الحمد لله مُستحقِ الحمد بلا انقطاع، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يستطاع، الوهاب المنان، الرحيم الرحمن، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميل العوائد، الجزيل الفوائد، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الوافي عهده، الصادق وعده، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّد بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة.
فاللهم صلِّ وسلم وبارك عليه في الأولين والآخرين واجمعنا به في جنات النعيم
العناصر
أولًا: صفات الرجال في القرآن والسنة ثانيًا: مواقف رجولية
ثالثًا: هل الرجولة بالسن أو بالذكورة والأنوثة رابعًا: الإسلام يحتاج إلى رجال
الموضوع
أولًا: صفات الرجال في القرآن والسنة
معنى الرجولة: اختلف الناس في تفسير معنى الرجولة، فمنهم من يفسرها بالقوة والشجاعة، ومنهم من يفسرها بالزعامة والقيادة والحزم، ومنهم يفسر الرجولة بالكرم وتضييف الضيوف، ومنهم يقيسها بمدى تحصيل المال والاشتغال بجمعه، ومنهم من يظنها حمية وعصبيةً جهلاء، ومنهم من يفسرها ببذل الجاه والشفاعة وتخليص مهام الناس بأي الطرق كانت…
عباد الله: لا بد أن نعلم أن هناك فرقاً بين الرجل والذكر، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، ما أكثر الذكور! لكن الرجال منهم قليل.
ولقد جاءت كلمة "ذكر" في القرآن الكريم غالباً في المواطن الدنيوية التي يجتمع فيها الجميع، مثل الخَلق وتوزيع الإرث وما أشبه ذلك، أما كلمة رجل فتأتي في المواطن الخاصة التي يحبها الله -تعالى-، ولذلك كان رسل الله إلى الناس كلهم رجالاً، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا) [يوسف:109].
فالرجولة رأيٌ سديد، وكلمة طيبة، ومروءةٌ وشهامةٌ، وتعاون وتضامن.
وليست الرجولة هي تطويل الشوارب ورفع الصوت والصياح، وليست عرضاً للقوة والعضلات.
إن الرجال لن يتربوا إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والأخلاق الحسنة؛ الرجال لن يتربوا إلا في ظلال بيوت الله، في ظلال القرآن والسنة النبوية.
فتعالوا بنا لنعرف بعض صفاتهم
صدق العهد: قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) [سورة الأحزاب]
حُب الطهارة: قال تعالى: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)) {سورة التوبة{.
أسس على التقوى، أسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة، عَلَى التَّقْوَى لوجه الله عز وجل، مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ، لأن فيه رجال من أهم صفاتهم حب الطهارة دائما.
أين مكان أولئك الرجال؟ أين مكانهم؟ هل هم في الأندية؟ أو في الحفلات؟ هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟ هل هم في المجتمعات الفارغة التي تفرغ الرجولة من معانيها؟ كلا !! في بيوت الله عز وجل
قلوبهم معلقة بالمساجد: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ....... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِد) ([1])
وإضافة الظِّلِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةُ مِلْكٍ وَكُلُّ ظِلٍّ فَهُوَ لِلَّهِ وَمِلْكِهِ وَخَلْقِهِ وَسُلْطَانِهِ وَالْمُرَادُ هُنَا ظِلُّ الْعَرْشِ، ومُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِد: أي شَدِيدُ الْحُبِّ لَهَا وَالْمُلَازَمَةِ لِلْجَمَاعَةِ فِيهَا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ دَوَامُ الْقُعُودِ فِي الْمَسْجِدِ
الحب في الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ:..... وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) ([2])
أي اجْتَمَعَا عَلَى حُبِّ اللَّهِ وَافْتَرَقَا عَلَى حُبِّ اللَّهِ أَيْ كَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمَا حُبَّ اللَّهِ وَاسْتَمَرَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسِهِمَا وَهُمَا صَادِقَانِ فِي حُبِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ لِلَّهِ تَعَالَى حَالَ اجْتِمَاعِهِمَا وَافْتِرَاقِهِمَا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى التَّحَابِّ فِي اللَّهِ وَبَيَانُ عِظَمِ فَضْلِهِ وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ فَإِنَّ الْحُبَّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضَ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَهُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ كَثِيرٌ يُوَفَّقُ لَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَوْ مَنْ وُفِّقَ لَهُ.
