الحمد لله الذي نهى عباده عن سوء الظن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريِك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً رسول رب العالمين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
العناصر:
أولًا: تعريف سوء الظن وأقسامه ثانيًا: التحذير من سوء الظن
ثالثًا: أسباب سوء الظن رابعًا: نماذج عن سوء الظن
خامسًا: علاج سوء الظن
الموضوع
أولًا: تعريف سوء الظن وأقسامه
سوء الظّنّ هو: اعتقاد جانب الشّرّ وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين معا.
ومعاني كلمة «الظن» في القرآن الكريم:
ذكر أهل التّفسير أنّ «الظّنّ» في القرآن على أوجه منها: التّهمة: ومنه قوله تعالى: (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) : أي بمتّهم، ومنها الكذب: ومنه قوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) .
أقسام سوء الظن:
قسّم سوء الظّنّ إلى قسمين كلاهما من الكبائر وهما:
سوء الظّنّ بالله، قال: وهو أبلغ في الذّنب من اليأس والقنوط (وكلاهما كبيرة) وذلك لأنّه يأس وقنوط وزيادة، لتجويزه على الله تعالى أشياء لا تليق بكرمه وجوده.
قال تعالى: (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)) سورة فصلت.
سوء الظّنّ بالمسلمين: هو أيضا من الكبائر وذلك أنّ من حكم بشرّ على غيره بمجرّد الظّنّ حمله الشّيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه والتّواني في إكرامه وإطالة اللّسان في عرضه، وكلّ هذه مهلكات.. وكلّ من رأيته سيّىء الظّنّ بالنّاس طالبا لإظهار معايبهم فاعلم أنّ ذلك لخبث باطنه وسوء طويّته؛ فإنّ المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب لخبث باطنه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)) سورة الحجرات.
وقال سفيان الثّوريّ: الظّنّ ظنّان: ظنّ إثم، وظنّ ليس بإثم.
فأمّا الّذي هو إثم: فالّذي يظنّ ظنّا، ويتكلّم به.
والّذي ليس بإثم: فالّذي يظنّ، ولا يتكلّم به.
وصفوة القول أنّ:
الظّنّ المحرّم هو سوء الظّنّ بالله تعالى ويقابله وجوب حسن الظّنّ بالله.
حرمة الظّنّ كذلك بالمسلمين الّذين ظاهرهم العدالة. والمطلوب حسن الظّنّ بهم.
الظّنّ المباح وهو الّذي يعرض في قلب المسلم في أخيه بسبب ما يوجب الرّيبة. وهذا الظّنّ لا يحقّق.
ثانيًا: التحذير من سوء الظن
من الكبائر الباطنة: عدّ الإمام ابن حجر سوء الظّنّ بالمسلم من الكبائر الباطنة. وذكر أنّه (الكبيرة الحادية والثّلاثون) ، وقال: وهذه الكبائر ممّا يجب على المكلّف معرفتها ليعالج زوالها لأنّ من كان في قلبه مرض منها لم يلق الله- والعياذ بالله- بقلب سليم، وهذه الكبائر يذمّ العبد عليها أعظم ممّا يذمّ على الزّنا والسّرقة وشرب الخمر ونحوها من كبائر البدن وذلك لعظم مفسدتها، وسوء أثرها ودوامه إذ إنّ آثار هذه الكبائر ونحوها تدوم بحيث تصير حالا وهيئة راسخة في القلب، بخلاف آثار معاصي الجوارح فإنّها سريعة الزّوال، تزول بالتّوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ونقل عن ابن النّجّار قوله: «من أساء بأخيه الظّنّ فقد أساء بربّه» ، إنّ الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ (الحجرات/ 12)
ذم الله الظن السيء: قال تعالى: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس/ 36)
قال ابن قدامة المقدسيّ- رحمه الله-: فليس لك أن تظنّ بالمسلم شرّا، إلّا إذا انكشف أمر لا يحتمل التّأويل، فإن أخبرك بذلك عدل. فمال قلبك إلى تصديقه، كنت معذورا، لأنّك لو كذّبته كنت قد أسأت الظّنّ بالمخبر، فلا ينبغي أن تحسن الظّنّ بواحد وتسيئه بآخر، بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد؟ فتتطرّق التّهمة حينئذ بسبب ذلك. ومتى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإنّ ذلك يغيظ الشّيطان ويدفعه عنك، فلا يلقي إليك خاطر السّوء خيفة من اشتغالك بالدّعاء والمراعاة. وإذا تحقّقت هفوة مسلم، فانصحه في السّرّ. واعلم أنّ من ثمرات سوء الظّنّ التّجسّس، فإنّ القلب لا يقنع بالظّنّ، بل يطلب التّحقيق فيشتغل بالتّجسّس، وذلك منهيّ عنه، لأنّه يوصل إلى هتك ستر المسلم، ولو لم ينكشف لك، كان قلبك أسلم للمسلم.
