الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إلاه إلا الله ولى الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله إمام النبيين
وبعد
العناصر:
أولًا: وجوب اتقان العمل ثانيًا: دلائل اتقان الله في خلقه
الموضوع
أولًا: وجوب اتقان العمل
خلق خلقه بإتقان وحُسْن خِلْقَة: قال تعالى: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ" "النمل: 88". فكل شيءٍ في هذا الوجود يسير على وجه من الإتقان؛ لأنه صدر عن الله تعالى، وفي تلك الآية إشارة إلى عبيد الله بأن يتخلقوا بخلق الله في خلقه وصفته في الخلق والصناعة.
وقال تعالى : " لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " (التين ، آية : 4)
حب الله لمتقن عمله: عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله r " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " ([1])
إذا عمل المرء المكلَّف مرة | ** | عملا فإن العيب ألا يحسنه |
فقد ذكر المختار أن إلهنا | ** | يحب لعبد خافه أن يتقنه
|
إتقان العمل اختبار وبلاء: قَالَ تعالى: "إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرضِ زِينَةً لَهَا لِنَبلُوَهُم أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلاً. )
وَقَالَ تعالى: الَّذِي خَلَقَ المَوتَ وَالحَيَاةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً" "الكهف 7".
وقال تعالى: ( وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين)
نهى عن الإهمال واعتبره فساد في الارض: قَالَ جل وعلا: "وَأَحسِنْ كَمَا أَحسَنَ اللهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسَادَ في الأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسِدِينَ" "القصص 77".
وَقَالَ تعالى: "وَلا تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ" "الأعراف 56" َ
قَالَ عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ" "البقرة.
َكُلّ شرائع وشعائر الإسلام قد أمرت الشريعة فيها بالإتقان، على النحو التالي: أ-الوضوء: فها هو r بعد أن شرح هيئة الوضوء لأصحابه يخبرهم قائلاً: "هكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ -أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ-"([2])
ب-الأذان: فلا يؤذِّن إلا الأندى صوتًا، فسيدنا بلال t كان يؤذن وهناك من هو أفضل منه ، وفي ذلك دلالة واضحة على احترام أهل الكفاءة المتقنة في مجالات التعبد... فكيف بمجالات الحياة العامة.
ج-الصلاة : فلا يؤمّ الناس إلا الأتقن قراءة للقرآن فعن عمرو بن سلمة قال كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا النبي r فكانوا إذا رجعوا مروا بنا فأخبرونا أن رسول الله r قال كذا وكذا وكنت غلاما حافظا فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا فانطلق أبي وافدا إلى رسول الله r في نفر من قومه فعلمهم الصلاة فقال يؤمكم أقرؤكم وكنت أقرأهم لما كنت أحفظ فقدموني فكنت أؤمهم وعلي بردة لي صغيرة صفراء فكنت إذا سجدت تكشفت عني فقالت امرأة من النساء واروا عنا عورة قارئكم فاشتروا لي قميصا عمانيا فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين " ([3]). وفي هذا دليل على احترام الإنسان المتقن قراءة وصلاةً وإن كان صبيًّا صغيرًا.
وهذا الذي أسرع في صلاته ولم يتقنها أمره النبي بإعادتها مرة أخرى، وقال له: كما عند البخاري في صحيحه وعند مسلم أيضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص دَخَلَ المَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ r، فَرَدَّ وَقَالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ r، فَقَالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا" ([4]) ، فها هو رسول الله يعلمه إتقان العبادة وحسن أدائها.
دـ تعلم القرآن: فإن الإتقان مهم جداً فقد قال -عليه الصلاة والسلام- : ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ)) ([5]) .
الإتقان في مجالات الحكم والقضاء والرياسة: ففي الحديث الصحيح: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" ([6]) وهذا يسمّى: الإتقان في الفصل بين الناس والمساواة بينهم عند القضاء وعدم محاباة طرف على آخر لأي حسابات أو مجاملات.
وعلى هذا فإننا نلحظ -حتى لا نطيل في الاستدلال- أنّ الإتقان يدخل في كل مجالات الحياة، الدينية والدنيوية، التعبدية والحياتية، في القول والفعل، في الحركة والسكنة، وهذا هو الإسلام.
