الحمد لله العلى الكبير، يخلق ما يشاء ويختار وما كان للإنسان في الخلق تخيير، رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم فهذا غنى وذاك فقير، أرسل رسله تترى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير.
وأشهد أن لا إله إلا الله العليم القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، يحول ولا يتحول ويغير ولا يعتريه تغيير، يبدأ الخلق ثم يعيده وذلك على الله يسير، كتب السعادة لمن أطاعه ووقاه عذاب السعير، وحقت على الكافرين الشقاوة وما زادهم غير تخسير.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله البشير النذير، النور المبين والسراج المنير، أعطى مجامع الكلم فما أخطأ التعبير، أنزل الناس منازلهم فوقّر الكبير، وخاطبهم على قدر عقولهم ورحم منهم الصغير، ما رد منهم سائلا قط بل جاد بالقليل وبالكثير.
وبعد فقد هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب في رمضان، وسعى سمسار الوعظ للمهجورين في الصلح، ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق، لما سُلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فكم يبق للعاصي عذر.
الموضوع
تحقيق التقوى: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة : 183].
فكأن الغرض من الصيام هو تحقيق التقوى، وهي كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه هي : تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)الزلزلة ،فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ولا شيئا من الشر أن تتقيه .
وعن مالك بن أنس رضي الله عنه قال:﴿ بلغني أنّ رجلا من بعض الفقهاء كتب إلى ابن الزّبير- رضي الله عنهما- يقول: ألا إنّ لأهل التّقوى علامات يعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم، من رضي بالقضاء، وصبر على البلاء، وشكر على النّعماء، وصدق في اللّسان، ووفّى بالوعد والعهد، وتلا لأحكام القرآن، وإنّما الإمام سوق من الأسواق، فإن كان من أهل الحقّ حمل إليه أهل الحقّ حقّهم، وإن كان من أهل الباطل حمل إليه أهل الباطل باطلهم﴾([1])
وقد أمر بها المؤمنين خصوصاً فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
والتقوى هي خير زاد للآخرة حيث قال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يسأل الله أن يرزقه إياها فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى » ([2]).
ومن تقوى الصائمين: - قال عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما – لراعي غنم: هلمّ فأصب من هذه السفرة - يعني : هيا تعال وتناول معنا الطعام -، - فقال: إنّي صائم ، - فقال له عبد الله - رضي الله تعالى عنهما -: في مثل هذا اليوم الشديد حرّه، وأنت في هذه الشِعاب في آثار هذه الغنم ، وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم ، - فقال الراعي : أبادر أيامي الخالية. فعجب ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما -.
- وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها – نذبحها - ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها ....؟ ، قال: إنّها ليست لي، إنّها لمولاي- أي: لسيدي ومالك أمري - ، - قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب ...؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله ...؟ - قال: فلم يزل ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - يقول : قال : الرّاعي فأين الله ...؟ ، فلما قدم المدينة، فبعث إلى سيّده، فاشترى منه الراعي والغنم، وأعتق الراعي ، ووهب له الغنم - رضي الله تعالى عنهما.
تعقيب على القصة: ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أحبّ أن يختبر أمانة الراعي فأعجبه جوابه وقيل: إنّه بكى لقول الراعي وهو رافع إصبعيه إلى السماء فأين الله..؟ وهنا درس عظيم الأثر وهو تنمية الصّلة بالله- تبارك وتعالى- وخشيته في الغيب والشهادة، وغرس روح المراقبة في النفوس.
ولا شكّ أنَّ ذكر الدروس المستفادة من القصة يرسخ ملكة المراقبة عندهم، فمثلاً نستفيد من قصة الراعي (أنَّ من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه)، إنّها قاعدة عظيمة لو شربها أطفالنا منذ الصّغر ، من ترك شيئًا لله - يا بني - عوّضه الله خيرًا منه في الدنيا قبل الآخرة ، يا لها من قاعدة - يا أيها الآباء - لو فهمها الأولاد لجنّبتهم الكثير من الحرام والمنكرات في وقت الشباب، ومَن حفظ الله تعالى صغيرًا حفظه الله تعالى كبيرًا.