الخوف من الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ:....... وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ) ([3])
قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ أَخَافُ اللَّهَ بِاللِّسَانِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي قَلْبِهِ لِيَزْجُرَ نَفْسَهُ وَخَصَّ ذَاتَ الْمَنْصِبِ وَالْجَمَالِ لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَعُسْرِ حُصُولِهَا وَهِيَ جَامِعَةٌ لِلْمَنْصِبِ وَالْجَمَالِ لَا سِيَّمَا وَهِيَ دَاعِيَةٌ إِلَى نَفْسِهَا طَالِبَةٌ لِذَلِكَ قَدْ أَغْنَتْ عَنْ مَشَاقِّ التَّوَصُّلِ إِلَى مُرَاوَدَةٍ وَنَحْوِهَا فَالصَّبْرُ عَنْهَا لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ دَعَتْ إِلَى نَفْسِهَا مَعَ جَمْعِهَا الْمَنْصِبَ وَالْجَمَالَ مِنْ أَكْمَلِ الْمَرَاتِبِ وَأَعْظَمِ الطَّاعَاتِ فَرَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يُظِلَّهُ فِي ظِلِّهِ وَذَاتُ الْمَنْصِبِ هِيَ ذَاتُ الْحَسَبِ وَالنَّسَبِ الشَّرِيفِ وَمَعْنَى دَعَتْهُ أي دعته إلى الزنى بِهَا.
كثرة الصدقات: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ:............. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ) ([4]) قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَالسِّرُّ فِيهَا أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فَإِعْلَانُهَا أَفْضَلُ وَهَكَذَا حُكْمُ الصَّلَاةِ فَإِعْلَانُ فَرَائِضِهَا أَفْضَلُ وَإِسْرَارُ نَوَافِلِهَا أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ ﷺ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَذَكَرَ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ مُبَالَغَةً فِي الْإِخْفَاءِ وَالِاسْتِتَارِ بِالصَّدَقَةِ وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا لِقُرْبِ الْيَمِينِ مِنَ الشِّمَالِ وَمُلَازَمَتِهَا لَهَا وَمَعْنَاهُ لَوْ قَدَّرْتَ الشِّمَالَ رَجُلًا مُتَيَقِّظًا لَمَا عَلِمَ صَدَقَةَ الْيَمِينِ لِمُبَالَغَتِهِ فِي الْإِخْفَاءِ.
ذكر الله والبكاء من خشيته: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ:.............. وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) ([5])
فِيهِ فَضِيلَةُ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلُ طَاعَةِ السِّرِّ لِكَمَالِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا.
صدُق في العهود، ووفاء بالوعود، وثبات على المبدأ: قال الله تعالى: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) (سورة الأحزاب).
أي من المؤمنين رجال أوفوا بعهودهم مع الله تعالى، وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس: فمنهم من وَفَّى بنذره، فاستشهد في سبيل الله، أو مات على الصدق والوفاء، ومنهم مَن ينتظر إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وما غيَّروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدَّلوه، كما غيَّر المنافقون.
قوة الإيمان قبل قوة البنيان: عن عبد الله بن مسعود t أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله ﷺ: (مم تضحكون؟)، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد) ([6])
نصرة المظلومين والدفاع عنهم: قال تعالى: (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)} (القصص)
ما جعله يأتي من أقاصي المدينة، وما جاء يمشي بل جاء يسعى لماذا؟ دفاعاً عن أولياء الله والدعاة إلى الله، إنها الرجولة الحقة بكل معانيها.