إن الإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى الرقي والتطور، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون.
فالموظف والتاجر والمعلم والطبيب والعامل والمدير والقاضي ورجل الأمن والمسؤول والسائق والنجار وعامل النظافة والمهندسين يجب أن يتقنوا أعمالهم؛ فلا غش ولا خداع، ولا إهمال ولا تقصير؛ لأن العمل في الإسلام عبادة، وهو إذاً أمانة، وقد حذر المولى -سبحانه وتعالى-من ذلك، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
ثانيًا: دلائل اتقان الله في خلقه
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت: قال تعالى: (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ))[الملك:3 - 4].
خلق الكون:
منح الله سبحانه وتعالى الإنسان العقل ودعاه إلى التأمل والتفكير، والنظر في هذا الكون، وجعل له من الأدلة، والبراهين ما يستدل به على وجوده، فكل ما في هذا الكون يدعو إلى الإيمان بالله، حيث يمكن للإنسان معرفة الله وتبين صفاته عن طريق التفكر في مخلوقاته، ليجد بديع إتقانه، وروعة صنعه، وفي نهاية الأمر يصل إلى الاعتراف بوحدانية الله وعظيم قدرته، وقد ذكر القرآن الكثير من الآيات التي تدعو الإنسان إلى النظر في بديع خلق الله، فقد قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]
مظاهر قدرة الله في السماء:
هناك ارتباط بين سعة الكون وعظمة الخالق، فالذي خلق الكون الفسيح بكل ما فيه لا يكون إلا عظيمًا، فعندما خلق الله هذا الكون، أودع فيه من الأسرار والعجائب ما يدل على قدرته المطلقة، فلا جمال يفوق جمال الكون، ولا صنع يشبه صنيع الخالق، فالله هو القادر على هذا الصنع وحده،
ومن المظاهر الكونية التي تدل على هذه العظمة خلقه للسماء، بنجومها وقمرها، بمطرها وغيومها، بلونها الأزرق نهارًا، ولونها الحالك ليلًا،
يقول الشاعر سامي أحمد الموصلي عن قدرة الله في الكون:
جمالٌ فوق ما وُصفَ الجمالُ ** وحسنٌ ليس يشبههُ مثالُ
جمالُ الربِّ أبدعهُ بكونٍ ** يكيلُ بهِ الجمالَ ولا يكالُ
وحسنُ الربِّ في الدنيا **فريدٌ لديهِ ولا امتثالَ
فلا مثالُ خلق الله السماوات السبع، وأوحى في كل سماء أمرها، وزينها بنجوم، كل هذا في يومين، فالسماء بما فيها من حسن صنيع وجمال، بما فيها من ألوان تبعث على الراحة في قلب الإنسان، السماء بما فيها من نجوم تهدي الإنسان إذا ضلّ الطريق في سفره، بما فيها من قمر يضيء وحشة الليل، وما فيها من غيوم تبشّر الإنسان بمطر ونعمة قادمة. ثم إذا نزل المطر من السماء أنبت الزرع، فتنبت السعادة في قلوب الناس، أليس ذلك دليلًا على عظمة الخالق؟
يقول الله تعالى: " فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".