كثرة الظن من الأمم الماضية:
ظنوا قتل المسيح عيسى ابن مريم: قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) سورة النساء.
وظنوا الكذب بأنبيائهم، قال تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)) سورة هود.
وقال تعالى: (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66)) سورة الأعراف.
وظنوا بهم السحر: قال تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101)) سورة الإسراء.
وظنوا القدرة للدهر: قال تعالى: (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) ) سورة الجاثية.
أكثر أهل الأرض يتبعون الظن: قال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)) سورة الأنعام.
نهاية الظن السيء الهلاك: قال تعالى: (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)) سورة يونس.
لا يغني الظن عن الحق أبدا: قال تعالى: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)) سورة يونس.
نهى الله تعالى عن سوء الظن بأهل الخير من المؤمنين: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]. فقوله سبحانه: ﴿ اجْتَنِبُوا ﴾ فعل أمر يقتضي الوجوب ولا صارف له، يقال: اجتنب فلان فلاناً إذا ابتعد عنه، حتى لكأنه في جانب والآخر في جانب مقابل.
فالله تعالى أمر المؤمنين أن يبتعدوا ابتعاداً تامًّا عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين؛ لأنَّ هذه الظنون السيئة لا تستند إلى دليل أو أَمارةٍ صحيحة، وإنما هي مجرد ظنونٍ وأوهام، تؤدِّي إلى تولُّد الشكوك والمفاسد فيما بينكم. ولنتأمل لفظ: ﴿ كَثِيرًا ﴾ لكي يحتاط المسلم في ظنونه، ويبتعد عمَّا هو محرم منها، ولا يُقدِم إلاَّ على ما هو واجب أو مباح من الظنون.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (ينهى اللهُ عبادَه المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التُّهمة والتَّخوُّن للأهل والأقارب والناس في غير محلِّه؛ لأنَّ بعض ذلك يكون إثماً محضاً، فَلْيُجتنبْ كثيراً منه احتياطاً).
حرمة الظن السيئ: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إيّاكم والظّنّ؛ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث » ([1])
التحذير الشديد منه: عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّ معاذ بن جبل- رضي الله عنه- كان يصلّي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ يأتي قومه فيصلّي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال فتجوّز «1» رجل فصلّى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذا فقال: إنّه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإنّ معاذا صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوّزت، فزعم أنّي منافق، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ، أفتّان أنت؟ (ثلاثا) . اقرأ وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، ونحوهما» ([2])
سخرية الله منهم: عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «لمّا أمرنا بالصّدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إنّ الله لغنيّ عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلّا رئاء، فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ (التوبة/ 79) الآية) ([3])
الإثم المبين : قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[الأحزاب: 58]،
اصبح من العباد مؤمن وكافر: عن زيد بن خالد الجهنيّ- رضي الله عنه- قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من اللّيل. فلمّا انصرف أقبل على النّاس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربّكم؟» . قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأمّا من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأمّا من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» ([4])
من أقوال السلف والتابعين : يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «حسن الظن من حسن العبادة».
وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: «من أحب أن يُختم له بخير فليحسن الظن بالناس، اللهم حسن خاتمتنا يا رب العالمين».