قال ابن كثير رحمه الله: وصف بالرجولية لأنه خالف الطريق يعني الطريق الجادة التي تسلك في الشارع-، فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه، فسبق إلى موسى وحذره قال: إن الناس آتون ورائي ليقبضوا عليك ويقتلوك، أعوان فرعون الطاغية، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، يأتي هذا الرجل يسعى يختصر الطريق ليحذر ولي الله ونبيه موسى عليه السلام، تقديم النصيحة حتى في حالة الخوف هذه من صفات الرجولة.
الصبر لأجل الله: عن أبي عبد الله خَبَّاب بنِ الأَرتِّ - t - قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى ... رسولِ الله - ﷺ - وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظلِّ الكَعْبَةِ، فقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ألا تَدْعُو لَنا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الأرضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُجْعَلُ نصفَينِ، وَيُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَديدِ مَا دُونَ لَحْمِه وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْر حَتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَموتَ ... لا يَخَافُ إلا اللهَ والذِّئْب عَلَى غَنَمِهِ، ولكنكم تَسْتَعجِلُونَ» ([7])
تأييد الرسل ونصح الناس: قال تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)) (سورة يس)
هذه الرجولة التي يصفها الله تعالى في القرآن أن من أهلها من يقوم يؤيد الرسل في دعوتهم، ويناصرهم، ويبين للناس أن من جاءت به الرسل هو الحق، يعين الرسل ويساعدهم.
تحمل مسئولية الأسرة: …. قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.…(34)) (سورة النساء).
والقيِّم أي الرئيس، الذي يحكم أهله ويُقوِّم اعوجاجهم إذا اعوجوا، وهو المسؤول عنهم يوم القيامة، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ([8])
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يعين أهله، عَنِ
الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: (كَانَ يَكُونُ فِي مَهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خدمَة أَهله - فَإِذا حضرت الصَّلَاة خرج إِلَى الصَّلَاة ) ([9])
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يلاطفهن أو أن يمازحهن، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي قَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ»([10])
عباد الله: ما الذي يقدح في رجولة الرجل في الأسرة؟.
انعدام غيرته على أهله في أمر لباسها، فلا يعنيه أن تخرج متبرجة بملابس تُظهر مفاتنها، والرسول -عليه الصلاة والسلام- أعلمنا أن من أهل النار: (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ من مسيرة كذا وكذا) ([11]) هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ﷺ فَأَمَّا أَصْحَابُ السِّيَاطِ فَهُمْ غِلْمَانُ وَالِي الشُّرْطَةِ أَمَّا الْكَاسِيَاتُ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا مَعْنَاهُ كَاسِيَاتٌ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَارِيَاتٌ مِنْ شُكْرِهَا وَالثَّانِي كَاسِيَاتٌ مِنَ الثِّيَابِ عَارِيَاتٌ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ ولا تعنيه الجلسات المختلطة، قد تكون مع الرجال وتعمل مع الرجال وتخالط الرجال، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ" ([12]).
وعن ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» ([13])
ويقدح في رجولة الرجل أيضاً أن يلقي للزوجة الحبل على الغارب، تخرج متى تشاء، وتعود متى تشاء، ولا يعرف الوجهة التي خرجت إليها، أو أن تسافر بغير محرم، أو عدم وجود الصحبة الطيبة التي تحفظ لها دينها وعفتها في الطريق.
قوةٌ في القول، وصدعٌ بالحق: قال الله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)) (سورة غافر).
قيام الليل: عن سالم بن عبدِ الله بن عمر بن الخطاب - t- عن أبيِهِ: أنَّ رسول الله - ﷺ - قَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ). قَالَ سالِم: فَكَانَ عَبدُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ لا يَنامُ مِنَ اللَّيلِ إِلا قَلِيلاً) ([14])
لا تشغلهم الدنيا ولا تستهويهم المغريات: قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) ) (سورة النور).