ومظاهر قدرة الله واتقانه في خلق السماء لا تتجلى في جميل الصنع والبناء، بل تتجلى في ما أودعه فينا من مشاعر اتجاهها، فعندما خلق الله الأرض جعلها وطنًا للآلام والأحزان والكُرب والمصائب، وخلق السماء ليرفه الناس عن أنفسهم في ملكوتها، ليزيلوا عناء الأرض بمطر السماء، فالسماء هي وطن الأحرار، كأن الله خلق السماء لتكون وطنًا للذين لا يطيقون سقف الأرض، وطن الدعاء والأمنيات، فمن الذي أودع فينا هذه المشاعر؟ من الذي أودع فينا الشعور بقرب الله عندما ننظر للسماء؟ من الذي أودع فينا الإحساس بالأمل عندما ننظر إليها؟ أليس هذا من مظاهر قدرة الله؟ وإذا نظرنا إلى أصغر شيء في السماء وهي النجوم، لرأينا فيها من بديع الصنع ما يدل على عظمة الخالق وحده، فهي متنوعة ومتعددة في صفاتها، فمنها النجوم الثوابت ومنها السيارة، ومنها القريبة والبعيدة، والصغيرة والكبيرة، فمنظرها يختلف من ليلة إلى ليلة، ومن ساعة إلى ساعة، وتختلف في السماء الصافية عن السماء الغائمة، وتختلف أيضًا من الليلة التي يكون فيها البدر مكتملًا عن تلك الليلة التي يكون فيها القمر محاقًا، أليس هذا من بديع صنع الله وقدرته العظيمة؟
ومن مظاهر قدرة الله في السماء أنها مرفوعة بلا عمد، وأن قدرة الله هي التي تمسكها أن تقع على الأرض، فهي مرتفعة إلى حد لا يمكن أن يصله الإنسان مهما تقدم في العلم. ومن هذه المظاهر أيضًا، أنها مخلوقة من مركّبات كيميائية جعلت بناءها متماسك ليس كأي بناء على الأرض، وأيضًا لها سبع طبقات في كل طبقة من العجائب ما يعجز العقل البشري عن الإحاطة به، وإن لم يكن ظاهر لنا إلا السماء الدنيا، فمن رؤيتنا لها يمكننا توقع عظمة خلق السماوات الأخرى.
وأخيرًا، إن الله عندما خلق السماء لم يخلقها عبثًا وإنما خلقها لنتفكر في بديع صنعها، ونتوصل إلى معرفته، والإيمان به، وشيء صغير من خلق الله قادر على أن يبعث الإيمان في قلوب الناس، فكيف إذا كان هذا الشيء عظيم كالسماء؟
اتقان الله وقدرته في السحاب:
يقول ابن القيم: ومن آياته: السَّحابُ المسخَّرُ بين السَّماء والأرض، كيف يُنشِئُه سبحانه بالرِّياح، فتُثِيرُه كِسَفًا، ثمَّ يؤلِّفُ بينه ويَضمُّ بعضه إلى بعض، ثمَّ تَلْقَحُه الرِّيحُ- وهي التي سمَّاها سبحانه: لواقح-، ثمَّ يسوقُه على مُتونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أهراقَ ماءه عليها، فيرسلُ سبحانه عليه الرِّيحَ وهو في الجوِّ فتَذْرُوه وتفرِّقُه؛ لئلَّا يؤذيَ ويهدِم ما ينزلُ عليه بجملته، حتى إذا رَوِيَت وأخذَت حاجتَها منه أقلَع عنها وفارقها؛ فهي رَوايا الأرض محمولةٌ على ظهور الرِّياح.
فالسَّحابُ حاملُ رِزق العباد وغيرهم التي عليها مِيرتهُم، وكان الحسنُ إذا رأى السَّحابَ قال: "في هذا- والله- رِزقكم، ولكنكم تُحْرَمُونه بخطاياكم وذنوبكم".
وعَن عبيد بن عُمَيْر اللَّيْثِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: بَينا رجل بفلاة من الأَرْض، فَسمع صَوتا فِي سَحَابَة: اسْقِ حديقة فلَان، فَتنحّى ذَلِك السَّحَاب فأفرغ مَاء فِي حرَّة، فَإِذا شرجة من تِلْكَ الشراج قد استوعبت ذَلِك المَاء كُله. فتتبع المَاء، فَإِذا الرجل قائمٌ فِي حديقة يحول المَاء بمسحاته، فَقَالَ لَهُ: يَا عبد الله مَا اسْمك؟ قَالَ: فلَان، للاسم الَّذِي سمع فِي السحابة. فَقَالَ لَهُ: يَا عبد الله: لم سَأَلتنِي عَن اسْمِي؟ قَالَ: سَمِعت السَّحَاب الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُول: اسْقِ حديقة فلَان - لاسمك، فَمَا تصنع فِيهَا؟ قَالَ: إِمَّا إِذا قلت هَذَا، فَإِنِّي أنظر إِلَى مَا يخرج مِنْهَا فأتصدق بِثُلثِهِ، وآكل أَنا وعيالي ثلثه. وأرد فِيهَا ثلثه " ([7]).
