الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، أظهر الحق بالحق وأخزى الأحزاب، وأتمَّ نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب، أرسل الرياح بشرًى بين يدي رحمته وأجرى بفضله السحاب، وأنزل من السماء ماء، فمنه شجر، ومنه شراب، جعل الليل والنهار خلفة فتذكر أولو الألباب، نحمَده تبارك وتعالى على المسببات والأسباب، ونعوذ بنور وجهه الكريم من المؤاخذة والعتاب، ونسأله السلامة من العذاب وسوء الحساب.
وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الوهاب، الملك فوق كل الملوك ورب الأرباب، الحكم العدل يوم يُكشف عن ساق وتوضع الأنساب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، خلق الناس من آدم وخلق آدم من تراب، خلق الموت والحياة ليبلونا وإليه المآب، فمن عمل صالحًا فلنفسه، والله عنده حسن الثواب، ومن أساء فعليها، وما متاع الدنيا إلا سراب.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المستغفِر التواب، المعصوم r في الشيبة والشباب، خُلُقه الكتاب، ورأيه الصواب، وقوله فصل الخطاب، قدوة الأمم، وقمة الهِمَم، ودرة المقربين والأحباب، عُرضت عليه الدنيا بكنوزها، فكان بلاغه منها كزاد الركاب، ركب البعير، ونام على الحصير، وخصف نعله ورتق الثياب، أضاء الدنيا بسنته، وأنقذ الأمة بشفاعته، وملأ للمؤمنين براحته من حوضه الأكواب.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب، ما هبت الرياح بالبشرى وجرى بالخير السحاب، وكلما نبت من الأرض زرع، أو أينع ثمر وطاب.
العناصـــر
أولاً: فضل القران الكريم
ثانيًا: المنهج الأخلاقي في القرآن
ثالثًا: واجبنا نحو كتاب الله تعالى
المـــوضــــوع
القرآن لغة: لفظ القرآن مصدر مشتق من (قرأ) يقال قرأ، يقرأ، قراءة، وقرآناً ومنه قوله تعالى" إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه "
القرآن اصطلاحاً: كلام الله المنزل علي نبيه محمد المعجز بلفظه المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر المكتوب في المصاحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر الناس.
أولاً: فضل القران الكريم
الخروج من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان: قال تعالى: " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ " ابراهيم
تحدى الله جميع المخلوقين أن يأتوا بمثله: قال تعالى: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" "البقرة: 23".
وقال تعالى: "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "الإسراء ، وقال تعالى: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" "هود: 13"
السعادة في الدنيا والآخرة: قال تعالى: " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" "طه:123، 126"
الذين يتبعونه هم أولو الألباب: قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾"الزمر" ، وقال تعالى:﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾"ص"
سبيل الهداية إلى الصراط المستقيم: قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ "الشورى
تبشير المؤمنين وإنذار الكافرين: قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾الكهف وقال تعالى: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)
شفاء ورحمة للمؤمنين: وقال تعالى: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا "(الإسراء: 82)
خير من جمع المال: عن عقبة بن عامر t قال: خرج علينا رسول الله r ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم بطحان أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم بالله ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله كلنا نحب ذلك فقال: فلئن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل)) ([1])
تولى الله حفظه: قال يحيى بن أَكْثم: كان للمأمون -وهو أميرٌ إذْ ذاك -مجلِسُ نظر، فدخَل في جملة الناس رجلٌ يهودي، حسَنُ الثَّوب، حسن الوجه، طيِّب الرائحة، قال: فتكلَّمَ فأحسن الكلامَ والعبارة.
فلما تقوَّض المجلسُ دعاه المأمون، فقال له: إسرائيليٌّ؟ قال: نعم. قال: أسلِم حتى أفعل بك وأصنعَ، ووعَدَه، فقال: ديني ودين آبائي، وانصرف، قال: فلمَّا كان بعد سنة جاء مسلمًا، فتكلَّم على الفقه، فأحسنَ الكلام، فلما تقوَّض المجلسُ دعاه المأمون، وقال: ألست صاحِبَنا بالأمس؟ قال: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفتُ من حضرتك، فأحببتُ أن أمتحِن هذه الأديان، وأنت تراني حسَنَ الخطِّ، فعمدتُ إلى التوراة، فكتبت ثلاث نُسَخ، فزِدْتُ فيها ونقَصْت، وأدخلتُها البيعة، فاشتُرِيت منِّي، وعمدتُ إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ، فزدتُ فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة، فاشتُرِيت مني وعمدت إلى القرآن، فحملت ثلاث نسخ، وزدت فيها ونَقَصْت، وأدخلتُها الورَّاقين، فتصفحوها فلما وجدوا فيها الزِّيادة والنقصان، رموا بها فلم يشتروها، فعلمتُ أنَّ هذا كتابٌ محفوظ، فكان هذا سببَ إسلامي، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ الحجر: 9
اطمئنان القلوب: قال تعالى:﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ الرعد
أحسن الحديث : فقال سبحانه وتعالى:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ الزمر: 23.
