الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحمن الرحيم، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله القوي الأمين، وبعد
العناصر
أولًا: مصادر القوة عند المؤمن
ثانيًا: ثمار القوة عند المؤمن
ثالثًا: القوة الزائفة
الموضوع
أولًا: مصادر القوة عند المؤمن
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» ([1])
(المؤمن القوي خير) المراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك واحتمال المشاق في ذات الله تعالى وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها ونحو ذلك (وفي كل خير) معناه في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات (احرص على ما ينفعك) معناه احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ولا عن طلب الإعانة.
الإيمان بالله: فالمؤمن قوي لأنه يستمد قوته من الله العلي الكبير الذي يؤمن به ويتوكل عليه، ويعتقد أنه معه حيث كان، وأنه ناصر المؤمنين وخاذل المبطلين، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [49 الأنفال]
عزيز: لا يَذِلّ من توكل عليه، حكيم: لا يضيع من اعتصم بحكمته وتدبيره.
فإيماننا بالله هو الذي يمدنا بروح القوة، وقوة الروح. فالمؤمن لا يرجو إلا فضل الله، ولا يخش إلا عذاب الله، ولا يبالي بشيء في جنب الله، وهذه القوة الإيمانية في المؤمن الفرد مصدر لقوة المجتمع كله، وما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه!
وما أشقاه بالضعفاء المهازيل، الذين لا ينصرون مظلوماً، ولا يخيفون عدواً، ولا تقوم بهم نهضة، ولا ترتفع بهم راية!
الإيمان بالحق: المؤمن يستمد قوته من الحق الذي يعتنقُه، فهو لا يعمل لشهوة عارضة، ولا لمنفعة شخصية، ولا لعصبية جاهلية، ولا للبغي والعدوان على أحد من البشر، ولكن يعمل للحق الذي قامت عليه السموات والأرض، والحقُّ أحقُّ أن ينتصر، والباطل أولى أن يندثر، كما قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء 18]
دخل ربعي بن عامر مبعوث سعد بن أبي وقاص في حرب القادسية، دخل على قائد جيوش الفرس رستم وحوله الأتباع والجنود، والذهب والفضة، فلم يبال ربعي بشيء منها، بل دخل عليهم بفرسه القصيرة، وترسه الغليظة، وثيابه الخشنة، فقال له رستم: من أنت؟ وما الذي جاء بكم؟
فقال له: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
حقاً إنه مؤمن بالله، ومؤمنٌ بالحقِّ على أرضٍ صلبةٍ غير خائرٍ ولا مضطربٍ، لأنه معتصم بالعروة الوثقى.
قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) [البقرة 256]
إنّ المؤمن خليفة الله في أرضه، إن تظاهر عليه أهل الباطل: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم 4]
فكيف يضعف المؤمن ومن ورائه الملائكة؟؟ بل قل لي بربك كيف ينحني للخلق ومعه الخالق؟!
هذا الإيمان هو الذي جعل بضع فتية كأهل الكهف يواجهون بعقيدتهم ملكاً جباراً، وقوماً شديدي التعصب، غلاظ القلوب مع قلة هؤلاء الفتية، وانعدام الحول والطول الماديّ، قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف 13]
الإيمان بالخلود: المؤمن يستمد قوته من الخلود الذي يؤمن به، حيث يوقن أن حياته ليست أياماً معدودة في الأماكن المحدودة فقط، بل إنها حياة الأبد وهو ينتقل من دار الى دار.
وما الموت إلا رحلة غير أنها *** من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
وهذا عميرُ بن الحمام الأنصاري في غزوة بدر يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: " فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، قَالَ: - يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: - يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ " ([2])
الإيمان بالقدر: يستمد المؤمن قوته من القدر الذي يؤمن به، فهو يعلم أن ما أصابه من مصيبة فبإذن الله، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لا يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وهذه عقيدة تعطيه ثقةً لا حدود لها، وقوةً لا تقهرها قوة البشر.
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» ([3])
فقد كان الواحد من الصحابة يذهب إلى الميدان مجاهداً فيعترض سبيله المثبطون، ويخوفونه من ترك الأولاد، فيجيبهم: علينا أن نطيع الله كما أمرنا فإنه يرزقنا كما وعدنا.
وكانوا يذهبون إلى زوجات المجاهدين فيثيرون مخاوفهن على رزقهن إذا قتل أزواجهن في الجهاد، فتجيبهم تلك الزوجات في ثقة واطمئنان: عرفنا أزوجنا أكَّالين ولم نعرفهم رزَّاقين، فإن ذهب الأكَّال بقي الرزَّاق.
بهذا الاعتقاد ثبتت أقدام الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغصّ بها الفضاء، وتضيق بها الغبراء، ففتحوا البلاد، وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم، وأرجفوا كل قلب، وأرعبوا كل فريصة، وما كان قائدهم إلى جميع ذلك إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر.
