الحمد لله ربِّ العالمين، أرسل لنا رسولاً صادق الوعد وأمين، وجعله
رحمة لنا وللخلق أجمعين،
سبحانه سبحانه! أحبنا فأكرمنا بسيد الأولين والآخرين، فأخرجنا به من
الظلمات إلى النور، ومن الغواية والعماية والضلالة إلى العلم والهدى والنور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الحق، الذي أنزل خير
كتاب أُنزل للخلق على سيد الخلق، ليحق به الحق، ويبطل به الباطل ولو كره المجرمون،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه من خلقه وخليله، اختاره
الله تعالى على فَترْة من الرسل فأقام به الملَّة العوجاء، ونشر به الشريعة السمحاء،
وجعله فاتحاً خاتماً.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة العظمى لجميع العالم،
والأمين على وحي السماء، والذي نشر دعوة الله بالحكمة والموعظة الحسنة بين أهل الأرض
وأهل السماء. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وكل من استجاب لدعوته ومشى على سنته، واستقام
على شريعته، وكان يوم القيامة تحت لواء شفاعته، وعلينا معهم أجمعين آمين آمين يا ربَّ
العالمين.
أما بعد...
فيا أيها الإخوة المؤمنون يا أحباب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه
وسلم،
ونحن نحتفل اليوم بذكرى ميلاد سيد الأنبياء، نحتفل معه بميلاد الشريعة
السمحاء التي أنزلها الله،وقال له في حقها " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (28 سبأ )
فعالجت كل داء، ورفعت عن أهلها كل بلاء، عالجت كل داء في الأرض، ورفعت
كل عناء وبلاء نازل من السماء، فكان أهلها في خير دائم لا ينقطع أبداً خير في نفوسهم
وخير في بيوتهم، وخير في قُراهم وخير في مُدنهم، خير في دولهم ومجتمعاتهم، ما داموا
بهذه الشريعة عاملين، وعلى نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم سائرين.
فنحن في الحقيقة نحتفي بميلاد خير تعاليم نزلت من السماء، لإقامة العدالة
في الأرض، ولإصلاح النفوس، وإصلاح المجتمعات، وإصلاح البلاد والعباد، خير شريعة نزلت
من السماء تنشر في الأرض السلام والمحبة والوئام والاجتماع، وتقضي على مرض التفرقة،
وتقضي على داء الحسد وعلى وباء الحقد، وعلى مرض الأثرة ومرض الشُّح ومرض الأنانية،
وتلك هي الأمراض التي تزلزل سعادة البشرية، وتجعل الأمم في حروب مستمرة،
ونزاعات لا تنقطع،
وتجعل الإنسان الوديع المسالم الذي اختاره الله خليفة عن حضرته يتحول
إلى وحْش كاسر وعَلَى مَنْ؟
على أخيه الإنسان الوديع،
على شيخ كبير فقد القوة،
أو على امرأة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، أو على صبيّ صغير لم يَبْلغ
الفِطام،
يتحوّل الإنسان الذي لم يتربَّى على تعاليم الإسلام إلى ما ذكرناه،
لأنه غاب عن شرع الله، فنفذ شريعة الغاب التي تفعلها الحيوانات، ولا ينبغي أن تكون
بين بني الإنسان قط.
