طبيعياً ، ولكن هو مجنون
ومُضطرِب الشخصية ، وهو فعلاً هكذا .
ولكن الطمأنينة الكاملة
: هى طمأننية الإيمان التي تأتي على جميع وجوه القلق الإنساني فتبدده وتنهيه ، وقد
يفهمها الكهول والشيوخ أكثر مما يفهمها الشباب ، فالشاب يطير مُندفِعاً ، لأن أهم شيئ
عنده أن ينجح وأن يأتي بالأموال وأن يشتري السيارة وأن يخطب الفتاة الجميلة ، وأن يملك
هذا القصر ، وهو يعتقد أن هذه هى السعادة ، ولكنه سيتبين له عكس هذا كله ، بعد أن يُحقِّق
كل شيئ ويبدأ يشيب ، وتضعف قواه الحسية والعقلية والبدينة ، فيتساءل الواحد منهم: وماذا
بعد ؟
هل هذا هو فقط وانتهى
كل شيئ؟ نحن فعلنا كل ما نُريد لنا ولأولادنا فماذا بعد ؟
إذن طمأنينة الإيمان
هنا تأتي عبر تحكيم النفس اللوّامة في النفس الأمّارة بشرع الله ، لا بالهوى وقيم المُجتمَع
وحدهما، بل بشرع الله أولاً وأخيراً، أهم شيئ شرع الله ، لكي يحدث التصالح الأكبر مع
النفس والطمأنينة الأعظم بإذن الله تبارك وتعالى .
فالنفس المطمئنة:
هي النفس التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً ونبياً .
هي النفس التي اطمأنت
إلى أمر الله ونهيه ، ووعد الله ووعيده ، واشتاقت إلى لقاء الله عز وجل .
قال أحد السلف:
[ مساكين والله أهل الغفلة خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب
ما فيها؟ قال: ذكر الله والأنس به ] . فلا يتذوق المؤمن طعم الأنس ولا حلاوة القرب
إلا في طاعة الله جل وعلا، ولا تشعر بلذة الطمأنينة وحلاوتها إلا مع الله جل وعلا
.
والنفس المطمئنة:
هي النفس الراضية عن الله عز وجل وعن شرعه وعن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً) والحديث في صحيح مسلم .
: سابعاً : مشقة
الحساب يوم القيامة
اعلم أنه لن يخف
الحساب يوم القيامة إلا على من حاسب نفسه في الدنيا
قال عمر بن الخطاب
: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر
يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا ]
.
تصور هذه اللحظات
لتقف على حجم الهول الذي يراه الناس يوم القيامة ، لحظات يقف فيها العبد على بساط العدل
بين يدي الله جل وعلا، وقد دنت الشمس من الرءوس مقدار ميل وغرق الناس في عرقهم كل على
قدر عمله، وأتي بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، فإذا
رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت، فتجثوا كل الأمم على الركب من هول الموقف .
تذكر وقوفك يوم العرض
عرياناً مشتوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ
ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي
على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر
قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه
يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في
النار مسكنهم والمؤمنون بدار الخلد سكانا
مثل لنفسك أيها المغرور
يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار
وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت
وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت
بأصولـها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلـت
وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى
القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا الجليل طوى
السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصائحف نشرت
وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الوليد بأمه
متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف
جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت
نيرانـها ولها على أهل الذنوب زفيـر
وإذا الجنان تزخرفت
وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
وصدق ربي حيث يقول:’’
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً
صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ
لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً
* يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ
لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ
ظُلْماً ’’ ، طه:105- 111 . وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ، تذكر هذه
اللحظات لتقف على مشقة الحساب بين يدي رب الأرض والسماوات، ففي الصحيح من حديث عائشة
أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب )،
قالت عائشة: يا رسول الله! أليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ؟! الانشقاق:7-8، قال: ( ليس ذلك الحساب يا
عائشة ! إنما ذلك العرض، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب ) .
والعرض : هو أن يعرض
الله على العبد أعماله، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه
ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم،
وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ) .
وفي الصحيحين من
حديث عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يدنى المؤمن
من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه) أي: يقول الرب سبحانه:
(عبدي لقد عملت كذا وكذا أي: من الذنوب والمعاصي، يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم
كذا وكذا ) ، فيقول المؤمن: رب أعرف ، فيقول الله عز وجل: ( ولكن سترتها عليك في الدنيا
وأغفرها لك اليوم ) .
انظروا إلى فضل الله
عز وجل، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب، فإن الهول شديد، وإن الكرب والله عظيم، ولن
تخف مشقة الحساب على العبد يوم القيامة إلا إن حاسب نفسه ، وشق على نفسه في الحساب
في الدنيا .
أفق يا سابحاً في
بحار الشهوات والملذات ومسرفاً على نفسه بالمعاصي والسيئات :
دع عنك ما قد فات
في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان
حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعـب
والروح منك وديعة
أودعتـها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي
تسعى لـها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار
كليهمـا أنفاسنا فيها تعد وتحسب
ثامناً : فلتسارع
إلى الله بالتوبة :
عد إلى الله جل وعلا،
واعلم بأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا
بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، فالدنيا دار ممر، والآخرة
هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم .
قال تعالى: ’’ اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ’’ ، الحديد:20 .
ولله در القائل
:
إن لله عباداً فطنـــــــــا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما
علموا أنها ليست لحي وطناً
جعلوها لجة واتخــذوا
صالح الأعمال فيها سفناً
ازرع في هذه الدنيا
واستعد ، وأقبل إلى الله جل وعلا، وأفق وانتبه ، واعلم أن العمر قصير، وبأن الدنيا
إلى زوال ، وأن الآخرة هي دار القرار، أقبل على الله وأنت على يقين بأن الله عز وجل
سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، كما ذكرت إخوانكم قبل الآن فالله تبارك وتعالى يقول:
’’ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ ’’ ، الزمر:53 .
ويقول صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث أنس : (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب
إليه من أحدكم كان على راحلته في أرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه
فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا به يرى
راحلته قائمةً عند رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، يقول المصطفى
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخطأ من شدة الفرح ) ، ففرحة الله بتوبتك إليه أعظم
من فرحة هذا العبد بعودة راحلته إليه .
وفي الصحيحين من
حديث أبي هريرة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ينزل الله عز وجل كل ليلة
إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول ،ثم ينادي رب العزة ويقول: أنا الملك من
ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟
فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) .
وصلي اللهم وسلم
وبارك على سيدنا محمد وآله
تعليقات: (0) إضافة تعليق