وقال بشر الحافي رحمه الله: «من سره أن يَسْلم فليلزم الصمت، وحسن الظن بالخلق»، ويقول الإمام عليٌّ - الشهير بالمصري رحمه الله -: « إذا رأيتم واعظًا يدعو الناس إلى الخير، فإياكم أن تظنوا أنه لا يعمل بما يقول، بل ظنوا أنه متخلق بما دعاكم إليه».
وعن سعيد بن المسيّب قال: «كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من امرىء مسلم شرّا، وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرّض نفسه للتّهم فلا يلومنّ إلّا نفسه، ومن كتم سرّه كانت الخيرة في يده، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه» ([5])
ثالثًا: أسباب سوء الظن
تزكية المرء نفسه، والإعجاب بها، ورؤية أنه خير منهم، فيؤدي ذلك إلى احتقاره لغيره، ويرى نفسه على الصواب وغيره على الباطل، فالعُجب بالنفس يورث سوء الظن بالآخرين.
خبث النفس، وضعف العقل، وضعف الإيمان، وتسلط الشيطان على الإنسان، فإنَّ أصحاب العقول الكبيرة والنفوس الطيبة يتركون هذا الخُلق السيئ ويُحسنون الظن بالمسلمين. قال المقدسي - رحمه الله: (إنما يترشَّح سوء الظن بخبث الظان؛ لأن المؤمن يطلب المعاذير للمؤمن، والمنافق يبحث عن عيوبه. وينبغي للإنسان أن يحترز عن مواقف التُّهم؛ لئلاَّ يُساء به الظن، فهذا طَرَفٌ من ذِكر مداخل الشيطان).
التشدد والغلو في بعض القضايا والمسائل والأفكار، ولأجل اجتماع كلمة المسلمين وخشية الفرقة بينهم ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ المُستحبات كي لا تضيع في فِعلها واجبات؛ من ذلك أنه لم يُعطِ بعضَ الفقراء وأعطى بعضَ الأغنياء تأليفاً لقلوبهم على الإسلام، ومنها أنه ترك تغيير بناء الكعبة المشرفة إبقاء لتأليف القلوب، وقد كان ابن مسعود يُنكر على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلَّى خلفه مُتِمًّا، وقال: (الخلاف شر) رضي الله عنهما جميعاً.
عدم احترام آراء الآخرين، والإصرار على تبنِّي وجهة نظر واحدة وترك ما سواها، والموالاة فيها والمعاداة من أجلها، ومن أوضح الأمثلة في ذلك ما قاله ابن حزم - عن بعض المتعصِّبين للعلماء أن (مَنْ نشأ بينهم قد شَغَلَه حُسن الظن بِمَنْ قلَّد أو استحسانه لِمَا قلَّد فيه، وغَمَرَ الهوى عقلَه عن التفكير فيما فَهِمَ من البرهان، قد حال ما ذكرنا بينه وبين الرجوع إلى الحق، وصَرَفَ الهوى ناظِرَ قلبه عن التفكر فيما يتبيَّن له من البرهان، ونَفَّرَ عنه، وأوحشه منه، فهو إذا سَمِعَ برهاناً ظاهراً لا مَدْفَعَ فيه عنده، ظَنَّه من الشيطان، وغالَبَ نفسَه حتى يُعْرِضَ عنه).
اتِّباع الهوى، فاتِّباع الهوى يُوقع في الظنون الكاذبة؛ لأن حُبَّ الشيء يُعمي ويُصم، فإذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا المَيل يُنسيه أخطاءه، ويحمله على تحسين الظن به، وإن كان مُخطئاً فيما يقول أو يعمل، وإذا أبغض إنساناً آخر، فإن الهوى يحمله على سوء الظن به، والتماس عثراته وتصيُّد أخطائه، وإن كان مُصيباً فيما يقول أو يعمل.
عدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي؛ فإن هناك آدابًا يلزم مراعاتها حفاظًا على قلوب المسلمين أن يدخلها شيء من وسواس الشيطان، وفي هذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس ، من أجل أن يحزنه" ([6])
رابعًا: نماذج عن سوء الظن
السيدة عائشة رضي الله عنها: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ألا أحدّثكم عنّي وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قلنا: بلى، قالت: لمّا كانت ليلتي الّتي كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيها عندي. انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع. فلم يلبث إلّا ريثما ظنّ أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب فخرج. ثمّ أجافه رويدا. فجعلت درعي في رأسي، واختمرت وتقنّعت إزاري. ثمّ انطلقت على إثره. حتّى جاء البقيع فقام. فأطال القيام. ثمّ رفع يديه ثلاث مرّات. ثمّ انحرف فانحرفت. فأسرع فأسرعت. فهرول فهرولت. فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت. فليس إلّا أن اضطجعت فدخل، فقال: «مالك؟ يا عائش حشيا رابية » قالت: لا شيء. قال: «لتخبريني أو ليخبرنّي اللّطيف الخبير» .
قالت: قلت: يا رسول الله،- بأبي أنت وأمّي- فأخبرته. قال: «فأنت السّواد الّذي رأيت أمامي؟» قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة أو جعتني. ثمّ قال: «أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟» قالت: مهما يكتم النّاس يعلمه الله. نعم.
قال: «فإنّ جبريل أتاني حين رأيت. فناداني. فأخفاه منك. فأجبته. فأخفيته منك. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك. وظننت أن قد رقدت. فكرهت أن أوقظك. وخشيت أن تستوحشي، فقال: إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: «قولي: السّلام على أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين. وإنّا إن شاء الله بكم للاحقون» ([7])
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:
ظن رجل بامرأته: جاء رجل من بني فزارة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك من إبل؟» . قال: نعم. قال: «فما ألوانها؟» . قال: حمر، قال: «هل فيها من أورق ؟» قال: إنّ فيها لورقا، قال: «فأنّى أتاها ذلك» قال: عسى أن يكون نزعه عرق . قال: «وهذا عسى أن يكون نزعه عرق» ([8]) الأورق: هو الذي فيه سواد ليس بصاف، ومنه قيل للرماد: أورق وجمعه ورق كأحمر وحمر.
المراد بالعرق: الأصل من النسب تشبها بعرق الشجرة، ومنه قولهم فلان معرق فى النسب، ومعنى نزعه أى أشبهه واجتذبه إليه، وأظهر لونه عليه فكأنه جذبه إليه لشبهه.
الظن السيئ بنبي الله موسى عليه السلام: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى- عليه السّلام- يغتسل وحده. فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر، قال: فذهب مرّة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه قال: فجمح موسى بإثره يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتّى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. قالوا: والله ما بموسى من بأس. فقام الحجر حتّى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا» ([9])
ومعنى: آدر أي عظيم الخصيتين، فجمح: أي جرى أشد الجري، ثوبي حجر: أي ثوبي يا حجر، حذفت أداة النداء ونداء الحجر بالنسبة للنبي أمر ممكن ويدخل في باب المعجزة.
عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ (الحج/ 11) قال: كان الرّجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء» ([10])
خامسًا: علاج سوء الظن
كل مرض حسي أو نفسي أو اجتماعي له علاج، ومن ذلك سوء الظن بالناس، فهو مرض نفسي يصيب صاحبه بالغرور والتعالي على خَلْق الله تعالى واتهامهم بغير بيان ولا برهان، ومن سماحة الإسلام وشموليته أن أتاح لنا علاج هذه الأمراض، فمما أوصى به الإسلام لمكافحة سوء الظن والقضاء عليه:
التأمل في حقيقة البشر: إذْ يعتريهم النسيان والضعف والذهول، فإذا تأمل المرء ذلك يجد نفسه مرغماً على التماس العذر لهم، وعدم مؤاخذتهم بما يصدر عنهم من أمور يمكن حملها على الوجه الحسن، ولو باحتمال ضعيف، قال عمر - رضي الله عنه: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلاَّ خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً).
مراعاة حق الأخوة: فأخوة الإيمان تحمل على حسن الظن بالمؤمن، والبعد عن سوء الظن به.