ويتابع ابن القيم حديثه قائلا: وبالجملة؛ فإذا تأمَّلتَ السَّحابَ الكثيفَ المُظلِم ، كيف تراهُ يجتمعُ في جوٍّ صافٍ لا كُدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لِينه ورخاوته حاملٌ للماء الثَّقيل بين السَّماء والأرض، إلى أن يأذنَ له ربُّه وخالقُه في إرسال ما معه من الماء، فيرسلُه ويُنْزِلُه منه مقطَّعًا بالقَطَرات، كلُّ قطرةٍ بقَدْرٍ مخصوصٍ اقتضته حكمتُه ورحمتُه، فيرشُّ السَّحابُ الماءَ على الأرض رشًّا، ويرسلُه قَطَراتٍ مفصَّلة، لا تختلطُ قطرةٌ منها بأخرى، ولا يتقدَّم متأخِّرُها، ولا يتأخَّر متقدِّمها، ولا تُدْرِكُ القطرةُ صاحبتَها فتمتزجُ بها، بل تنزلُ كلُّ واحدةٍ في الطَّريق الذي رُسِمَ لها لا تَعْدِلُ عنه، حتى تصيبَ الأرض قطرةً قطرة، قد عُيِّنت كلُّ قطرةٍ منها لجزءٍ من الأرض لا تتعدَّاه إلى غيره، فلو اجتمع الخلقُ كلُّهم على أن يخلقوا منها قطرةً واحدةً أو يحصُوا عدد القَطر في لحظةٍ واحدةٍ لعجزُوا عنه.
فتأمَّل كيف يَسُوقُه سبحانه رزقًا للعباد والدَّوابِّ والطَّير والذَّرِّ والنَّمل، يَسُوقُه رزقًا للحيوان الفُلانيِّ في الأرض الفُلانيَّة بجانب الجبل الفُلانيِّ، فيَصِلُ إليه على شدَّةٍ من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا.
ثمَّ كيف أودَعه في الأرض ، ثمَّ أخرجَ به أنواعَ الأغذية والأدوية والأقوات، فهذا النَّباتُ يغذِّي، وهذا يُصْلِحُ الغذاء، وهذا يُنْفِذُه، وهذا يُقَوِّي ، وهذا يُضعِف، وهذا سُمٌّ قاتل، وهذا شفاءٌ من السمِّ، وهذا يُمْرِض، وهذا دواءٌ من المرض، وهذا يبرِّد، وهذا يسخِّن، وهذا إذا حصَل في المعدة قمَع الصَّفراءَ من أعماق العُروق، وهذا إذا حصَل فيها ولَّدَ الصَّفراءَ واستحال إليها، وهذا يَدْفَعُ البلغمَ والسَّوداء، وهذا يستحيلُ إليهما، وهذا يهيِّجُ الدَّم، وهذا يسكِّنه، وهذا ينوِّمُ، وهذا يمنعُ النَّوم، وهذا يُفْرِحُ، وهذا يجلِبُ الغمَّ، إلى غير ذلك من عجائب النَّبات التي لا تكادُ تخلو ورقةٌ منه ولا عِرقٌ ولا ثمرةٌ من منافع تعجزُ عقولُ البشر عن الإحاطة بها وتفصيلها.
وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الدَّقيقة الضَّئيلة الضعيفة التي لا يكادُ البصرُ يُدْرِكُها إلا بعد تحديقه، كيف يَقْوَى على قَسْرِه وعلى اجتذابه من مقرِّه ومركزه إلى فوق، ثمَّ ينصرفُ في تلك المجاري بحسب قبولها
وسَعَتها وضيقها، ثمَّ تتفرَّقُ وتتشعَّبُ وتَدِقُّ إلى غايةٍ لا ينالها البصر.
ثمَّ انظر إلى تكوُّن حَمْل الشجر ونُقْلَتِه من حالٍ إلى حال، كتنقُّل أحوال الجنين المغيَّب عن الأبصار، ترى العجبَ العُجاب؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين ([8]).
إتقان الصانع سبحانه في الجبال:
قال تعالى: ]وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) [ [النمل: 88]
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: قوله تعالى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88] اي: تظنها ثابتة، وتحكم عليها بعدم الحركة؛ لذلك نسميها الرواسي والأوتاد {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88] أي: ليس الأمر كما تظن؛ لأنها تتحرك وتمر كما يمرّ السحاب، لكنك لا تشعر بهذه الحركة ولا تلاحظها لأنك تتحرك معها بنفس حركتها.