الإيمان بالأخوّة: يستمد المؤمن قوته من إخوانه المؤمنين، فهو يشعر بأنهم له وأنه لهم، يعينونه إذا شهد، ويحفظونه إذا غاب، ويواسونه عند الشدة، ويؤنسونه عند الوحشة، ويأخذون بيده إذا عثر، فهو حينما يعمل يحسّ بمشاركتهم، وحينما يجاهد يضرب بقوتهم.
فإذا حارب جيشٌ تعدادُه ألفُ رجلٍ مؤمنٍ شعَر كل فرد منهم بأنه يقاتل بقوة الألف بشخصه وحده.
فإذا ضربت الألف بالألف كان المجموع المعنوي ألفَ ألفِ رجل في الحقيقة، وإن كانت ألْفاً واحدة في لغة الأرقام والإحصاء.
وما أعظم تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم حينما شبّه قوة المؤمن بإخوانه المؤمنين باللبنة في البناء المتين فقال: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"([4])
فاللّبنة وحدها ضعيفة مقدور عليها، ولكنها داخل البنيان تصبح مرتبطة به ارتباطا لا ينفصل حيث أصبحت جزءا من الكل الكبير، فلا يسهل كسرها، ولا زحزحتها عن موضعها، لأن قوتها هي قوة البنيان كلّه الذي يشدّها إليه، وهذه هي الأخوة الإيمانية الصادقة.
الأمر بأخذ هذا الدين بقوةٍ وعزيمة، وذمّ التراخي، كما قال -تعالى- لنبيّه: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، والقوة هنا تشمل جميع جوانب المؤمن، فهو قوي في توحيده، وقوي في صلاته، فيحافظ عليها في وقتها، ويتبعها بالنوافل والصدقات، وقوي في دنياه في طلبه للكسب الحلال وتعامله مع مجتمعه المسلم كما يرضاه الله عز وجل. وبذلك يكون تأثير المؤمن القوي أعظم عند الناس وأدعى للقبول في حال الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على خلاف المؤمن الضعيف الذي لا يستطيع أن يكون صاحب كلمةٍ عند غيره، فهو يغلب عليه طابع الاستسلام، فصاحب الصفّ الأخير لا يكون تأثيره كصاحب الطليعة وصاحب الكلمة المسموعة، فربما تطاولوا على الضعيف أو سخروا منه، فهو مسكين ضعيف لا حيلة له.
لا تُطلَب هذه القوة الحقيقية إلا من الله: لو تمكّن البشر من مصادر القوة في الدنيا بأنواعها، فإنها جميعاً بيد الله تعالى يصرِّفها كيف يشاء، فبين لحظة وأخرى تتغير الموازين وتتقلب حقائق الأمور وتغدو جميع أنواع المعرفة إلى جهل بالواقع والحقيقة.
فيا أيها المسلمون: إن القوة لا تُطلب من الخلق لأنهم ضعفاء، فالقوة الحقيقية تحصل عندما تتصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة، وتتعلق القلوب بالقوي المتين، فقوة الله فوق كل شيء، قال تعالى: قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود 66]، وقال سبحانه: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة 21]
ثانيًا: ثمار القوة عند المؤمن:
التوكل على الله: والتوكل ليس هو مُبْطِّل ٍ، أو استرخاء كسولٍ، بل إنه شحنة نفسية تغمر المؤمن بقوة المقاومة، وتشحذ فيه العزة الصارمة، والإرادة الشّماء، والقرآن الكريم يقصّ علينا كثيراً آثار هذا التوكل في أنفس رسل الله، إزاء أعداء الله، فالرسل جميعاً يعتصمون بالتوكل على الله أمام عناد قومهم وإيذائهم، حيث يقول جلّ جلاله: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [ابراهيم12]
إقامة العدل والقسط: ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) [النساء 135]
وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لتقدير ثمر النخل والزرع، وكان نخل خيبر مناصفة بين اليهود والمسلمين، فجاء اليهود إلى عبد الله بشيء كثير من الذهب والفضة على أن يجور معهم في التقدير، ويسقط عنهم بعض ما عليهم، فانتفض لذلك وقال: لقد جئتكم من عند أحبّ خلق الله إليّ وإنكم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ووالله ما يدفعني حبّي إياه وبغضي لكم إلى أن أجور عليكم، وإن ما دفعتم إليَّ من هذا الحليّ سحت ورشوة، وإنا لا نأكلها، فما وسعهم جميعاً عندما رأوا هذه القوة الإيمانية إلا أن قالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
طاعة الله تعالى واجتناب نواهيه: إنّ قيام المسلم بطاعة ربّه والالتزام بما فرضه عليه وما نهاه عنه سببٌ للفوز في الدنيا والآخرة، يقول الله -سبحانه-: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، فمراقبة المسلم لله في أفعاله وأقواله يكون سبباً لتوفيقه لصالح الأعمال وتقويته، فيُقبل على الطاعة وهو يعلم أن الله سيكفّر ذنوبه بها، وبهذا يكون المسلم قوي لاتّصاله بالله الذي هو مصدر ثقته وقوته.