قال ابن كثير رحمه الله: “قوله: (رِجَالٌ) فيه إشعار بهمهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عماراً للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه” يسبحون الله في المساجد، لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار.
إذن أيها المؤمنون ….هؤلاء الرجال الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن أي شيء؟ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، قال بعض السلف رحمه الله: يبيعون ويشترون، هؤلاء الرجال، يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة، كان إذا سمع النداء وميزانه في يده -يبيع ويشتري، فإذا سمع النداء خفض الميزان، وأقبل إلى الصلاة.
ومر عمرو بن دينار رحمه الله، ومعه سالم بن عبد الله، قال: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة، وخمروا متاعهم الناس الذين في سوق المدينة قاموا إلى الصلاة، وغطوا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، لم يجلسوا أمامها ليحرسوها مثلاً، أو لينظروا فيها، أو أغلقوا الدكاكين، وقعدوا على الدرجات على الرصيف في الطريق ينتظرون متى تنتهي الصلاة حتى يكون كل واحد منهم أول من يفتح الدكان، تركوا أمتعتهم في الشارع، غطوها في السوق، وذهبوا إلى المسجد، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا هذه الآية: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّه)
ثم قال: “هم هؤلاء”، هؤلاء الذين عنى الله بقوله في هذه الآية، هؤلاء الذين قدموا مراد الله على مراد أنفسهم، وآثروا طاعة الله على المتاع الدنيوي الزائل، آثروا الاستجابة لهذا النداء العلوي الرباني، "حي على الصلاة"، "حي على الفلاح"، على نداء الجشع والطمع الذي يثيره الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء.
يَمشونَ نحو بُيُوتِ الله إِذْ سمِعُوا | ** ** ** ** | الله أكبر، في شوقٍ وفي جَزَلِ |
الأمانة: عن أبي هريرة - t - عن النبي - ﷺ - قال: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَاراً، فَوَجَدَ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ، إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أشْتَرِ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قالَ أحَدُهُما: لِي غُلاَمٌ، وقالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قال: أنْكِحَا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ، وأنْفِقَا عَلَى أنْفُسِهمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا» ([15])
فسبحان الله! كيف كانت أمانة المشتري وقناعة البائع وحكمة القاضي بينهما!.
شهامة ومروءة: قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24) ) (القصص).
ثانيًا: مواقف رجولية
النبي ﷺ: الرجولة الحقة تتجلى في النبي ﷺ الذي علم الرجال وربى الرجال وهو الذي قال: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو اهلك فيه ما تركته) ([16])
عَن أبي إِسْحَق قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَلِيُّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَكِنْ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كَثِيرُ سِلَاحٍ فَلَقَوْا قَوْمًا رُمَاةً لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُهُ فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ وَقَالَ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ثُمَّ صفهم) ([17])
سيدنا أبو بكر الصديق t: بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ومبايعة المسلمون الخليفة الأول أبو بكر الصديق t، بدأت محنة جديدة وامتحان صعب، إذ ظهر مدعي النبوة، وارتد من ارتد من جزيرة العرب، وظهور مانعي الزكاة، وكان عليه الصلاة والسلام قد جهز جيش بقيادة أسامة t لغزو الروم، حيث اقترح بعض الصحابة بأن يبقى الجيش في المدينة لخوفهم من القضاء عليه وبالتالي تستباح المدينة إلا أن أبا بكر خالف ذلك وأمر بإمضاء بعث أسامة، وقال: لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله ﷺ.
وذكر صاحب كتاب العواصم من القواصم (أن أبا بكر t قال لأسامة: انفذ لأمر رسول الله ﷺ، فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك؟ فقال: لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددت جيش أنفذه رسول الله ﷺ).