فالإنسان قد كرمه مولاه، وأعلن تكريمه في خير دين أنزله الله، وقال
في هذا التكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (70الإسراء)، في هذا التكريم جعل
هذا الدين القويم الإنسان مُكرَّماً على كل أشكاله، ومختلف ألوانه، فلم يُفرِّق بين
أبيض ولا أسود، ولا أصفر ولا أحمر، بل جعل الناس سواءاً لا تفاضُل بينهم إلا بتقوى
القلوب والعمل الصالح. كرَّم هذا الإنسان فحرَّم على أى إنسان أن يمتد إليه أذى سواء
بلسانه أو بيده أو بآلة أو بأي شئ يملكه أو يستطيعه، فجعل من يسبّ إنساناً فاسقاً خارجاً
عن شرع الله، وقال في ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم: { سِبَابُ المُؤْمِنِ فُسُوق
} - وجعل قتاله كفراً.. فقال : { وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } ( رواه البخاري ومسلم والترمذي
والنسائي عن ابن مسعود)
وأي مؤمنين يصطرعان نهاهما معاً أن تمتد يدي أحدهما على الآخر، وقال
لهما وفي شأنهما سيِّد المرسلين:
"إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هذَا
الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ: إِنَّهُ كانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ
صَاحِبِهِ " (متفق عليه من حديث أبي بكر)
وجعل المسلم الذي يميت مسلماً بأي وسيلة أو كيفية فمن يقتله بحقنة كمن
يقتله بحبَّة، كمن يقتله بجَرْعة سمّ، كمن يقتله بخنجر، كمن يقتله بمسدس، جعل هؤلاء
جميعاً في نار جهنم خالدين مخلدين فيها أبداً. وجعل هذا الذنب، وهذا الوزر في نظر رب
العالمين، وعند أحكم الحاكمين، لا يماثله إثم ولا ذنب ...
اسمعوا إلى مبلغ شناعته، وإلى درجة فظاعته حيث يقول فيه الحبيب صلى
الله عليه وسلم:
{ لَزَوَالُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ
مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقَ } ( رواه البيهقي والأصبهاني وابن ماجة وأحمد عن ابن عمر)
فالله عز وجل يجعل دم المسلم أغلى عنده من السموات والأرض، لأنه ينطق
بسرّ الله، ويُعلن توحيد الله، ويقول أفضل كلمة قالها قائل في هذه الحياة، هي مفتاح
الجنة، وهي مفتاح الأمن يوم لقاء الله، وهي كلمة الإيمان والإسلام (لا إله إلا الله
محمد رسول الله).
بل حرَّم هذا الدين أن يُعذَّب المؤمن بأي كيفية، بل أن يُضرب المؤمن
على أعضاءه التي كرمها ربَّ البرية، فنهى نبيكم الكريم أن يُضرب المؤمن على عينيه أو
على أذنه أو على أنفه أو على رأسه أو على أي مكان في وجهه. وقال في ذلك :
{ مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَعْتِقَهُ
} ( أحمد في مسنده عن ابن عمر)
أي لا يُكفِّر عن هذا الذنب إلا أن يعتق هذا العبد ويجعله حُرَّاً لوجه
الله عز وجل، .... بل ونهى عن الضرب للإقرار بالذنب، وونهى عن التعذيب للإعتراف بالجناية،
وقال في ذلك مبعوث العناية ورسول الهداية صلى الله عليه وسلم:
{ لا يجلد أحدكم فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله } (رواه مسلم
في صحيحه عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه)
وقد يقول البعض: كيف تقول هذا والدين أمر الرجال بضرب النساء؟ فنقول
له: يا هذا هل علمت الكيفية التي أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم أن تُضرْب بها النساء؟
لقد أمر بوعظهن أولاً، فإن لم يكن الإنسان يستطيع وعظها أحضر لها من
يستطيع وعظها، ومن تتقبل كلامه كأبيها أو أخيها أو ناصحاً أو مُعلِّماً، أو مُفْهماً،
فإن لم تتقبل النصيحة أمره أن يهجرها في مضجعها، فينام معها ويُدير لها ظهره - ولا
يترك الغرفة لأن هذا يجعلها لا تحسّ بالذنب ولا وقع ندم، وإنما ينام معها ويدير لها
ظهره - فإن لم تحس بوقع هذا الذنب يضربها ضرباً قال فيه الأئمة الأعلام رضي الله عنهم:
يُحْضر منديله، ويربطه عقدة، ويضربها به، فكأن المقصود ليس الضرب، لأنه ماذا يصنع المنديل
عندما تضرب به؟
ولكن المقصود أن تحسَّ بأنه غير راض عنها، وغير راض عن أفعالها، وعن
سلوكها، واشترط الشرع الشريف أن يكون هذا الضرب غير مؤذٍ لها، ولا كاسر لعضو من أعضائها،
وإلا خرج إلى حد التجريم وكان جريمة، وديننا يقيم لهذه الجريمة حكمها وليس لدينا وقت
الآن لشرح تفصيلها.