أهل القران هم أهل الله وخاصته: عن أنس t أن رسول الله r قال: "إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ"، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ هُمْ؟ قال: "هم أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ"([2])
جواز جعل القران مهرا: عن سهل بن سعد t قال: أتت النبي r امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله r، فقال: ((ما لي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيها، قال: أعطها ثوبا، قال: لا أجد، قال: أعطها ولو خاتما من حديد، فاعتل له، فقال: ما معك من القرآن: قال: كذا وكذا قال: فقد زوجتها بما معك من القرآن)) ([3]) ، ومعنى (فاعتل له) حزن وتضجر من أجله أو تعلل أنه لم يجده
هو الكتاب المهيمِنُ على ما عَداه من الكُتُبِ التي أنزَلَها الله -جلَّ وعلا : قال تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾"المائدة: 48"، قال ابن سعدي: "أي: مشتملاً على ما اشتَملتْ عليه الكُتُبُ السابقة وزيادةً في المطالب الإلهيَّة والأخلاق النفسيَّة".
أنَّ الغبطةَ الحقيقيَّة والحسَدَ المحمود إنما يكونُ لمن حَفِظَ القُرآن الكريم وقام بحقِّه: عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ -r-قَالَ «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ». ([4])
علو المنزلة في الدنيا والآخرة: فعن عمرَ بن الخطابِ t أَنَّ النَّبِيَّ r قال: «إِنَّ اللَّه يرفَعُ بِهذَا الكتاب أَقواماً ويضَعُ بِهِ آخَرين» ([5]) ، وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالتْ: قال رسولُ اللَّهِ r: "الَّذِي يَقرَأُ القُرْآنَ وَهُو ماهِرٌ بِهِ معَ السَّفَرةِ الكرَامِ البررَةِ، والذي يقرَأُ القُرْآنَ ويتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُو عليهِ شَاقٌّ له أجْران " ([6]) .
وعن عبد الله بن عمرو (t) قال: قال رسولُ الله (r): (يقالُ لصاحبِ القرآن: اقرَأ وارتَقِ، ورتِّل كما كُنْتَ ترتِّل في الدُنيا، فإن منزِلَكَ عندَ آخرِ آية تقرؤها) ([7])
وعن أبي أمامة (t) قال: سمعت رسول الله (r) يقول: (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ
بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ). وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (r) ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا) ([8])
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا"([9])
الجزاء بعد الموت: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"([10])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". ([11])
الشفاعة بين يدي الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: " يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً " ([12]) ، وعن أَبي أُمامَةَ t قال: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ r يقولُ: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإِنَّهُ يَأْتي يَوْم القيامةِ شَفِيعاً لأصْحابِهِ " ([13])
وعَن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ t قال: سمِعتُ رسول اللَّهِ r يقولُ: «يُؤْتى يوْمَ القِيامةِ بالْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ الذِين كانُوا يعْمَلُونَ بِهِ في الدُّنيَا تَقدُمهُ سورة البقَرَةِ وَآل عِمرَانَ، تحَاجَّانِ عَنْ صاحِبِهِمَا» ([14])
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:"الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ"([15])، والماحِلُ: المجادلُ لصاحبه لما يتبع ما فيه ، وقال رسول الله r " يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك وأظمئ هواجرك وإن كل تاجر من وراء تجارته وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهم الدنيا وما فيها فيقولان: يا رب أنى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن. وإن صاحب القرآن يقال له يوم القيامة: اقرا وارق في الدرجات ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية معك ([16])
ثانيًا: المنهج الأخلاقي في القرآن([17]):
لقد كَثُرَتِ الآيات القرآنيَّة المتعلِّقة بموضوع الأخلاق، أمرًا بالجيِّد منها، ومدحًا للمتَّصفين بها، ومع المدح الثواب، ونهيًا عن الرديء منها، وذم المتَّصفين بها، ومع الذم العقاب، وكذا السُّنَّة النبويَّة، ولكنها ليست محْوَر حديثنا كما أشرتُ مِن قبْل، إنما محور الكلام كله مع القرآن وآياته، وإليك هذه الجملةَ الطيِّبة مِن الأمثلة الأخلاقيَّة في القرآن والدعوة إلى حسَنِها، وذمِّ قبيحِها:
الوفاء بالعهد: قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34]، وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المعارج: 32].