فكان لهذا الموقف الراسخ الثابت الأثر الطيب والفتوحات بعد ذلك، مع أن غالبية الصحابة رأوا خلاف هذا، فتأمل.
سيدنا حبيب بن زيد مع مسيلمة الكذاب: الصحابي الجليل حبيب بن زيد بن عاصم t، من السبعين الذين حضروا بيعة العقبة الثانية، وأمه نسيبة بنت كعب (أم عمارة) إحدى المرأتين اللتين بايعتا رسول الله في هذه البيعة، ولم يكن حبيب يتخلف عن غزوة ولا وقعة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وعندما ظهر مسيلمة الكذاب في اليمن وادعى النبوة، بعث عليه الصلاة والسلام برسالة إليه وكان الاختيار على حبيب بن زيد بحملها وعندما قرأ مسيلمة الكتاب ازداد في ضلاله وتكبره وغروره، فقام بتعذيب مبعوث رسول الله في يوم مشهود وآثار التعذيب واضحة فقال مسيلمة لحبيب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال حبيب: نعم أشهد أن محمدا رسول الله، وعلا وجه مسيلمة الخزي والصفرة، وعاد يسأله: وتشهد أني رسول الله؟ فأجاب حبيب باستهزاء: أني لا أسمع شيئا!! فما كان من مسيلمة إلا أن نادى جلاده ثم راح يقطع جسد حبيب t قطعة قطعة وعضوا عضوا وحبيب لا يزيد عن ترديد (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
وكان بالإمكان لحبيب المراوغة مع مسيلمة وإظهار شيء آخر، لكن الثبات واليقين والأخذ بالعزيمة، يفعل بأصحابه الأعاجيب!!
القعقاع بن عمرو: لما حاصر خالد بن الوليد (الحيرة) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل!
رجل بألف رجل: لما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه: “أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد”.
غلامين كالصقرين: عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ قالَ: بينا أنا واقفٌ في الصَّفِّ يومَ بدرٍ، فنظرتُ عن يميني وشِمالي، فإذا أنا عن يميني وعن يساري بغُلامينِ مِن الأنصارِ حديثةٍ أسنانُهما، تمنَّيْتُ أن أكونَ بينَ أضلَعَ منهما، فكاني لم آمَنْ بمكانِهِما، فغَمَزَني أحدُهُما، فقالَ لي سراً من صاحِبهِ: يا عَمِّ! هل تَعْرِفُ أبا جهلٍ؟ قلتُ: نعم؛ ما حاجتُكَ إليه يا ابنَ أخي؟ قالَ: أُخبِرْتُ أنَّه يَسُبُّ رسولَ اللهِ - ﷺ -، والذي نفسي بيدِهِ؛ لئنْ رأيْتُهُ لا يفارِقُ سَوادي سوادَهُ حتى يموتَ الأعجلُ منَّا.
فتَعَجَّبْتُ لذلك، فغَمَزَني الآخرُ، فقالَ لي مثلَها، قال: فما سَرَّني أنِّي بينَ رجلينِ مكانَهُما، فلم أنْشَبْ أن نظرتُ إلى أبي جهلٍ يجولُ في الناسِ، قلتُ: ألا إنَّ هذا صاحِبُكُما الذي سألْتُماني، فابْتَدَراهُ بسَيْفَيْهِما، فشَدَّا عليهِ مثلَ الصَّقْرَينِ، فضَرَباهُ حتى قتَلاهُ، ثم انْصَرَفا إلى رسولِ اللهِ - ﷺ -، فأخبراهُ، فقالَ: "أيُّكُما قتَلَهُ"؟. قالَ كُلُّ واحدٍ منهما: أنا قتَلْتُه. فقالَ: "هل مَسَحْتُما سَيْفَيْكُما؟ ". قالا: لا. فنَظَرَ في السيفينِ، فقالَ: "كِلاكُما قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لمعاذِ بنِ عمرِو بنِ الجَموحِ" ، وكانا مُعاذَ ابنَ عفراءَ، ومعاذَ بنَ عمرِو بنِ الجَموحِ (وفي روايةٍ: وهما ابنا عفراءَ) ([18])
ومعنى أضلع أي بين رجلين أقوى من الرجلين الذين كنت بينهما وأشد.
