الحمد لله الذي عز جلاله فلا تدركه الإفهام، وسما كماله فلا يحيط به الأوهام، وشهدت أفعاله أنه الحكيم العلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الموصوف بالعلم والقدرة والكلام، سبحانه هو الله الواحد السلام .
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه .
إذا أردت أن تفـوز وتـرتـقي | ** | درج العلى أو تنال منه رضاه |
أدم الصلاة على محمد الـذي | ** | لولاه مـا فـتح المكـبر فـاه |
وله الوسيلة واللـواء وكوثـر | ** | يروى الورى وكذا يكون الجاه |
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
العناصر
أولاً: عظيم رحمة الله ثانياً: مغفرة الله للمذنبين
ثالثاً: نجاة الهالكين رابعاً: الأسباب الجالبة لرحمة الله -تعالى-
الموضوع
أولاً: عظيم رحمة الله
رحمة الله وسعت كل شيء: قال الله -عز وجل -: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" "الأعراف"
هو الغفور الرحيم: قال تعالى "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"
كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: قال تعالى: "قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ." الأنعام 12
وقال تعالى: "وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" "الأنعام: 54".
الله أرحم بعباده: وعن أنس t قال: مر النبي r بأناس من اصحابه وصبي بين ظهراني الطريق فلما رأت أمه الدواب خشيت على ابنها أن يوطأ فسعت والهة فقالت: ابني! ابني! فاحتملت ابنها فقال القوم: يا نبي الله! ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار فقال رسول الله r: لا والله والله؛ لا يلقي الله حبيبه في النار" ([1])
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: قُدِم على رسول الله r بِسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله r: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟) قلنا: لا والله وهي تقدِر على ألا تطرَحَه، فقال رسول الله r: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها) ([2])
وعن أبي هريرة t عن النبي r قال" إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة" ([3]).
رحمته سبقت غضبه: وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -r -: (لما قضى الله الخلق كتب كتابًا، فهو عنده فوق عرشه، إن رحمتي سبقت غضبي) ([4]).
غفران جميع الذنوب مع التوبة: عن أنس t قال سمعت رسول الله r يقول "قال الله يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة"([5])
وَعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -r-فِيمَا يَحْكِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذنبي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أي رَبِّ اغْفِرْ لِى ذنبي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِى أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أي رَبِّ اغْفِرْ لِى ذنبي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ». قَالَ عَبْدُ الأَعْلَى لاَ أَدْرِى أَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ «اعْمَلْ مَا شِئْتَ» ([6])
الرحمة مائة جزء: عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله -r – يقول"جعل الله الرحمة مائة جزء؛ فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها؛ خشية أن تصيبه" ([7]).
يورد ابن القيم -رحمه الله -عن بعض العارفين أنه رأى في بعض السكك بابًا قد فُتِح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمُّه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخرِج منه، ولا مَن يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا، فوجد الباب مرتجًا مغلقًا، فتوصده ووضع خدَّه على عتبة الباب، ونام، فخرجت أمُّه، فلمَّا رأته على تلك الحال، لم تملك أن رمت بنفسها عليه، والتزمته، تقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عنِّي؟ مَن يُؤويك سواي؟! أين تذهب عنِّي؟ مَن يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادة الخير لك؟ ثم ضمته إلى صدرها، ودخلت به بيتها، فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك.
ثانيًا: مغفرة الله للمذنبين
ستر الذنوب في الدنيا وغفرانها في الآخرة: إن من رحمته جل وعلا بعباده ما رواه عبد الله بن عمر t قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله r يَقُولُ "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" ([8]).
