الحمد لله الذي جعل الليل لباسًا والنوم سباتًا وفي النهار نشور، ميز الأشياء بأضدادها فبالظل عُرف الحَرُور، ولولا الأعمى ما اعتبر البصير، ولولا الحزن ما عُرف السرور، ولولا السقيم ما شكر السليم، ولولا السَّفه ما مُدح للعقل حضور، ولولا القحط ما طُلب الرخاء، ولولا الخوف ما كان للأمان ظهور.
واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
نحمده تبارك وتعالى حمد القانع الشكور، ونعوذ بنور وجهه الكريم من الكفر والفجور، ونسأله السلامة مما يُورث الملالة أو النفور، ونرجوه العصمة فيما بقي من أعمارنا، وأن ينور قلوبنا والقبور.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله هو الرحمة المهداة، وهو النعمة المسداة، الذي لو تبِعْنا سنَّته ما اختلطت علينا الأمور، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا بدر البدور، وعلى الصحب والآل ومن تبِع، وقِنا بحبهم كل الشرور.
العناصر
أولاً: حرمة الغيبة والنميمة ثانيًا: مواضع تجوز فيها الغيبة
ثالثًا: الواجب على المسلم تجاه أخيه رابعًا: نماذج على الغيبة والنميمة
خامسًا: كيفية التخلص من الغيبة
الموضوع
أولاً: حرمة الغيبة والنميمة
معنى الغِيبة والنميمة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» ([1]) ، (بهته) يقال بهته قلت فيه البهتان وهو الباطل والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه .
وذكرك أخاك المسلم بما يكره، إما أن يكون باللسان، أو ما يقوم مقام اللسان، كحركة العين فيغمز بعينه، ويشير بيديه، ويكتب بقلمه، ويخرج لسانه، فأي شيء يقوم مقام اللسان في الغيبة فهو يدخل في قوله: (ذكرك أخاك بما يكره).
قوله: (قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟) يعني: استوضح بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هل من الغيبة أنني أذكر أخي بشيء يكرهه، ولا أفتري عليه، إنما هو شيء فيه؟ وهذا لا يزال يقال حتى اليوم، رغم أن هذا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً وضحه النبي صلى الله عليه وسلم، لكننا لا نزال نجد من الناس من يذكر نفس هذه الشبهة، فيقول: هذا شيء موجود فيه، وأنا لا أفتري عليه، أو يقول: أنا مستعد أن أواجهه بهذا؛ ليدفع عن نفسه صفة المغتاب.
إذا كنت ستواجهه بهذا ستنتقل من وزر الغيبة إلى وزر أذية أخيك المسلم؛ لأنك سوف تواجهه بما يؤذيه، فلم تخرج أيضاً من الأذية، فالفارق أن هذه أذية في غيبته، وهذه أذية في مواجهته، وكلها أذية، فقول بعض الناس الذين يلبس عليهم الشيطان في هذا الأمر: أنا مستعد أن أواجهه بهذا! أنا مستعد أن أقول هذا أمامه! نقول: هذه غيبة في غيبته، أما في حضوره فهذه أذية للمسلم حينما تذكره بما يكره.
تعريف النميمة: هي نقل كلام النّاس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد. وقيل: إفشاء السّرّ، وهتك السّتر عمّا يكره كشفه، وقال الجاحظ: النّميمة: وهو أن يبلّغ إنسان عن آخر قولا مكروها، استسرّ بذلك أو لم يستسرّ، (والنّوع الأوّل من قبيل إفشاء السّرّ)
الفرق بين الغيبة والنميمة: الغيبة هي التّكلّم خلف إنسان مستور بما هو فيه ممّا يكرهه. أمّا النّميمة فهي نقل كلام صادر عن الغير بغية الإفساد. وعلى ذلك تكون الغيبة صادرة عن المغتاب في الأصل، أمّا النّميمة فهي كلام صادر عن الغير.
ومن الفرق أيضا أنّ الغيبة قد تباح أو تجب في بعض الأحيان لغرض شرعيّ . أمّا النّميمة فلم ينقل جواز إباحتها أحد، ومن الغيبة ما يكون بالقلب بأن تظنّ السّوء بأخيك وتصمّم عليه بقلبك أمّا النّميمة فلا تكون إلّا باللّسان أو ما يحلّ محلّه في الكشف عن السّوءات من كتابة أو رمز أو إيماء.
حرمة الغِيبة: قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) الحجرات، يقول الإمام السعدي في تفسيره: نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه، {وَلا تَجَسَّسُوا} أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت، ظهر منها ما لا ينبغي.
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} والغيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه " ثم ذكر مثلا منفرًا عن الغيبة، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} شبه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس [غاية الكراهة]، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فاقد الروح، فكذلك، [فلتكرهوا] غيبته، وأكل لحمه حيًا.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} والتواب، الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثم يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية، دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من
الكبائر([2]).
حرمة النميمة: قال تعالى: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)) القلم ، {هَمَّازٍ} يَعْنِي الِاغْتِيَابَ، {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ وَيُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ، وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ لِفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهِيَ الْحَالِقَةُ.
عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ» ([3])
وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)) الهمزة ، قال الشنقيطي: الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقاراً أو ازدراءً، واللمز باللسان ، وتدخل فيه الغيبة
يثير أخو النّميمة كلّ شرّ ... ويكشف للخلائق كلّ سرّ
ويقتل نفسه وسواه ظلما ... وليس النّمّ من أفعال حرّ
وقال تعالى: ﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾ هي النَّميمة، وإنما سُمِّيت النَّميمة حطبًا؛ لأنها سببٌ لإشعال نار العداوة بين الناس، فصارت بمنزلة الحطب الذي يوقَد به النار.
وقد نزلت هذه الآية في امرأة أبي لهب، وفي الآية إشارةٌ إلى حملها الحديث بين الناس، ومشيِها بالنَّميمة، وقال تعالى:﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ التحريم ، والخيانة في الآية: المقصود بها النَّميمة؛ حيث كانتا تنقلان أخبار زوجيهما إلى الكفار.
حرمة العِرض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» ([4]) ، (حرام) يحرم عليكم المساس بها والاعتداء عليها. (كحرمة) كحرمة تعاطي المحظورات في هذا اليوم. (في بلدكم هذا) مكة وما حولها. (الشاهد) الحاضر. (أوعى له) أفهم للحديث المبلغ].
حرمة إيذاء المسلم وتتبع عورته: عَن ابنِ عمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ([5])
كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «..... كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»([6])
لا يحب الله السوء: قال تعالى: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) ) النساء.
تقطيع الوجوه والصدور: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لما عرجَ بِي ربِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وجوهَهم وصدورهم فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ " ([7])، ويخمشون يعني يقطعون جلد
وجوههم وصدورهم بأظافر أيديهم.
ريحها نتنة: عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)([8])، فلو كشفت الحجب، وشمت ريح الذين يقعون في الغيبة؛ لظهرت منهم هذه الرائحة التي ظهرت في ذلك الوقت.
وقد يعرض سؤال: إذا كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ظهرت هذه الريح وتبينت، فما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتبين في يومنا هذا؟!
الجواب: لأن الغيبة كثرت الآن، وامتلأت الأنوف منها فلم تتبين للأنوف نتنها، ومثال هذا لو أن رجلاً دخل دار الدباغين الذين يدبغون الجلد، فإنه لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب، ولا تتبين لهم الرائحة؛ لأنه قد امتلأت أنوفهم منها، وكذلك الغيبة في عصرنا شاعت جداً، فالناس يشتركون في تنفس الهواء المسموم، فما يكادون يحسون بنتن الغيبة.
سبب للعذاب في القبر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ». ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا» أَوْ: «إِلَى أَنْ يَيْبَسَا» ([9])
(بحائط) بستان من النخل إذا كان له جدار. (في كبير) أمر يشق عليهما الاحتراز عنه. (بلى) أي كبير من حيث ما يترتب عليه من إثم. (لا يستتر) لا يستبرئ منه ولا يتحفظ عن الإصابة به. (يمشي بالنميمة) ينقل الكلام لغيره بقصد الإضرار. (بجريدة) غصن النخل الذي ليس عليه ورق]
ضياع الحسنات وزيادة السيئات: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» ([10])
وقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
الحرمان من دخول الجنة: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذيْفَةَ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنِمُّ الْحَدِيثَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» ([11])
دخول النار: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ قِلَّةَ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ وَلَا تؤذي جِيرَانَهَا. قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ» ([12])، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ» ([13]) ، (ما يتبين فيها) لا يتدبرها ولا يتفكر في قبحها وما يترتب عليها. (يزل بها) ينزلق بسببها ويقرب من دخول النار. (أبعد مما..) وفي بعض النسخ (أبعد ما) كناية عن عظمها ووسعها.
أسباب الغيبة وبواعثها ([14])
قال الغزاليّ- رحمه الله-: للغيبة أسباب وبواعث، وفيما يلي خلاصتها:
1-شفاء المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه.
2-مجاملة الأقران والرّفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه من الغيبة.
3-ظنّ المغتاب في غيره ظنّا سيّئا مدعاة إلى الغيبة.
4-أن يبرئ المغتاب نفسه من شيء وينسبه إلى غيره أو يذكر غيره بأنّه مشارك له.
5-رفع النّفس وتزكيتها بتنقيص الغير.
6-حسد من يثني عليه النّاس ويذكرونه بخير.
7-الاستهزاء والسّخرية وتحقير الآخرين.
ثانيًا: مواضع تجوز فيها الغيبة
قال النّوويّ-رحمه الله-: اعلم أنّ الغيبة تباح لغرض صحيح شرعيّ لا يمكن الوصول إليه إلّا بها، وهو ستّة أسباب:
الأوّل: المتظلّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلّم إلى السّلطان والقاضي وغيرهما ممّن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثّاني: الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصّواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التّوصّل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراما.
الثّالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟
وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقّي، ودفع الظّلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكنّ الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، كان من أمره كذا؟ فإنّه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك، فالتّعيين جائز.