قال ابن حجر: (قوله الصَّقرين، شبَّهَهما به لِما اشتهر عنه من الشَّجاعَة، والشَّهامة، والإقدام على الصَّيد، ولأنَّه إذا تشبَّث بشيء لم يفارِقه حتى يأخذه).
العز بن عبدالسلام: خرج ذات مرة إلى السلطان في يوم عيدٍ إلى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطانُ فيه يوم العيد من الأبَّهة وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية وأخذت الأمراء تقبِّلُ الأرض بين يدي السلطان فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه يا أيوبُ ما حُجَّتُك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملكَ مصر ثم تبيح الخمور فقال هل جرى هذا فقال نعم الحانة الفُلانية يباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون فقال يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي فقال أنت من الذين يقولون ( إنَّا وَجَدنا آباءَنا على أمَّة ) فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة) ([19]).
عبد الله ابن حذافة السهمي t: عن أبي رافع t قال: وجَّه عمر بن الخطاب t جيشا إلى الروم وفيهم رجلا يقال له عبد الله بن حذافة من أصحاب النبي ﷺ فأسره الروم فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد فقال له الطاغية: هل لك أن تتنصر وأشركك في ملكي وسلطاني؟ فقال له عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد ﷺ طرفة عين ما فعلت.
قال: إذا أقتلك قال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصلب، وقال: للرماة: ارموه قريبا من يديه قريبا من رجليه وهو يعرض عليه أن يتنصر وهو يأبى، ثم أمر به فأنزل ثم دعا بقدر وصب فيها ماء حتى احترقت ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى ثم أمر به أن يلقى فيها فلما ذهب به بكى فقيل له: إنه بكى فظن أنه رجع فقال: ردوه فعرض عليه النصرانية فأبى.
قال: فما أبكاك إذا؟ قال: لا ترى أني بكيت جزعا مما تريد أن تصنع بي ولكني بكيت حيث ليس لي إلا نفس واحدة يفعل بها هذا في الله، كنت أحب أن يكون لي من الأنفس عدد كل شعر فيّ ثم تسلط على فتفعل بي هذا.
قال: فأعجب منه: وأحب أن يطلقه فقال: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ قال عبد الله وعن جميع أساري المسلمين ؟؟ قال: وعن جميع أسارى المسلمين.
قال عبد الله: فقلت في نفسي عدو من أعداء الله أقبل رأسه يخلي عني وعن أسارى المسلمين لا أبالي فدنا منه وقبل رأسه فدفع إليه الأسارى فقدم بهم على عمر فأخبر عمر خبره فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ فقام عمر فقبل رأسه ([20])
صلاح الدين الأيوبي ذلك الذي جعل من الأزمة سبيل له إلى القمة، عندما تلقى كتاباً من المسجد الٌأقصى الأسير في يدي الصليبيين جاء في الكتاب:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّــــس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أنجس
هذه الرسالة في تلك الأزمة حركت الرجولة في نفسه أبية، فانتخى صلاح الدين وأقسم ألا يضحك ولا يغتسل حتى يحرر المسجد الأقصى وما هي إلا أيام ويعتلي خطيبُ صلاحِ الدينِ على منبرَ نور الدين في المسجد الأقصى ليقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)} [الأنعام].
ثالثًا: هل الرجولة بالسن أو بالذكورة والأنوثة
هل للرجولة سن معين؟ الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبُه في سن السابعة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير؛ ولكنه ذو لحية وشارب.
مر عمر بن الخطاب -t- على ثلاثة من الصبيان يلعبون، فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!