وهَبْ أننا في هذا المجلس، أنتم أمامي وأنا أمامكم، وكان هذا المسجد على رحاية أو عجلة تدور بنا، أيتغير وضعنا وموقعنا بالنسبة لبعضنا؟
إذن: لا تستطيع أن تلاحظ هذه الحركة إلا إذا كنتَ أنت خارج الشيء المتحرك، ألاَ ترى أنك تركب القطار مثلاً ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجري وأنت ثابت.
ولأن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخَلْق يزيل الله عنهم هذا العجب، فيقول {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] يعني: لا تتعجب، فالمسألة من صُنع الله وهندسته وبديع خَلْقه، واختار هنا من صفاته تعالى: {الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] يعني: كل خَلْق عنده بحساب دقيق مُتقَن.
البعض فهم الآية على أن مرَّ السحاب سيكون في الآخرة، واستدل بقوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5].
وقد جانبه الصواب لأن معنى {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] أنها ستتفتت وتتناثر، لا أنها تمر، وتسير هذه واحدة، والأخرى أن الكلام هنا مبنيٌّ على الظن {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88] وليس في القيامة ظن؛ لأنها إذا قامتْ أحداثها مُتيقنةٌ.
ثم إن السحاب لا يتحرك بذاته، وليس له موتور يُحركِّه، إنما يُحرِّكه الهواء، كذلك الجبال حركتها ليست ذاتيةٌ فيها، فلم نَرَ جبلاَ تحرَّك من مكانه، فحركة الجبال تابعة لحركة الأرض؛ لأنها أوتاد عليها، فحركة الوتد تابعة للموتود فيه.
حركة الجبال
لذلك لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الجبال قال: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]. ولو خُلِقتْ الأرض على هيئة السُّكون ما احتاجتْ لما يُثبِّتها، فلابد أنها مخلوقة على هيئة الحركة.
في الماضي وقبل تطور العلم كانوا يعتقدون في المنجِّمين وعلماء الفلك الكفرة أنهم يعلمون الغيب، أما الآن وقد توصَّل العلماء إلى قوانين حركة الأرض وحركة الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية واستطاعوا حساب ذلك كله بدقة مكّنتهم من معرفة ظاهرة الخسوف والكسوف مثلاً ونوع كل منهما ووقته وفعلاً تحدث الظاهرة في نفس الوقت الذي حددوه لا تتخلف.
واستطاعوا بحساب هذه الحركة أنْ يصعدوا إلى سطح القمر، وأن يُطلِقوا مركبات الفضاء ويُسيِّروها بدقة حتى إنَّ إحداها تلتحم بالأخرى في الفضاء الخارجي.
كل هذه الظواهر لو لم تكن مبنية على حقائق مُتيقَّنة لأدتْ إلى نتائج خاطئة وتخلفتْ.
ومن الأدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال، أن قوله تعالى: {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] امتنان من الله تعالى بصنعته، والله لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة، إنما الامتنان علينا الآن ونحن في الدنيا.