أما ضرب الخدم فقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: { إخْوانُكُمْ
خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ الله فِتْنَةً تَـحْتَ أيْدِيكُمْ فَمَنْ كانَ أخُوهُ تَـحْتَ
يَدِهِ فَلْـيُطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِهِ ولْـيُـلْبِسُهُ مِنْ لِبَـاسِهِ ولا يُكَلِّفْهُ
ما يَغْلِبُهُ فإنْ كَلَّفَهُ ما يَغْلِبُهُ فَلْـيُعِنْهُ }(البخاري ومسلم عن أبـي
ذر)
و عندما كان يهدد بالضرب يمسك بالسواك، ويقول ملوحاً ومحذراً ؛وليس
ضارباً:
{ لَوْلاَ الْقِصَاصُ لَأَوْجَعْتُكِ بِهذَا السِّوَاكِ} ( خرّجه ابن
سعد عن أم سلمة.)،
وما الذي يوجعه الضرب بالسواك؟ ولكن هي الرحمة المهداة، والنعمة المسداة
التي كرمت عباد الله المؤمنين أجمعين ...
فنهى ديننا عن ضرب النساء كما يحدث من بعض الجاهلين وقال صلى الله عليه
وسلم لمن يفعل ذلك
{ عَلامَ يَجْلِدُ أَحَدُكُم امرأتَهُ جَلْدَ العَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُها
في آخِرِ اليَومِ } (صحيح ابن حبان عن عبد الله بن زمعة)
أي هل هذا يليق بعمل الأحرار؟.
فنهى عن الضرب على الرأس، والضرب على الوجه، والضرب في الأماكن الحسَّاسة،
ولم يُبح الضرب للطفل الذي يتعلم إلاَّ على اليدين، أو على القدمين، وجعله آخر الدواء،
وليس أوَّل الدواء، لأنك إذا استخدمت آخر الدواء ولم ينفع، فماذا تستخدم بعد ذلك؟
ولكنه استخدم التَّشجيع مع أبناء الصحابة، والحافز مع أبناء إخوانه،
وكان يُشجِّعهم ويُثْني عليهم ويَحْضر سباقاتهم، ويُوزِّع الجوائز عليهم، ليُعْلمنا
بشرعه الشريف، وخُلقه المنيف أن هذا دين تكريم الإنسان.حيث قال الرحمن
" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" ( 70 الإسراء)
ولذلك فقد نهى عن صلْب أي إنسان، ولو كان مخالفاً لنا في الديانة، ونهى
عن التمثيل بإنسان ولو قبضنا عليه في ميدان القتال، فقال للجنود:
{ لاَ تَخُونُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا،
وَلاَ تَقْتُلُوا طِفْلاً صَغِيراً، وَلاَ شَيْخاً كَبِيراً، وَلاَ ٱمْرَأَةً، وَلاَ
تَعْقِرُوا نَخْلاً، وَلاَ تَحْرِقُوهُ، وَلاَ تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلاَ
تَذْبَحُوا شَاةً وَلاَ بَقَرةً وَلاَ بَعِيراً إلاَّ لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ
بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا
أَنْفُسَهُمْ لَهُ } (رواه البيهقي في السنن الكبرى والسيوطي في الجامع الصغير عن أنس)
إن ديننا الحنيف الذي كرَّم الإنسان أعظم تكريم، بل جعل حتى دين الله
القويم ليس من حقَّ مؤمن أن يُكْره أحداً على اعتناقه لقول الله عزَّ شأنه {لَا إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }(256البقرة).