ودخل غلام عربي على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمّة من هو أولى منك بالخلافة!
أولئك لعمري هم الصغار الكبار، وفي دنيانا؛ ما أكثر الكبار الصغار!
وليست الرجولة ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية، فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) [المنافقون:4]، ومع هذا فهم: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون:4].
عنْ أبي هريرةَ t عن رسولِ اللهِ - ﷺ قالَ: "إنَّه لَيَأْتِي الرجلُ العظيمُ السَّمِينُ يومَ القيامَةِ لا يَزِنُ عندَ اللهِ جَناحَ بَعوضَةٍ"، وقالَ: "اقْرَؤُوا: {فَلا نُقِيمُ لهُم يَومَ القِيامَةِ وَزْناً} " ([21]).
وساقا عبد الله بن مسعود-t- يوم القيامة في الميزان أثقل من جبل أحد.
تَرى الرجلَ النّحيلَ فتزدَريهِ | ** ** | وفي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ |
فليست الرجولةُ بالسِّنِّ، ولا بالجسم، ولا بالمال، ولا بالجاه؛ وإنَّما الرجولة قُوَّةٌ نَفْسِيَّةٌ تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سَفْسَافِها، قُوَّةٌ تجعله كبيراً في صِغَرِه، غَنِيَّاً في فقره، قَوِيَّاً في ضَعْفِه، قوَّةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدِّي واجبه قبل أن يطلب حقَّه؛ يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو رَبِّه، ونحو بيته، ونحو دينه، ونحو أُمَّتِه.
هل نصف المرأة بالرجولة؟ نعم قد نصفها بالرجولة عندما تحسن التصرف في موقف من المواقف التي تعوّد الناس ألا تصدر إلا من الرجال.
يقولون: فلانة وقفت وِقْفَةَ رجل. وأحيانا توصف بأنها بمائة رجل، من فرط الإعجاب بها، في حين تُسلب صفة الرجولة من بعض الرجال عندما يقفون وقفة لا تليق بالرجال.
وهذين نموذجين دالين على وصف المرأة بالرجولة:
السيدة صفية بنت عبد المطلب: في غزوة الخندق، وضع النبي ﷺ النساء والأطفال في الحصون لحمايتهم، فكانت صفية وأمهات المؤمنين في حصن حسان بن ثابت، وكان من أمنع حصون المدينة، وبينما كان المسلمون منشغلون بقتال عدوهم، تسلل يهودي وطاف بالحصن يتجسس أخباره، فأدركت أنه يريد معرفة أفي الحصن رجال أم إنه لا يضم غير النساء والأطفال، فحملت عمودًا وتلطّفت حتى كانت في موضع تمكنت فيه من عدوها، ضربته على رأسه فوقع فانهالت عليه حتى مات، لكي لا ينقل خبرهم إلى قومه، ثم حزّت رأسه بسكين، وقذفت بها من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج حتى استقر بين أيدي يهود كانوا يتربصون في أسفله، فلما رأى اليهود رأس صاحبهم؛ قالوا: (قد علمنا إن محمداً لم يكن ليترك النساء والأطفال من غير حماة)، فعادوا أدراجهم.
السيدة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها: لما رأت المشركين يوم أحد يتكاثرون حول رسول الله أستلت سيفها وكانت مقاتلة قوية، وشقت الصفوف حتى وصلت إلى رسول الله تقاتل بين يديه وتضرب بالسيف يميناً وشمالاً حتى هابها الرجال وأثنى عليها النبي وقال: (ما ألتفت يميناً ولا شمالا يوم أحد إلا وجدت نسيبة بنت كعب تقاتل دوني). ولقد قالت يا رسول الله: ادع الله أن أرافقك في الجنة فقال: (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) جرحت يوم أحد جرحاً بليغاً فكان النبي يطمئن عليها ويسأل (كيف حال نسيبة). وعندما أخذت تحث ابنها عبد الله بن زيد عندما خرج يوم أحد فقالت: انهض بني وضارب القوم. فجعل النبي ﷺ يقول: (ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة).