الصبر: أن الصيام يعوّد المسلم على الصبر والتحمل والجلد؛ لأنه يحمله على ترك محبوباته وشهواته، ومعلوم أن كبح جماح النفس فيه مشقة عظيمة، ولهذا كان الصوم من أقوى العوامل على تحصيل أنواع الصبر الثلاثة، وهي صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله وصبر على أقدار الله، ومتى اجتمعت أدخلت العبد الجنة بإذن الله؛ قال تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر : 10].
اتقان العمل: مِنَ الأخلاقِ الَّتِي ينبغِي أنْ تظهرَ بكلِّ جلاءٍ ووضوحٍ علَى الصَّائمِ الإتقانُ فِي العملِ معَ الصِّدْقِ والأمانةِ، فالصَّيامُ يربِّي المسلمَ علَى القيامِ بالعملِ بكلِّ همَّةٍ وعزيمةٍ وإتقانٍ، لأنَّهُ يستشعرُ مراقبةَ اللهِ عزَّ وجلَّ فِي سائرِ تصرفاتِهِ، واللهُ تعالَى يحبُّ الإتقانَ في العملِ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ»([3]) ، فالصلاة ليست مجرد حركات تؤدي بسرعة حتى تنتهي منها وإنما لابد أن تستشعر لذة الوقوف بين يدي ربك سبحانه وتعالى، فتؤدي صلاتك بإتقان وخضوع وتذلل لله وكأن هذه هي آخر صلاة لك، وليس الصيام مجرد صبر على الجوع والعطش وإنما لابد أن تؤدي الغرض من الصيام.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي.....) ([4]) فيصبر المسلم ويجزيه الله تعالى على صبره خير الجزاء.
العزم وقوة الإرادة والإكثار من تلاوة القرآن: إن الصوم يربي في الصائم قوة الإرادة النابعة من
إيمانه بالله تعالى، وإرادة امتثال أمره بالصوم؛ ابتغاء مرضاة الله؛ وطمعًا في نيل ثوابه الأخروي.
فالصيام يدرِّب الصائم على ضبط النفس، والسيطرة عليها، والإمساك بزمامها حتى تنقاد بإذن الله إلى ما فيه خيرها وسعادتها، فإن النفس أمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي، فإذا أطلق المرء لنفسه عنانها أوقعته في المهالك، وإذا ملك أمرها وسيطر عليها تمكن من قيادتها إلى أعلى المراتب، وأسنى المطالب بإذن الله، وهذا لا يتحقق إلا لمن صام صوماً شرعيًّا مستشعراً عبادة ربه بذلك، منتظراً الثواب منه سبحانه.
والصائم الذي أرغم نفسه وحملها على أن تجتنب ما هو مباحٌ لها في الأصل، وسيطر على شهوات جسده، لقادرٌ بإذن الله على أن يجتنب ما حرم عليه من باب أولى في جميع أوقات العمر.
ذكر الإمام شمس الدين في سير أعلام النبلاء أحوال السلف مع القرآن فمن ذلك:
* كان الأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ.
* كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العباد وأقبل على قراءة القرآن.
* كان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين.
* كان زبيد اليامي: إذا حضر رمضان أحضر المصحف وجمع إليه أصحابه.
* كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر ختم كل
ليلةٍ.
* وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة وفي كل شهر
ثلاثين ختمة.
* كان وكيع بن الجراح يقرأ في رمضان في الليل ختمةً وثلثاً، ويصلي ثنتي عشرة من الضحى، ويصلي من الظهر إلى العصر.
* كان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة.
* وقال القاسم بن علي يصف أباه ابن عساكر صاحب (تاريخ دمشق): وكان مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة أو يختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية.
*وكان الامام مالك بن انس لا يفتي ولا يدرس في رمضان ويقول هذا شهر القرآن.
*كان الامام الشافعي في رمضان يختم القرآن60 مرة ..أي في اليوم ختمتين.
*وكان الامام احمد يغلق الكتب ويقول هذا شهر القرآن.