النهي عن القول بغير علم: قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
النهي عن مِشْية التبخْتُر والتمايُل كما يَفعل المتكبِّرون: قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].
النهي عن الإسراف والتبذير والبخل والتقتير: قال تعالى: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26، 27]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29].
الأمر بالعدل في جميع الأحوال، وبالنسبة لجميع الناس حتى الكفار: قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [الأنعام: 152]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ [النحل: 90]، وقوله تعالى: ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 15].
التعاون على البِرِّ والتقوَى وما ينفع الناسَ، والنهيُ عن التعاون على البَغْيِ والعُدْوان: قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
الظلم ظلمات يوم القيامة، وعاقبتُه وخيمة، ومِن أجْل هذا نهَى الإسلامُ عنه: قال تعالى: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 21]، وقال عز وجل: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].
الصدق من علامات الإيمان وثمراته؛ ولهذا أمَر الإسلامُ به: قال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وقال سبحانه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 80].
الكذب رذيلة لا يَنال صاحبها هداية الله، ويُثمر النفاقَ في القلب؛ ولهذا نهَى الإسلامُ عنه، وحذَّر منه: قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28]، وقال تعالى: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77].
إعلاء مقام الصبر عند المصيبة، والرضا بالقضاء والقدَر قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة]، وقال عز وجل: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]، وقال سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ [الفرقان: 75].
وجماعُ الأخلاقِ والفضائلِ في الدعوة القرآنيَّة إليها يأتي في جملةِ آياتٍ
منها: قوله تعالى في وصف المجتمع الإسلامي بالآداب الفاضلة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 11، 12].
ومنها أيضًا في وصف المؤمنين الكاملين قوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 11].
ومنها قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
ومنها قوله عز وجل: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ الَّلهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 151، 152].
ومنها كذلك وجماعُها في وصف عباد الرحمن، وبيان صفاتهم وأخلاقهم قوله سبحانه: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 63 - 76].
هذه بعض الآيات القرآنية العظيمة الهادية والداعية إلى التخلُّق بكل خُلقٍ نبيل، وأدبٍ كامل؛ والقرآن مملوءٌ بعشرات الآيات في هذا الجانب الأخلاقيِّ لمن تتبَّع واستقرأ ذلك بدقَّة.
ثالثًا: واجبنا نحو كتاب الله تعالى
الإيمان به على مقتضى مذهب أهل السنة والجماعة: فنعلم أنَّ الإيمانَ بالكُتُبِ التي أنزَلَها الله تعالى أحدُ أركان الإيمان، قال تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾"النساء: 136".
وقال الطحاوي في سِياق ذِكر عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: "وأنَّ القُرآن كلامُ الله، منه بدَا بلا كيفيَّة قولاً، وأنزَلَه على رسولِه وحيًا، وصدَّقَه المؤمنون على ذلك حقًّا، وأَيْقَنوا أنَّه كلامُ الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوقٍ ككلام البريَّة ، ولا نُجادِلُ في القُرآن، ونشهدُ أنَّه كلامُ ربِّ العالمين، نزَلَ به الرُّوح الأمين، فعلَّمه سيِّد المرسلين محمدًا - r- وهو كلام الله تعالى، لا يُساويه شيءٌ من كلام المخلوقين، ولا نقولُ بخلقِه، ولا نخالفُ جماعةَ المسلمين".
وقال ابن عثيمين: "ونؤمنُ بأنَّ القُرآن الكريم كلام الله تعالى، تكلَّم به حقًّا، وألقاه إلى جبريل، فنزل به جبريل على قلب النبيِّ -r".