تبديل السيئات حسنات مهما كثرت: وعن عبد الرحمن بن جبير -t -قال: "أتى النبي -r -شيخ كبير هرم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدعم على عصا -أي: متكئًا على عصا -حتى قام بين يدي النبي -r -فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجة ولا حاجة إلا أتاها، لو قسمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقَتْهم -لأهلكَتْهم -أَلَهُ من توبة؟ فقال -r -: (هل أسلمت؟)، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: (تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات)، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟ قال: (نعم، وغدراتك وفجراتك)، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثم ادعم على عصاه، فلم يزل يردِّد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار"([9])
قال ابن قتيبة في "غريب الحديث"؛ للخطابي: "أراد أنه لم يدع شيئًا دعته نفسه إليه من المعاصي إلا ركبه؛ وذلك مصداقًا لقوله -تعالى -: "إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" الفرقان
لا تيأس من رحمة الله: أما إنسان يرى أن ذنوبه أكبر، وأخطر من أن تُغفَر فوكَل نفسه إلى عقله القاصِر عن إدراك رحمة الله - عز وجل - فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله r : " قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله وفي رواية أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له "([10])
قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴿53 الزمر ﴾
الله اعلم بحال كل عبد من عباده: ونوع آخر اصطدم بمَن يقطِّبون عن جبينهم، وظنُّوا أنهم بعباداتهم صاروا يحكمون على عباد الله، وقد أخبرنا رسولنا - r - عن مثل هذه النوعية؛ فعن أبي هريرة - t – قال سمعت رسول الله r يقول كان رجلان في بني إسرائيل متوخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اذهبوا به إلى النار قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ([11])
وعن جُندب بن عبدِ الله -t -قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -r -: (قَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ لا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللهُ -عز وجل -: مَنْ ذا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ! فَإنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَأحْبَطْتُ عَمَلَكَ) ([12]).
ومعنى: يتألى: يحلف
أسرع بالتوبة قبل فوات الأوان: وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ نبي اللَّهِ -r-قَالَ «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِى صُورَةِ آدمي فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ التي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ» ([13]). قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -r -: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) ([14]).
ولا تفتح هذه الأحاديث الباب للتطاوُل على حرمات الله، بل يريانك سعة رحمة الله وعفوه وأنت موكول إلى عملك.
وكان أحد الصالحين جار لأحد الفسقة الذين أدمنوا الخمر والمعاصي فلما مات هذا العاصي وطلب الناس من هذا الصالح أن يصلى عليه، تأفف الصالح وقال هذا رجل فاسق كيف أصلى عليه وفى تلك الليلة، نام هذا الرجل الصالح وفى المنام رأى مفاجأة وهي أن هذا الفاسق كان يصلى في الجنة جن الجنون هذا الرجل الفاسق فذهب إلى امرأة الفاسق وسألها ماذا كان يفعل زوجك؟ قالت ما كان يفعل إلا ما رأيتم إلا انه كان كل أسبوع يجمع أطفال الحي اليتامى ويقول لهم: أدعو لعمكم عسى أن يغفر الله لهم فيا أخي لا تستقل الخير. ........ قد يكون سبب في دخول الجنة
ثالثًا: نجاة الهالكين
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r-قَالَ «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهُوَ يَمْشِى مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ تَبَارَكَ الَّذِى نَجَّانِى مِنْكِ لَقَدْ أَعْطَانِىَ اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّى إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ لاَ يَا رَبِّ. وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ لأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا فَيَقُولُ لَعَلِّى إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِى غَيْرَهَا. فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا. ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِىَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَيَيْنِ. فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْنِنِى مِنْ هَذِهِ لأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِى أَنْ لاَ تَسْأَلَنِى غَيْرَهَا قَالَ بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِى مِنْكَ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا قَالَ يَا رَبِّ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ». فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَلاَ تَسْأَلُونِّى مِمَّ أَضْحَكُ فَقَالُوا مِمَّ تَضْحَكُ قَالَ هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -r-. فَقَالُوا مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ وَلَكِنِّى عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ» ([15])
ومعنى تسفع: تضرب وجهه وتسوده وتترك فيه أثرا دون الحرق، يصرينى : ما يقطع مسألتك
وما هذا كله إلا جزء يسير من رحمة الله فلا نقنط ولا نيأس أبدا من رحمته ولنقبل عليه سبحانه معترفين بتقصيرنا وإسرافنا نادمين على ذنوبنا عازمين على عدم الرجوع إلى المعاصي أبدا ومتوكلين عليه دائما فهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير
وإن هذه الرحمات كلها لا تفتح علينا باب التطاول علي الله وإنما لنكن جادين في العبادة مقبلين على طاعة الله فإذا زلت أنفسنا ووقعنا في المعاصي فلنسرع بالرجوع إلى الله فباب التوبة والرجوع إليه لا يغلق في وجه تائب أبدا حتى تطلع الشمس من مغربها أو تخرج الروح من الحلقوم.