لعل قائل يقول: ورد النهي من الرسول ﷺ عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث؛ فكيف السلف يخالفون ذلك؟ فنقول جواباً على ذلك:
قال ابن رجب الحنبلي: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنام للزمان والمكان وهذا قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأمة وعليه يدل عمل غيرهم . ([5])
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: ينبغي لقارئ القرآنِ أنْ يُعْرفَ بليلهِ إذا النَّاسُ يَنامُون، وبنَهَارِهِ إذا الناسُ يُفطِرُون، وببُكائِه إذا الناسُ يَضْحَكون، وبوَرَعِهِ إذا الناسُ يخلطون، وبِصَمْتِهِ إذا الناسُ يَخُوضون، وبِخشُوعِهِ إذا الناسُ يَخْتالُون، وبحْزْنِهِ إذا الناسُ يَفْرحون.
وأنشد بعضهم:
يا نفْسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى ** وأبصَروا الحقَّ وقلبي قد عَمِىِ
يا حُسْنَهم والليلُ قد أجَنَّهُمْ ** ونورُهم يفُوقُ نورَ الأنْجُمِ
تَرَنَّموا بالذِّكْر في لَيْلِهُمُو ** فَعَيْشُهم قَدْ طابَ بالتَّرنُّمِ
قلوبُهُمْ للذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغتْ ** دمُوعُهم كلُؤْلُؤٍ منْتَظِمِ
أسْحارُهُمْ بنورِهِمِ قَدْ أشْرَقَتْ ** وخِلعُ الغفرانِ خَيْرُ القِسَمِ
قَدْ حَفِظوا صيامَهُم من لَغْوهِم ** وخَشَعُوا في الليلِ في ذِكْرِهِمِ
ويْحَكِ يا نفسُ أَلاَ تَيَقَّظِي ** للنَّفْعِ قبلَ أنْ تَزِلَّ قَدمِي
مضى الزَّمانُ في تَوَانٍ وَهَوى ** فاسْتَدْرِكِي ما قَدْ بَقِي واغْتَنِمِي
الصدق: قال ابن القيم رحمه الله: (فإن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه
ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم) ([6])
الصدقات: إن الصائم الذي وهبه الله ولو شيئًا من المال، والذي قد تعود طوال العام على الرفاهية في المطعم والمشرب والملبس والمسكن، فغفل عن الفقراء والمساكين، حريٌّ به أن يتغير سلوكه أثناء الصيام، وأن تظهر أحاسيسه تجاه غيره، حين يشعر بألم الجوع العطش، ومرارة الحرمان؛ فيستشعر ما يعانيه إخوانه الفقراء.. يذكر بذلك أخاه الفقير الذي ربما يبيت طاويًا جائعًا فيجود عليه بالصدقة.
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «من فَطَّرَ صَائِمًا أَوْ جَهَّزَ غَازِيًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» ([7])
الإفطار مع المساكين: من عجيب أحوال ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان لا يفطر في رمضان إلاّ مع المساكين ويحافظ على ذلك باستمرار فإذا منعهم أهله عنه لم يتعش تلك الليلة!
وكان رضي الله إذا جاءه سائل وهو على طعامه اخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة من الطعام فيصبح صائما ولم يأكل شيئا!
ولم يكن هذا التصرف من ابن عمر - رضي الله عنهما - خاصا به وحده بل كان هديا وسمتا للصحابة والتابعين في رمضان.
وفي ذلك يقول أبو السوار العدوي - رحمة الله -: "كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده إن وجد من يأكل معه أكل وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه.
وروي عن بعض السلف قوله: "لان أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاما يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل".
وروي عن حماد بن ابي سليمان - رحمه الله - أنه كان يفطر في شهر رمضان خمسمائة إنسان.
الحلم وكظم الغيظ والعفو والصفح: ينبغي للصائم إن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله أن يقول جهراً:
إني صائم، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (.....وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) ([8])
(يصخب) من الصخب وهو الخصام والصياح
سلامة الصدور: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم شهر الصبر، وثلاثة أيامٍ من كل شهر، يذهبن وَحَرَ الصدر)) ([9])، ووَحَرَ الصدر: أي غشه، أو حقده، أو غيظه، أو نفاقه، بحيث لا يبقى فيه رين، أو العداوة، أو أشد الغضب .