تلاوته وتدبّره وتحديد ورد ثابت يوميا
فإن في تدبره وتلاوته
أ-التجارة الرابحة التي لا خسارة فيها: قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ" فاطر.
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» ([18]).
ب-نزول السكينة والرحمة : عن أبِى هريرة t أن رسول الله r قال "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده» ([19])
ج-تدبر آياته: قال تعالى:﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ "الزمر" ، وقال تعالى:﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
د-تحديد ورد ثابت يوميا: والسؤال: هل هناك مسلم لا يمكن أن يختم القرآن في حياته؟! هذه مصيبة كبرى! وأنا أسألك أيها القارئ الكريم: أتذكر آخر مرة ختمت فيها القرآن؟! أخشى أن تكون ختمة رمضان الماضي؟!. وأن يكون مصحفك قد وضع على الرف بعد رمضان وعلاه التراب. واحذر أن يشهد عليك القرآن أنك هجرته يوم القيامة!! وماذا تفعل لو لم تقرأ وردك اليومي؟!
بعض الصحابة كان إذا فاته ورده يبكي. وقد دخلوا على أحدهم ذات مرة فوجدوه يبكي بشدة، فسألوه: أتشتكي وجعا؟ قال: أشد.. أشد، قالوا: وما ذاك؟ قال: نمت بالأمس ولم أقرأ وردي، وما ذلك إلا بذنب أذنبته!!
إن كثيرا من الناس يقضون أوقاتا طويلة في قراءة الجرائد.. وقد ينزلون بالليل لكي يحصلوا على صحيفة الغد بتلهف واهتمام! فلماذا لا يحظى كتاب الله ولو بمثل هذا الاهتمام؟! أتزهد في ثواب القرآن؟؟؟؟! وبعض الناس يضيع وقته في التفكير والنظر إلى لا شيء وإذا سئل يقول: لا أجد شيئا أعمله!! وهل نسي المسكين كتاب الله؟.
وجوب التأثر به: يجب على المسلم أن يتأثر بالقرآن عند تلاوته ويتفاعل معه فيضطرب أو يهتز قلبه، ويشعر أن القرآن يتنزل عليه هو وفي لحظة قراءته، كما حكي الشاعر الكبير محمد إقبال قال: كان أبي يقول لي: يا بني اقرأ القرآن وكأنما عليك أنزل!! وبهذا يذوق المسلم حلاوة القرآن ويستشعر عظمته.
أ-النبي صلى الله عليه وسلم يضرب المثل والقدوة في التأثر بالقرآن والتجاوب مع آياته الكريمة، قال يوما لعبد الله بن مسعود: اقرأ عليّ القرآن، فيقول ابن مسعود: يا رسول الله: أأقرأ عليك وعليك انزل؟ فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري " ([20])
فجلست أقرأ عليه سورة النساء، حتى وصلت إلى قول الله عز وجل: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" النساء 41، فقال له r: حسبك الآن أي كفى، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان (أي يبكي من التأثر بالقرآن والتعايش معه؛ إذ علم أنه r المقصود والمعني بهذه الآية)، وأنا أسألك أخي القارئ العزيز: هل بكيت وأنت تقرأ القرآن ذات مرة؟!.
وهذا صحابي آخر يقول: كنا نسمع لرسول الله r وهو يقرأ القرآن في الصلاة أزيزا كأزيز المرجل من البكاء (أي أنه r كان يحدث مثل الهزة عند القراءة لشدة تأثره بها، وأزيز المرجل هو صوت الإناء الذي يغلي به
الماء) !!
ب-الصديق t تلميذ النبي الأول ورفيقه في حياته وبعد مماته، لما اشتكى النبي r مرضه الذي مات فيه قال لآل بيته: مروا أبا بكر فليصل باناس فكأنهم تعجبوا من ذلك وقالوا يا رسول الله: غن أبا بكر رجل أسيف (شديد التأثر بالقرآن) إذا قرأ القرآن بكى"([21])
ج-سيدنا عمر t كان يسير في الطريق ذات يوم فسمع رجلا يقرأ قوله تعالى من سورة الطور:" إنّ عذاب ربك لواقع*ماله من دافع". فسقط مغشيّا عليه، فحمله الناس الى بيته وظلوا يزرونه شهرا، يظنون أن به مرضا، وما به مرض بل شدة الخوف من الله تعالى واستحضار لمشهد يوم القيامة العظيم، وشدة عذاب الله تعالى للكافرين.