البعد عن الشبهات: ينبغي للمرء البعد عن الشبهات حتى لا يُساء به الظن، فلا يوقع نفسه في شبهة عمداً بدعوى أنه لا يُبالي بالناس، فعند ذلك يفتح للشيطان طريقاً عليه بتشويه سمعته وصورته، وعلى إخوانه ببث وساوسه فيهم، وإيقاعهم في الإثم بسوء الظن، فمَنْ عَرَّضَ نفسَه للتُّهم، فلا يلومنَّ مَنْ أساء به الظنَّ، فإذا وقع في شبهة فعليه أن يُبادر للتوضيح وتجلية حقيقة الأمر للناس؛ كي يدفع عن عِرضه، ويرحم إخوانَه مِن إساءة الظن.
ولَمَّا جاءت صفية - رضي الله عنها - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو معتكف، ثم قام يردها إلى بيتها، فمر بهما رجلان فأسرعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ». فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» رواه البخاري.
إحسان الظن بالمسلمين: في حادثة الإفك يقول الله -تعالى-: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)[النور: 12], فأنزل المسلم منزلة النفس فلم يقل: بإخوانهم؛ بل قال: (بِأَنفُسِهِمْ) فالواجب عليك أن تقيم إخوانك مقام نفسك فلا تظن بهم إلا خير.
فالرجل في بيته يتصل بزوجته لأمر ما، فما ردت عليه، قل: لعلها ما سمعت، أو أنها في مطبخها، وجوالها في غرفتها، أو أنها تصلي، أو أنها نائمة، أو أنها تقضي حاجتها، أهم شيءٍ لا تسيء الظن بها، مررت على شخص، وسلمت عليه بصوت عال وبصوت واضح، وما رد عليك، لا تتهمه بالجفاء أو الكبر، أو أن في نفسه شيء عليك، فربما في باله أمر، أو مشكلة، أشغلته عن رد السلام، أو لعله ضعيف السمع أو، أو...إلى غير ذلك، ولن تعدم المخرج إذا سلمت نيتك وصفا قلبك.
أن يحذر من الحكم على نوايا الناس وتفسير ما يقولونه ويفعلونه؛ لأن الأصل في المسلم حسن الظن به, حتى يأتي ما يبين خلاف ذلك يقيناً, إن دلَّت القرائن على سوء عمل صاحبه، ولذلك قال -تعالى-: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، قال القرطبي: "من شوهد منه الستر والصلاح وأونست منه الأمانة في الظاهر فظن الفساد به والخيانة محرم, بخلاف من اشتهر بين الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث".
التماس الأعذار للمؤمنين وتوقع الخير منهم، وترك تتبع عوراتهم، والاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "ما بلغني عن أخٍ مكروهٌ قطّ إلا أنزلته إِحدى ثلاث منازل: إن كان فَوقي عرفتُ له قدره، وإن كان نظيري تفضّلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به, هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرضُ الله واسعة".
هذا فاروق الأمة الأوَّاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لا يحل لا مرئٍ مسلمٍ سمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا، وهو يجد لها في شيءٍ من الخير مخرجًا».
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه «من علم من أخيه مروءة جميلة، فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى».
وقال بعضهم: «لا تظنن بكلمةٍ من أخيك سوءًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا».
ويروى عن رجلٍ من أجواد العرب أن امرأته قالت له يومًا: «ما رأيت قومًا أشد لؤمًا من إخوانك، وأصحابك، قال: ولم؟ قالت: أراهم إذا اغتنيت لزموك، وإذا افتقرت تركوك، فقال لها: هذا - والله - من كريم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بواجبهم».
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%
جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد
01098095854
[1])) متفق عليه
[2])) متفق عليه
[3])) متفق عليه.
[4])) متفق عليه
[5])) [الشورى: 13].
[6])) متفق عليه
[7])) صحيح مسلم
[8])) متفق عليه
[9])) متفق عليه.
[10])) صحيح البخاري
تعليقات: (0) إضافة تعليق