مظاهر قدرة الله واتقانه في خلق الأرض:
من الآيات التي تدل على قدرة الله في خلق الكون، خلقه الأرض، بما فيها من تميز وتفرد، بما فيها من كائنات حية، وما فيها من جبال وأنهار وبحار وأشجار، وما فيها من زهور تبعث الجمال في النفس، وما فيها من معادن، بالإضافة إلى طاقة تعين الإنسان على استمرارية الحياة، وما فيها من زلازل وبراكين، وما فيها من طبقات وصخور، يقول الشاعر عن قدرة الله في خلق الأرض:
لله في الآفاق آيات لعل ** أقلها هو ما إليه هداكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحًا ** قمم السحاب فسله من أرساكَ
وإذا ترى صخرًا تفجر بالمياه ** فسله من بالماء شق صفاكَ
إن مظاهر قدرة الله في خلق الأرض كثيرة، وكل هذه المظاهر خلقت بدقة متناهية وحكمة بالغة. فإذا سألنا أنفسنا لماذا خلق الله الإنس والجن؟ سنجد أن الهدف هو العبادة، وإذا سألنا أنفسنا لماذا خلق الله البحار والأنهار؟ أو لماذا خلق الجبال والسهول؟ سنجد في ذلك حكمة، فلم يخلق الله شيئًا في هذه الدنيا عبثًا. فمظاهر قدرة الله في خلق الجبال تتجلى في تنوع الجبال، وارتفاعاتها الشاهقة، وتماسكها العجيب، وصلابة صخورها، والأعجب من ذلك أن الجبال ليست فقط ما تظهر للعيان من ارتفاع، بل إن لها عمق في الأرض أكبر من ارتفاعها، فهي كالأوتاد جزء منها في باطن الأرض يجعلها قوية صلبة، وجزء منها ظاهر للمتأملين، فنتفكر بها لنرى بديع الخلق فيها، وهي كغيرها من المخلوقات لم تخلق عبثًا وإنما خلقها الله لحكم عظيمة، ومنافع كثيرة. وتتجلى مظاهر قدرة الله في خلق الحيوانات بما فيها من تنوع كبير، فمنها الحيوانات الكبيرة والصغيرة، ومنها القوية والضعيفة، ومنها ما يطير، ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، ومنها ما يزحف على بطنه، ومنها ما يعيش في الماء، ومنها ما يعيش على اليابسة، ولا يمكن إحصاء هذا التنوع أبدًا، بالإضافة إلى العدد الهائل لهذه الحيوانات، فكل يوم وكل دقيقة يكتشف العلم نوعًا جديدًا منها. وتتجلى مظاهر قدرة الله في خلق النبات، بأنها متنوعة، ولكل نبات صفات تميزه عن غيره، فبعضها طويل كالنخل، وبعضها الآخر متوسط الحجم، وبعضها قصير كالحشائش، وبعضها مفيد والآخر ضار، ومنها ما هو كبير الأوراق وعظيم السيقان، ومنها ما هو صغير الأوراق والسيقان، أليس هذا من مظاهر قدرة الله؟ ومن هذه المظاهر أيضًا نمو النبات في ظاهرة البناء الضوئي، وقدرته على تخليص الجو من ثاني أكسيد الكربون، وكونه مصدر غذائي للإنسان والحيوان. وأخيرًا، إن الأرض فيها من الأسرار والعجائب، ما لا يستطيع العقل أو اللغة التعبير عنها، فلو حاولنا الحديث عنها لجَفّ مداد اللغة قبل أن ننهي حديثنا عن مظاهر عظمتها.
مظاهر قدرة الله واتقانه في البحار:
من المظاهر الدالة على قدرة الله هي خلقه للبحار، فقد خلق الله البحار وجعل فيها ما يميزها عن غيرها مما خلق وأبدع، فتعتبر مصدرًا للأملاح والغذاء، والمعادن والثروات الطبيعية، وتعتبر مصدرًا لحياة الإنسان والنبات والحيوان، يقول الله تعالى: "وجَعَلْنا مِن المَاءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ أفَلَا يُؤْمنون" فتتجلى مظاهر قدرة الله في خلق البحار بأنه عالمٌ مليء بالحياة، عالم عميق مليء بالمفاجآت، التي لم يستطع الإنسان اكتشافها إلا بعد أن وصل إلى أقصى درجات التطور، فقد كان يعتقد أن أعماق البحار تتكون فقط من تربة، لكن تمّ اكتشاف أن فيها من النباتات والحيوانات المتعددة والمتنوعة والألوان الزاهية ما جعلها مصدرًا لحياة الكثير من الكائنات الحية كالإنسان، ومن هذه المظاهر أيضًا تنوع البحار، فهي مختلفة في الشكل والخصائص، فمنها ما هو مالح ومنها ما هو حلو، ومنها البحار الصغيرة والكبيرة، ومنها البحار المغلقة والمفتوحة، ومنها ما هو جارٍ وراكد. وتتجلى قدرة الله أيضًا، في أنه سخر البحر لتجري الفلك فيه، ففيه من القوة ما يجعله قادر على أن يحمل الإنسان إلى مشارق الأرض ومغاربها. ومياه البحار آية من آيات الله، فتجتمع وتتفرق بقدرة الله، فتصير موجًا ذا قوة كبيرة ومخيفة، ثم ما يلبث أن يهدأ فيجري هادئًا كأنما نزلت عليه السكينة، يفيض تارة، وتارة يلزم مسكنه، بالإضافة إلى حركة المد والجزر التي مكّنت الإنسان من استخراج الطاقة.