وجوب تعلمه وتعليمه
أ-الخيرية في تعلمه وتعليمه: عن عثمانَ بن عفانَ t قال: قالَ رسولُ اللَّهِ r: "خَيركُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعلَّمهُ " ([22]) ، فإنْ كان القُرآن الكريم قد شَرُفَ وعَلَتْ منزلته بين الكتب السماويَّة، وشَرُفَ مَن عمل به، وفاز مَن
آمن به، وحاز قارئه الأجرَ الكثير، فإنَّ لحافظِه من البركات والخيرات الشيء الكثير، كيف لا يكون كذلك مَن حوى كتابَ الله تعالى في صدره وملأ قلبَه به وأكثَرَ لسانُه من تلاوته.
وإنَّ لحفظ القُرآن الكريم من الفَضائل والفَوائد ما يدعو المسلمَ إلى المسارعة إلى هذا الخير والمشاركة فيه؛ حتى يكونَ من أهل القُرآن الذين هم أهل الله وخاصَّته، كما في الحديث.
وإذا كان القُرآن الكريم كلامَ الله تعالى، وإليه التحاكُم والحكمُ، وهو المرجع عند النِّزاع والخلاف لدى أمَّة محمد -r-فما ظنُّكم بِمَن يحفَظُه ويُعنَى به ويشغل به وقته؟!
ففي الحديث القدسي: "إنما بعثتك لأبتَلِيَك وأبتَلِيَ بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسلُه الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان)) ([23]) ، قال النووي: فمعناه: محفوظ في الصُّدور، لا يتطرَّق إليه الذهاب، بل يبقى على مَرِّ الزمان.
وقال ابن حزم: اتَّفقوا على أنَّ حِفظ شيءٍ من القُرآن واجبٌ، واتَّفقوا على استِحباب حفظ جميعِه، وأنَّ ضبطَ جميعِه واجبٌ على الكفاية لا متعين.
وقال الزركشي: قال أصحابنا: تعلُّم القُرآن فرضُ كفاية، وكذلك حفظه واجبٌ على الأمَّة.
وقال ابن خلدون: اعلم أنَّ تعليمَ الولدان للقُرآن شِعار الدِّين، أخَذ به أهل الملة ودرَجُوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبقُ فيه إلى القُلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، وصار القُرآن أصلَ التعليم الذي ينبَنِي عليه ما يحصلُ بعدُ من الملكات.
وقال أبو الفضل الرازي: وعلى الحِفظ والتحفُّظ كان الصدر الأوَّل ومَن بعدهم، فلم يكن الفُقَهاء منهم ولا المحدِّثون والوعَّاظ يتخلَّفون عن حِفظ القُرآن الكريم والاجتهاد على استِظهاره، إلى أنْ خلفهم الخلفُ الذين فاتَهُم من طراوتهم وحَداثتهم طلبُ حفظِ القُرآن الكريم وفي أوانه، ولَحِقَهم العجزُ والبَلادةُ على سنِّهم . بتصرُّف يسير.
وجعل الله حفظَه مُيسَّر للجميع، كما قال سبحانه:﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾"القمر" وقد ذكَر العلماء أنَّ من معجزات القُرآن الكريم تيسير حِفظه، كما قال النويري: والقُرآن قد يسَّر الله تعالى حفظَه على الغِلمان في المدَّة القريبة والنِّسوان، وقد رأينا مَن حفظه على كبر سنِّه، وهذا من معجزاته.
وقال ابن تيميَّة: وأمَّا طلب حِفظ القُرآن فهو مقدَّم على كثيرٍ ممَّا تُسمِّيه الناس علمًا، وهو إمَّا باطلٌ أو قليلُ النَّفع، وهو أيضًا مُقدَّم في التعلُّم في حقِّ مَن يريدُ أنْ يتعلَّم علمَ الدِّين من الأصول والفروع؛ فإنَّ المشروع في حَقِّ مثلِ هذا في هذه الأوقات أنْ يبدأ بحفظ القُرآن؛ فإنَّه أصلُ علوم الدِّين، والمطلوب من القُرآن هو فهم مَعانِيه والعمل به، فإنْ لم تكن هذه همَّة حافظه لم يكن من أهل العِلم والدِّين.