فاللهم إنا نسألك أن ترحمنا وتغفر لنا جميع ذنوبنا اللهم آمين
رابعاً: الأسباب الجالبة لرحمة الله -تعالى- :
الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله: قال تعالى: ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )، فهؤلاء المؤمنون رجوا رحمة الله بعد أن علموا موجبات الرحمة وهي الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله ، والهجرة تشمل الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وترك ما نهى الله عنه ورسوله، كما قال عليه الصلاة والسلام:(والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) متفق عليه .
تقوى الله تعالى وطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه: بما في ذلك إيتاء الزكاة إلى مستحقيها والإيمان بآيات الله واتباع رسوله فيما أمر به ونهى عنه، قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي .....) ، وقال تعالى: ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون )، وفي المقابل فإن معصية الله ومعصية رسوله من أعظم موانع رحمة الله.
إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: كما قال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)، ولعل من الله نافذة المفعول، محققة المأمول.
الاستماع والإنصات لتلاوة القرآن الكريم: قال تعالى :(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ). وهذا من أعظم الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها سامع القرآن، وهي تدل على تعظيم شعائر الله.
وقال تعالى: ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون )، فالقرآن رحمة من عند الله بأحكامه وأوامره ونواهيه.
الاستغفار وطلب المغفرة من الله: قال تعالى: ( قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ).
الإحسان : الإحسان مع الله بمراقبته وخشيته ، ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾[القصص:77] ،الإحسان مع الوالدين، ﴿وبالوالدين إحسانا﴾ ،الإحسان في القول، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ [البقرة:83] ، ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[الإسراء:53].قال تعالى : ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف:56] .
الإكثار من التوبة والاستغفار : لأن العبد المؤمن يقع منه الخطأ والزلل فيحتاج دائما إلى أن يكثر من التوبة والاستغفار لتدركه رحمة الله، قال سبحانه: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46] وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]
رحمة الخلق : يقول ابن القيم: أقرب الخلق إلى الله تعالى أعظمهم رأفة ورحمة كما أن أبعدهم منه: من اتصف بضد صفاته. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- عن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ).( ابو داوود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع)
قال الطيبي: أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البرَّ والفاجر والناطق والبهم والوحوش والطير)
وعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ -رضي الله عنهما- أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ).(البخاري ومسلم )
وتبرَّأ النبي صلى الله عليه وسلم مِمن لا يرحمون صغار المؤمنين، ويوقِّرون كِبارهم، فثبت عنه صلى الله الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا )) (رواه أبو داود –صحيح-). فكن من الرحماء ذوي القلوب الرحيمة الرقيقة الشفيقة، التي تنبض بالإيمان، وتخفق بالرحمة والحنان، فترحم؛ لترحم، وتعطف على المسيئين لها، ليلطف الله بها.
الجمع بين الخوف والرجاء في جميع الأحوال والأوقات : إن الخوف من الله مع الرجاء في الله يورثان فضل الله ورحمته وغفرانه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ، أسرف علي نفسه، فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حَضَرَته الوَفَاةُ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ).(البخاري ومسلم )
الدعاء باسمي الرحمن الرحيم وبصفة الرحمة: عَنْ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ).(أبو داوود –حسن-)
زيارة المريض: نعم اسمعوا الحبيب المصطفى وهو يقول: « «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ الرَّحْمَةَ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ اغتمس فِيهَا» » [صحيح، موطأ مالك]
الصبر : فالدنيا جُبلت على كدر وتعب وهموم ومن ثم فأحلى حياة وأسعد حياة يعيشها المسلم بالصبر،و نتيجة الصبر محمودة ، بل الصابرون هم الذين تنالهم رحمة الله ، قال تعالى : ﴿وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة:157]
قيام الليل وإيقاظ الزوجين لبعضهم: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « رحم اللّه رجلا قام من اللّيل فصلّى، ثمّ أيقظ امرأته فصلّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم اللّه امرأة قامت من اللّيل فصلّت، ثمّ أيقظت زوجها فصلّى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» [صحيح سنن أبي داود]
صلاة قبل العصر أربعاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «رحم اللّه امرأ صلّى قبل العصر أربعا» [الترمذي (حسن)].
انتظار الصلاة :قال صلى الله عليه وسلم :«لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له اللهم أرحمه حتى ينصرف أو يحدث»[ صحيح مسلم]
السماحة في البيع والشراء، روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى"(البخاري).
التصالح والأخوة: قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[الحجرات:10] لا صلاح لأحوالنا ولاقتصادنا إلا بالأخوة والتصالح .
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء
([15]) صحيح مسلم
تعليقات: (0) إضافة تعليق