ولا يخفى علينا المظهر العجيب الذي أودعه الله في بحرين ملتصقين ببعضهما البعض، فهما يختلفان في خصائصهما اختلافًا كليًا، وفي كل بحر يعيش فيه من الكائنات ما لا يصلح له أن يعيش في البحر الآخر، ويجري الماء وتأتي الأمواج وتهب الرياح، ومع ذلك لا يختلطان أبدًا، وذلك لوجود البرزخ بينهما، وهو فاصل خلقه الله يمنع اختلاط البحرين مهما هبت ريح أو ارتفع موج.
وأخيرًا، إن حياة الكائنات الحية تعتمد بشكل أساسي على المياه، وقد جعل الله البحار مصدرًا لهذه المياه، ولم يخلقها عبثًا وإنما جعلها دليلًا على قدرته يتوجب علينا أن نحمد الله عليها دائمًا.
خلق الإنسان تظهر قدرة الله واتقانه:
قال تعالى: ]أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [ (59) ([9]).
يذكر الإمام ابن القيم موضحًا أبعاد العناية الإلهية وإتقان الصانع – سبحانه وتعالى – فيقول: (فَانْظُر الان الى النُّطْفَة بِعَين البصيرة وَهِي قَطْرَة من مَاء مهين ضَعِيف مستقذر لَو مرت بهَا سَاعَة من الزَّمَان فَسدتْ وانتنت، كَيفَ استخرجها رب الارباب الْعَلِيم الْقَدِير من بَين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها وَاخْتِلَاف مجاريها الى ان سَاقهَا الى مستقرها ومجمعها، وَكَيف جمع سُبْحَانَهُ بَين الذّكر والانثى والقى الْمحبَّة بَينهمَا، وَكَيف قادهما بسلسلة الشَّهْوَة والمحبة الى الِاجْتِمَاع الَّذِي هُوَ سَبَب تخليق الْوَلَد وتكوينه، وَكَيف قدر اجْتِمَاع ذَيْنك الماءين مَعَ بعد كل مِنْهُمَا عَن صَاحبه وساقهما من اعماق الْعُرُوق والأعضاء وجمعهما فِي مَوضِع وَاحِد، وجعل لَهما قرارا مكينا لَا يَنَالهُ هَوَاء يُفْسِدهُ وَلَا برد بِحَمْدِهِ وَلَا عَارض يصل اليه وَلَا آفَة تتسلط عَلَيْهِ، ثمَّ قلب تِلْكَ النُّطْفَة الْبَيْضَاء الْمشْربَة علقَة حَمْرَاء تضرب الى سَواد، ثمَّ جعلهَا مُضْغَة لحم مُخَالفَة للعلقة فِي لَوْنهَا وحقيقتها وشكلها، ثمَّ جعله عظاما مُجَرّدَة لَا كسْوَة عَلَيْهَا مباينة للمضغة فِي شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها، وَانْظُر كَيفَ قسم تِلْكَ الاجزاء المتشابهة المتساوية الى الأعصاب وَالْعِظَام وَالْعُرُوق والأوتار واليابس واللين وَبَين ذَلِك، ثمَّ كَيفَ ربط بَعْضهَا بِبَعْض اقوى رِبَاط وأشده وابعده عَن الانحلال، وَكَيف كساها لَحْمًا رَكبه عَلَيْهَا وَجعله وعَاء لَهَا وغشاء وحافظا وَجعلهَا حاملة لَهُ مُقِيمَة لَهُ، فاللحم قَائِم بهَا وَهِي مَحْفُوظَة بِهِ، وَكَيف صورها فاحسن صورها وشق لَهَا السّمع وَالْبَصَر والفم والانف وَسَائِر المنافذ ([10]).
قال تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ*ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [ المؤمنون:12-14]
انظر كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم، وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل، وقسم رؤوسها بالأصابع، وقسم الأصابع بالأنامل.
ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب، والمعدة، والكبد، والطحال، والرئة، والرحم، والمثانة، والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص، ومقدار مخصوص لعمل مخصوص؟ ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخ.
فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص، وهيئة مخصوصة، لو فقدت طبقة منها، أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار، فلو ذهبنا إلى نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب لانقضت فيها الأعمار، ولم نبلغ.
وانظر إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثم جعلها قواماً للبدن، وعماداً عليه، ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير، والطويل والمستدير، والمجوف والمصمت، والعريض والدقيق.
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة جعل فيها المفاصل حتى تتيسر الحركة، وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارج منه وفي الآخر العظم المقابل حفرة غائصة موافقة لشكل الزوائد، لتدخل فيها وتنطبق عليها، فصار العبد إذا أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك.
ثم انظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال والصور، وبقية العظام منها الأسنان بعضها عريضة تصلح للطحن وبعضها حادة تصلح للقطع، وهي الأنياب والأضراس والثنايا، وجعل عظام الرقبة، ثم ركب الرقبة على الظهر، وركب الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة، وركب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة يتصل به من أسفله عظم العصعص وهو أيضاً مؤلف من ثلاثة أجزاء، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتف، وعظام اليدين، وعظام العانة، وعظام العجز، وعظام الفخذين، والساقين، وأصابع الرجلين، وليس المقصود ذكر عدد العظام فهذا شيء يعرفه الأطباء والمشرحون، إنما الغرض أن ينظر في مدبرها، ويتفكر في خالقها، كيف قدرها ودبرها؟ وخالف بين أشكالها وأقدارها؟ وخصصها بهذا العدد المخصوص الذي لو زادت عليه عظمة لاحتاج الإنسان إلى قلعها، ولو نقصت واحد لاحتاج إلى جبرها ، فالطبيب ينظر لأجل العلاج، وأهل البصائر ينظرون ليستدلوا بذلك على جلال الخالق.
وانظر كيف خلق الله الآلات لتحريك العظام وهي العضلات، فخلق في بدن الإنسان تسعاً وعشرين وخمسمائة عضلة مركبة من لحم، وعصب، ورباط، وأغشية، فأربع وعشرون عضلة لتحريك حدقة العين وأجفانها، لو نقصت واحدة فقط لاختل الأمر، وكل ذلك صنع الله من قطرة ماء مهين، فما ظنك بصنعه في السماوات، وكواكبها فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السماء تنفك عن حكمة وحكم.
تفكر في هذه العين كيف فتحها ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها وحماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع القذى عنها، ثم أظهر في مقدار عدسة منها ما تراه في السماوات والأرض.
وخلق الأذنين وشقهما وأودعهما ماءً لحفظ السمع ودفع الهوام وحوطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت فترده إلى الصماخ.
وفتح المنخرين وأودع حاسة الشم فيه ليستدل باستنشاق الروائح على المطاعم والأغذية، وليستنشق الهواء الذي فيه غذاء القلب.
وهذه الحنجرة التي هيأها لخروج الأصوات وخلق اللسان للحركات وتقطيع الصوت من مخارج مختلفة، كل حرف من مخرج، ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملامسة والرخاوة والطول والقصر حتى اختلفت بسبب ذلك الأصوات فلا يكاد يتشابه صوتان، بل يظهر بين كل صوتين فرق مع كثرة عدد البشر، حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة.
وزيَّن الرأس بالشعر، وزيَّن الوجه باللحية والحاجبين، وزيّن الحاجب برقة الشعر وتقوس الشكل، وزين العينين بالأهداب.
سبحانك ربي:
لو تأملنا سائر ما خلق الله تعالى لرأينا مدى الإتقان والقدرة والعناية الإلهية فسبحان من صنع وخلق وأبدع
عجبت للأرض تعطى الخير اهليهــــــــــــا | ** ** ** ** ** ** ** ** ** ** **
| من الذي أجبرها على إنبات ما فيها |
بَرْقٌ يَلُوْحُ وَصَوْتُ الرَّعْدِ رَنَّـانُ | ** ** ** ** ** **
| وَصَيِّبُ السُّحْبِ مَالَتْ مِنْهُ أَغْصَانُ |
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جمع وترتيب الشيخ أحمد أبو عيد
%%%%%%%%
تعليقات: (0) إضافة تعليق