ولو كان النســــــاء كمثل هذي | ** ** | لفضلت النساء على الرجال |
إذاً؛ الرجولة صفةٌ يحبها الله ورسوله لكل الناس، رجالاً كانوا أم نساء.
رابعًا: الإسلام يحتاج إلى رجال
أيها المسلمون: هذا الدين الذي تعب من أجله آدم، وناح لأجله نوح، ورُمى في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضُّر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم، وكسرت رباعيته، وشج رأسه ووجهه، محمد -ﷺ-.
من أجل هذا الدين قُتِل عمر مطعوناً، وذو النورين علي، والحسين، وسعيد بن جبير، وعُذّب ابن المسيب، ومالك.
ترك لأجله صهيب ماله كله لقريش، ولحق بقافلة الهجرة، فربح بيعه، فيا له من دين!
في محبته سالت دماء جعفر الزكية، وقطعت أعضاء مصعب الطاهرة، ومُثِّل بجسد حمزة الأسد؛ فيا له من دين!
من أجله صاح ابن النضر: واهاً لريح الجنة! وقُطع لحم خبيب بن عدي، وهو يقول:
ولستُ أبالي حين أُقْتَل مُسلماً | ** ** | على أيِّ جَنْبٍ كان في الله مَصْرَعي |
لأجله صرخ قطز: واسلاماه! وأعلنها صلاح الدين: كيف أضحك والقدس أسير!.
تعجبنا وتؤلمنا كلمة لرجل درس تعاليم الإسلام السمحة الشاملة فقال في إعجاب مرير: "يا له من دين لو كان له رجال!".
فالإسلام لا يحتاج إلى أشباه النساء كما حدث مع قوم سيدنا موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وهو يدعو قومه للجهاد والقتال فيقول: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ (21)} [المائدة].
فيتلعثم أشباه الرجال وينطق أشباه النساء ويقولون: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24)} [المائدة].
هذا حال أشباه النساء في كل زمان يرفضوا مواجهة الطغيان ويتركون الجهاد والقتال.
أما لسان الرجولة والبطولة فيقول: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(23)} [المائدة].
وهذا حال الرجولة في كل زمان، عزيمة وإقدام وتفاؤل واقتحام، وبعده تمكين وانتصار.
وهذا ما جاء على لسان رجل من رجال الصحابة الكرام يقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام يوم بدر: “يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغمام لجالدنا معك من دونه، لا يتخلف منا أحد، فامض يا رسول الله لما أراك الله فنحن معك”.
فالإسلام اليوم ينادي أصحابه وأتباعه، يقول لهم ويهتف بهم كما هتف لوط بقومه: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) [هود:78]؟
الإسلام اليوم يهتف بالناس: أليس منكم رجل رشيد؟! رجلٌ رشيدٌ، رشده يقيم شرع الله -عز وجل-في نفسه وبيته ومجتمعه، يدعو إلى الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
أليس منكم رجل رشيد؟! اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على دينك.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد
%%%%%%%%
[1])) صحيح مسلم
[2])) صحيح مسلم
[3])) صحيح مسلم
[4])) صحيح مسلم
[5])) صحيح مسلم
[6])) السلسلة الصحيحة
[7])) صحيح البخاري
[8])) متفق عليه
[9])) صحيح البخاري
[10])) السلسلة الصحيحة
[11])) صحيح مسلم
[12])) مختصر صحيح البخاري
[13])) صحيح البخاري
[14])) السلسلة الصحيحة
[15])) متفق عليه
[16])) سيرة ابن هشام
[17])) صحيح مسلم
[18])) مختصر صحيح البخاري
[19])) طبقات الشافعية ، السبكي
[20])) أسد الغابة في معرفة الصحابة
[21])) متفق عليه
تعليقات: (0) إضافة تعليق