اتباع نهج النبي جعل الله -سبحانه- اتّباع النبي سبباً لمحبته -عز وجل-، إذ يقول في كتابه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله) سورة آل عمران، فالمؤمن القوي يحرص على أن يكون محبوباً من الله -جل وعلا-، وبقدر اتّباعه لهدي النبي وسنّته ونهجه تكون هذه المحبة، وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- في مسابقةٍ دائمةٍ للعمل بما جاء به النبي والانقياد بأمره.
الدفاع عن الدين الإسلامي: على المؤمن القوي أن يستخدم قوته وشجاعته في الدفاع عن أمّته، بالكلمة والقلم والقول والعمل، وبمحاربة أعدائه، فيتقدم في مواطن الإقدام، ويثبت في مواطن الثبات، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، قَالَ: وَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، قَالَ: فَتَلَقَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقَالَ: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَدْتُهُ بَحْرًا» ([5]) يَعْنِي الفَرَسَ.
الاجتهاد في تحصيل أعلى مراتب العبادة يقول -سبحانه- في كتابه: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ) سورة ص، وذكر جمعٌ من المفسرين أنّ المقصود بالآية الكريمة أنّ الله -سبحانه- أعطى داود -عليه السلام- قوّة في الطاعة، إذ كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر، وقد ذُكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أقوى المؤمنين بالطاعة أنه: عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» ([6])
قوة البصيرة والفطنة: يقول النووي في ذلك: إن المؤمن الممدوح هو العاقل الحازم الذي لا يسمح لأحد أن يستغفله، ويخدعه مرة بعد مرة، فيجب أن يكون حكيماً صاحب بصيرة، يتنبّه للأمر من أول مرة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْن» ([7])
الإعداد والاستعداد الدائم لمواجهة التحديات: يقول -سبحانه وتعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) سورة الأنفال.
وعَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَقُولُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ " ([8])
ثالثًا: القوة الزائفة:
مآلها الانهيار: إن القوّة التي تقوم على غير أساس سليم مآلها الانهيار، فانظر كيف تتداعى القوة القائمة على غير أساس سليم، ومبدأ قويم، فإذا هي تنهار لتصبح هشيماً أو رميماً: قال تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف 21]
فهذا هو الشيطان مثلاً: هو القوة الممثلة للشرّ والكبر والانحراف، يختال بجنوده ويغتر بأتباعه، ويزهو بمكره وكيده، ولكنّ هذا الطغيان يصبح واهياً أمام الإيمان، والله تعالى يقرر ذلك: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء 76].
انقلاب العز إلى ذل: هذا هو قارون المغتر بنفسه، المعجب بثروته، المبهور بقوته في هذه الحياة: قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 76-77]
جاءته الموعظة العادلة الفاضلة الهادية إلى خير العاجلة والآجلة، لكنّ قارون لم يسمع ولم يستجب، فهو غارق هناك في أمواج خيلائه، وطوفان كبريائه، يتباهى بقوته وعلمه، ويغتر بثروته وماله، ويظن أنه بهذا يستعصم على الضعف، ويتأبّى على الانكسار، ويبتعد عن الانهيار، ناسياً (أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) [القصص 78]
فماذا كان المصير؟ انقلب العزّ ذلّاً، والغنى فقراً، والقوة ضعفاً، قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص 81]
وهذا هو النمرود بكبريائه وعناده ادعى الربوبية، حتى قال مجادلاً لخليل الرحمن إبراهيم: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة 258]
اغتر بثروته وماله وملكه، حيث أنه أحد الأربعة الذين ملكوا؛ اثنان مسلمان: سليمان وذو القرنين، واثنان كافران: النمرود وبختنصّر.
فكان هلاك النمرود أن أرسل الله إليه بعوضة، فدخلت أنفه، وأصبحت تدور فيه، ولم تخرج، فبدأ جنده يضربون رأسه بمختلف الأشياء لتخرج البعوضة أو تموت، ولكنّ الله إذا أراد أمراً فلا رادّ لأمره، وبقيت هذه البعوضة تعذبه حتى مات على هذه الحالة كالكلاب.
نسأل الله عزّ وجلّ أن يحقق فينا الإيمان الحقّ، واليقين الصادق، وأن يرزقنا حسن التوكل عليه، والاستمساك بحبله إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
تعليقات: (0) إضافة تعليق