ترك قول الزور: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ([10])
(الزور) الكذب والميل عن الحق والعمل بالباطل والتهمة. (العمل به) العمل بمقتضاه مما نهى الله عنه. (فليس لله حاجة) أي إن الله تعالى لا يلتفت إلى صيامه ولا يقبله].
فالصيام شرع من أجل تربية النفوس على الفضائل، وإعانة الأبدان على طاعة رب العالمين، وإصلاح الأخلاق والمعاملات بين الناس.
ولو تأملنا في حال السلف، وتتبعنا كيف كانوا يقضون أيامهم في رمضان، وكيف كانوا يعمرونها بصالح الأعمال، لعلمنا بُعد المفاز بين ما نحن عليه، وما كانوا عليه.
فهل لنا أن ننتبه لهذا الأمر، وألا نجعل رمضان فرصة تضيع من بين أيدينا، فيجب على الصائم خاصة، الحذر من المعاصي واجتنابها، فهي تجرح الصوم، وتُنقِصُ الأجر، وذلك مثل الغيبة، والنميمة، والكذب، والغش، والسخرية من الآخرين، وسماع الأغاني، والمعازف، والنظر إلى المحرمات، وغير ذلك من أنواع المعاصي والمنكرات.
الحذر من معوقات الصيام: بعض الأعمال قد تضيع على أصحابها فإياك إياك -أخي الصائم- أن يضيع عملك في رمضان وأنت تحسب انك تحسن إلى الله صنعا..! َ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4-5].... ﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ﴾ [التوبة: 53] .... ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80] ما أكثر المنافقين، الذين شوشوا على الناس، ووسوسوا في عقول الشباب، ودمروا المجتمع ﴿ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142] إنهم مضرة الأمم، وفساد الشعوب، يطلون عبر الفضائيات وفي الافلام والمسلسلات وفي الجرائد والمجلات، لقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لأحدهم، أو أن يصلي عليه، أو أن يقوم على قبره، لفساد قلوبهم، ولعظم جرمهم. ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145] كل أمة تهلك أو تضيع بسبب منافقيها، وما أكثرهم، طابور خامس وغيره...
إنما الصوم الأرقى: أن تصلح النية، وتخلص القلب، وتمسك الجوارح كلها عن ما حرم الله فتصوم العين عن النظرات الخائنة، وتنظر في آيات الله القرآنية والكونية، وتصوم الأذن عن سماع اللغو والغيبة، وتتلقف الذكر والكلم الطيب، ويصوم اللسان عن تجرح الناس، وهتك أعراضهم، ويتلو كتاب ربه ويرطب بالذكر والدعاء والحمد والثناء، وتصوم البطن عن الحلال والحرام في رمضان لتمتنع عن الحرام بعد رمضان، ويصوم العقل عن المكر السيئ، ويفكر فيما خلق الله من سيء، وتصوم القدم عن السير في مواطن الشبهات وأماكن ظلم البلاد والعباد، وتمشي في الظلم إلى بيوت الله، وإلى ميادين الإصلاح بين الناس، أن تصوم اليد عن البطش والسرقة وتتحول إلى ممر لعطاء الله، بهذا يتحقق الصوم المطلوب ويؤتي ثماره.
قال جابر - رضي الله عنه -: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
أيها المسلم: ها هو رمضان أتى اليوم وغدا يمضي وينقضي فاحذر أن تكون فيه من الغافلين عن الطاعة والخير فيه فتحرم المغفرة والعتق من النيران وتكون من الأشقياء كما أخبر بهذا سيد الأنبياء، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقَى الدَّرَجَةَ الْأُولَى قَالَ: "آمِينَ". ثُمَّ رَقَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: "آمِينَ".. ثُمَّ رَقَى الثَّالِثَةَ: فَقَالَ: "آمِينَ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَمِعْنَاكَ تَقُولُ: "آمِينَ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: "لَمَّا رَقِيتُ الدَّرَجَةَ الْأُولَى جَاءَنِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قال: شقي عبد ذكرتَ عنه وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: آمِينَ" ([11])
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء
تعليقات: (0) إضافة تعليق