ب-وجوب تعليمه للأبناء لأنها أمانه ويجب أدائها وعدم خيانتها: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " ([24])
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ﴿الأنفال: ٢٧﴾
"وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) ﴿التغابن: ١٤﴾ وقال تعالى ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) ﴿الأعراف: ٥٨﴾
وقال رسول الله r " مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " ([25]) ، وقال تعالى﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ المزمل: 20.
ج-مراجعة ما نحفظ من القرآن: فلا يصح لمسلم أن يحفظ كلام الله ثم ينساه، ومما يعين على الحفظ كثرة المراجعة والصلاة بما تحفظ خاصة في قيام الليل.
وعن أبي موسى الأشعري t عن النبي r" قال تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها " ([26]) ويفضل لمن لا يحفظ شيئا من القرآن أو من يودّ الحفظ بشكل منتطم أن يبدأ من سورة الناس، وحبذا لو حرصت على قراءة تفسير ما تقرأ أو تحفظ، لأن معرفة التفسير من الوسائل المعينة على تثبيت الحفظ وسرعة التذكر. وأكرر نصيحتي لك بأن تحرص على أن تقوم الليل بما تحفظ من القرآن.
العمل بما فيه: انطِلاقًا من طاعة الله سبحانه الواجبة
قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾"الأنفال: 20".
وقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾الأنفال
وعن النَّوَّاس بن سمعان الكلابي قال: سمعتُ النبيَّ r يقولُ: ((يُؤتَى بالقُرآنِ يومَ القيامة وأهلِه الذين كانوا
يعمَلُون به، تقدمُه سورةُ البقرة وآل عمران كأنهما غَمامتان أو ظُلَّتان سَوْداوان، بينهما شرقٌ أو كأنهما حِزقان -أي: جماعتان -من طيرٍ صوافَّ، تحاجَّان عن صاحبهما)) ([27])
قال في "النهاية": "الشَّرْقُ هاهنا الضَّوء، وهو الشمس والشقُّ أيضًا".
وأمرُ الله لا بُدَّ من تنفيذِه وامتِثاله؛﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾الأحزاب: 36
ولو تأملنا حال الصحابة الكرام t مع القرآن الكريم لوجدنا أنهم لم يكتفوا بالقراءة أو الاستماع فقط، بل قرأوا وتدبروا، فتعلقت به قلوبهم، وارتبطت به نفوسهم، فكانوا يطبقونه قولاً وعملاً، يأتمرون بأوامره، ويبتعدون عن نواهيه، لذلك ما بلغوا ما بلغوه من الفضائل والرفعة إلا بفضل العمل بالقرآن الكريم، واستجابة لأوامره، لقد حفظ سيدنا عمر بن الخطاب (t) سورة البقرة في ثماني سنوات ليس لبطء في حفظه ولكن لأنه كان يحرص على العلم والعمل معًا.
ولأن الصحابة الكرام y كانوا يفقهون آيات القرآن الكريم ويتعايشون معها وجدناهم يسارعون إلى طاعة أوامر الله (عز وجل) واجتناب نواهيه ، فحين نزلت آيات النهي عن شرب الخمر ونادى منادٍ : " ألا إن الخمر قد حُرِّمَت" تجاوبوا جميعًا مع القرآن ، فالذي كان في يده شيء من الخمر رماه ، والذي كان في فمه شربة مجَّها ، والذي كان عنده في أوان أراقها، استجابة لأوامر القرآن الكريم ، حتى امتلأت بها سكك المدينة وقالوا انتهينا يا ربنا ، وكذلك حين نزل قول الله تعالى: "لن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" "آل عمران: 92" قام سيدنا أبو الدحداح إلى أجمل حديقة عنده وأحبها إليه وتصدق بها، ومن هنا استطاع الصحابة الكرام t حفظ كتاب الله لأنه لم يكن بالنسبة لهم مجرد كلمات ؛ بل كان منهجًا تربويًّا سلوكيًّا إيمانيًّا ظهر في تعاملاتهم فيما بينهم؛ بل ومع غيرهم.