فأظْهر له محاسن الدين بالحُجَّة والبرهان فإن اقتنع فبها ونعمت، وإن
لم يقتنع قال: قل لهم
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (6الكافرون)، لا أظلمه، ولا أسبَّه،
ولا أشتمه لأنه لم يؤمن بديني لأن ديني يحترم إنسانية الإنسان وبلغ من إنسانيته صلى
الله عليه وسلم إنه كان يقف إذا مرَّت به جنازة ليهودي، فيقولون: يا رسول الله: لِمَ
تقف؟ إنه يهودي فيقول صلوات الله وسلامه عليه: أليس إنساناً؟ فيقف تكريماً لبني الإنسان،
لأن الله كرَّم كل بني الإنسان. وإن اختلفوا معه في الأديان، وذلك الذي جاء به في القرآن
على لسان النبي العدنان صلوات الله وسلامه عليه.
هذا هو خلق الإسلام، وهذا هو دين الإسلام، الذي نحتفل بذكرى مبادئه
في هذه الأيام فما أحرانا أن نقدم هذه المبادئ للأمم، ولا نقدمها بأقلامنا، ولا نقدمها
بكتبنا، ولا نقدمها بإذاعاتنا، ولا نقدمها حتى على الانترنت، لأنهم يقيسون بسلوكنا،
علينا أن نترجمها إلى سلوك عملي، سلوك محمدي، سلوك قرآني، نسعد به في
أنفسنا، ونسعد به في مجتمعاتنا، ونقدم الخير به للعالم قال صلى الله عليه وسلم: { أُمَّتِي
هذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، أولهَا خَيْرٌ وآخِرُهَا خَيْرٌ وبيْنِهُمَا كَدَرٌ }
( رواه ابن عساكر عن عمر بن عثمان)..
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين الذي أكرمنا بالهدى والنور واليقين، وجعلنا
من عباده المسلمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بالخير في كل وقت
وحين، وحضنا على البر في أنفسنا ومع أهلنا والآخرين،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أول من أظهر الأخلاق الكريمة
للعالمين، وأول من أظهر البشر والسرور للخلق أجمعين، وكان صلى الله عليه وسلم رحمة
مهداة للإنس والجن، والكائنات كلها بسر رحمة الله التي أنزلها الله عليه في كتابه المبين
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد... فيا عباد الله جماعة المؤمنين،
نحن في حاجة إلى الأمم الحديثة نستورد منها مستجدات العصر من تكنولوجيا
الاتصالات، وما استحدث في عالم السفر والمواصلات، وما ظهر في عالم الطب والمعلومات،
ولكن اعلموا علم اليقين أن عندنا أغلى تكنولوجيا في الوجود يحتاج إليها العالم أجمع،
ولا صلاح للعالم إلا بها.
لا صلاح له بتكنولوجيا صناعية، ولا بتنبؤات مستقبلية، ولا بغزوات فضائية،
ولكن صلاح العالم بالأخلاق القرآنية، والقيم الإسلامية، والمبادئ النبوية، وهي التكنولوجيا
الراقية التي لم يجدونها إلا عندكم جماعة المؤمنين، فتكنولوجيا الغرب والشرق تعلمهم
الأثرة، وتعلمهم الأنانية، وتعلمهم التنافس والصراع، وتعلمهم العمل على إنشاء الصراعات
والحروب ليروجوا أسلحتهم، ويبيعوا بضاعتهم ....
أما الأخلاق القرآنية، أخلاقكم الإسلامية من الحب والود والإيثار والإحسان،
والرحمة واللين، والعفو والصفح والتسامح وما لا نهاية له من الأخلاق الكريمة هذه تكنولوجيا
العالم كله يحتاج إليها، ولم يجدها إلا في كنزكم القرآن الكريم، ولم يجدها إلا في معرضكم
إذا تجملتم بها فأنتم معارض القيم الإلهية، وأنتم فترينات الأخلاق النبوية، وأنتم أسواق
التعاملات السهلة السمحة الودية، والبشرية كلها تحتاج إلى من ينزع الأحقاد، وينزع الشرور،
ويزيل فتيل البارود الذي في الصدور، ولن يكون ذلك إلا في نور الله، وفي نور كتاب الله،
وفي نور رسول الله صلى الله عليه وسلم .... << ثم الدعاء >>.
تعليقات: (0) إضافة تعليق