الأدب مع القرآن الكريم والتخلق بأخلاقه: فإن من الواجب على قارئ القرآن الكريم أن يتأدب بآدابه ، ويتخلق بأخلاقه ، ويتمسك بتعاليمه ، فبأخلاقه يتحرر الإنسان من أهوائه وشهواته ، وتتقوى نفسه بالأخلاق القويمة ، قال تعالى: "إن هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كبيرا" "الإسراء: 9" ، وأسوتنا في ذلك رسول الله (r) قد كان قرآنا يمشي على الأرض ، يتخلق بخلقه ، يرضى برضاه، ويسخط لسخطه ، وقد سئلت السيدة عائشة (رضي الله عنها) عن أخلاقه (r) فقالت: «كَانَ خلقه الْقُرْآن»([28])
مواجه تحريف الغالين وتأويل المبطلين: الذين يحاولون توظيف القرآن الكريم سياسيًا أو أيديولوجيًا للحصول على مأرب أو مغنم، فيجب أن يُتَلقى القرآن الكريم لفظًا ومعنى من أهل الذكر المتخصصين من علماء الأمة الموثوق بعلمهم الذين يعلمون الناس صحيح الدين ومنهج الإسلام القويم، والذين لا يوظفونه لمصالحهم أو يفسرونه وفق أهوائهم.
توقيره وتوقير أهله العاملين به وصيانته عن أي امتهان: كاتخاذه للزينة أو اللعب بكتابته كالذين يكتبونه بخط صغير جدّاً في صفحة واحدة، أو اتخاذه للغناء والتجارة، أو كتابته على الميداليات، وغيرها من الأشياء التي يصعب صرفها عن الامتهان والسقوط أو الدخول بها في الخلاء لقضاء الحاجة. أو الاتكاء عليه أو تركه على الأرض في صورة المهمل، ونحو ذلك مما يشعر بعدم التوقير، أو اتخاذه رمزاً للكوارث والمصائب في المآتم المبتدعة ونحوها، أو خلطه مع الهزل كما يفعلونه في برامج أجهزة الإعلام وافتتاح الحفلات الماجنة أو اتخاذه وسيلة لتملق البشر فيستخدم لمدح الفسقة والطواغيت ويتفنن في ذلك من لا يرجون لله وقاراً ولا يقيمون له وزناً، أو يستخدم لإضحاك الناس ولفت أنظارهم كالذين يدخلونه في النكت أو للدعاية لتجاراتهم وصناعاتهم فيقتبسون منه آيات يضعونها على معان فاسدة غير معانيها التي أنزلت لها، كالساعاتي الذي يعلق عنده قوله عز وجل: "إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ" "لقمان: 34"، والحائك الذي يكتب على بابه: "وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً" الإسراء ، بل بلغ الأمر أن بعض المجرمين الذين يزينون النساء كتبوا على أبوابهم "وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ" "الحجر"، وغير ذلك مما يصل إلى حد السخف والهزل بآيات الله، وذلك من الكفر الذي حذر الله منه: "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ 66 لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ" "التوبة: 66".
عدم هجره وتركه: قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) ﴿الفرقان: ٣٠﴾
فهذه هي شكوى سيدنا محمدٍ r مِن هجر قومه للقرآن، والتي سجلها القرآن، وأين؟ في سورة الفرقان بالذات؛ لأن الفرقان هو القرآن، سجلها في قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) متروكاً مُقاطَعاً مرغوباً عنه، وإن ربه ليعلم بشكواه وحال قومه مع هذا القرآن؛ ولكنه دعاء البث والإنابة، يُشهِد به ربه على أنه لم يألف جهداً، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.
وتأملوا يا أمة القرآن: " في قوله: (اتخذوا) فهي تدل على أنهم جعلوا الهجر ملازماً له ووصفاً من أوصافه عندهم، وهذا أعظم وأبلغ من أن يقال: إنهم هجروه؛ لأن هذا اللفظ يفيد وقوع الهجران منهم، دون دلالة على الثبوت والملازمة".
لقد هجروا القرآن الذي نزّله الله على عبده لينذرهم، ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق.
فهل ندرك -معشر قراء كتاب الله -ونحن نقرأ هذه الآية أن شكوى النبي r مَن هجر القرآن، فيها دلالةٌ على أن ذلك من أصعب الأمور عليه، وأبغضها لديه؟ وأن في حكاية القرآن لهذه الشكوى وَعِيدٌ كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابةً لشكوى نبيه r؟
وعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -r- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ
وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِى لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ »([29])
فعلينا أن نتدبر القرآن ونتلوه ونعمل به ونتخذه منهجا وستورا في حياتنا ففيه السعادة في الدنيا والآخرة.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
نسألكم الدعاء
تعليقات: (0) إضافة تعليق