الرّابع: تحذير المسلمين من الشّرّ ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرّواة والشّهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساوىء الّتي فيه بنيّة النّصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقّها يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرّر المتفقّه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النّصيحة، وهذا ممّا يغلط فيه. وقد يحمل المتكلّم بذلك
الحسد، ويلبّس الشّيطان عليه ذلك، ويخيّل إليه نّه نصيحة فليفطن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها: إمّا بأن لا يكون صالحا لها، وإمّا بأن يكون فاسقا، أو مغفّلا، ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن عليه ولاية عامّة ليزيله، ويولّي من يصلح، أو يعلم ذلك منه، ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغترّ به، وأن يسعى في أن يحثّه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، ومصادرة النّاس، وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلما، وتولّي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلّا أن يكون لجوازه سبب آخر ممّا ذكرناه.
السّادس: التّعريف، فإذا كان الإنسان معروفا بلقب؛ كالأعمش والأعرج والأصمّ، والأعمى؛ والأحول، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك؛ ويحرم إطلاقه على جهة النّقص؛ ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
ثالثًا: الواجب على المسلم تجاه أخيه
الكلام فيما ينفعه : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» ([15])
أن يسلمه من الإيذاء:عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»([16])
وجوب ستر المسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([17]) ، (إلا ستره الله يوم القيامة) قال القاضي يحتمل وجهين أحدهما أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف، والثاني ترك محاسبته عليها وترك ذكرها .
الرد عن عرضه: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ» ([18])
روي عن عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى-: أنّه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئا فقال له عمر: «إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (الحجرات/ 6) وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (القلم/ 11) وإن شئت عفونا عنك؟» فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا.
عدم ذكره بصفة يكرهها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا. قال بعض الرواة: تعني قصيرة فقال: " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " قالت: وحكيت له إنسانا فقال: " ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا " ([19]) ، ومعنى مزجته أي غيرت لونه وطعمه وريحة، فلا يجوز أن تذكر أخاك بصفة فيه لا يحبها كأن تقول
أنه قصير أو طويل أو ثمين أو رفيع أو ما شابه ذلك .
التدقيق في الكلام الذي ينطقه: كان السلف يدققون على كلامهم المباح فضلاً عن الكلام المحرم
جلست عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها يوماً قبيل صلاة المغرب وهي صائمة وأذن لصلاة المغرب فأقبلت إليها الجارية قالت فيما معنى قولها: يا أم المؤمنين أقرب إليك المائدة وكانت عائشة ليست بجائعة ولا عطشانة وهذا يقع أحيانا لبعض الصائمين، فقالت عائشة: والله ما لي بالطعام حاجة لكن قربي المائدة نلهو بها ثم قالت عائشة أستغفر الله أستغفر الله ألهو بنعمة الله!
مع أنها تقصد " ألهو" يعني آخذ من هنا قليلا، من هذا قليلا فقط لأجل أن أفطر عليه، قالت: أستغفر الله ألهو بنعمة الله ثم بكت ثم جعلت تجمع ما عندها من مال واشترت به عبدين مملوكين وأعتقتهما لوجه الله توبة من هذه الكلمة!
فهي ما اغتابت أحد ولا سبّت ولا لعنت ولا كفرت بكلمة.. مجرد تقول تسلى بالطعام..
والإمام أحمد رحمه الله دخل مرة يزور مريضا فلما زاره سأل الإمام أحمد هذا الرجل قال: يا أيها المريض هل رآك الطبيب؟ قال: نعم ذهبت إلى فلان الطبيب، فقال: اذهب إلى فلان الآخر فإنه أطب منه " يعني أعلم بالطب منه" ، ثم قال الإمام أحمد: أستغفر الله أراني قد اغتبت الأول أستغفر الله أستغفر الله - المفروض أنه ما يقال إنه أفضل منه فيقال: جرّب فلانا .
عدم الجلوس معهم: قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، وقال سبحانه: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء:140].
لا تُعِنْ على سَفكِ دمِ الدَّعوة: كم من مقالةِ حقٍ أُريد بها باطلٌ صدّتْ العشرات، بل المئات عن سماع الحقِّ من فلان! ، وكم من مقالة سوء نفّرَت الناسَ من كتب أعلامٍ - تَشْرُفُ بهم الكلمةُ - فحُرِموا خيراً كثيراً، وكم مرة أُغْلِقَ بابٌ للخير بسبب همزٍ ولمزٍ وأمورٍ بُيِّتتْ بليل!
وكم من مشروعٍ دعويٍ ضخم أجهضته كلمةُ انتقاصٍ طائشة أطلقها مراهقٌ في حق القائمين عليه!
وكم من يدٍ بالسوء امتدت فوَأدَت منشطاً إسلامياً في مهده!
وكم فُرضتْ قيودٌ وعراقيلٌ بجرّة قلمٍ ما كانت لله!
كيف تتعامل مع النمام؟
قال الإمام الذّهبيّ: كلّ من حملت إليه نميمة وقيل له: قال فيك فلان، كذا وكذا لزمه ستّة أحوال:
الأوّل: ألّا يصدّقه؛ لأنّه نمّام فاسق، وهو مردود الخبر.
الثّاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبّح فعله.
الثّالث: أن يبغضه في الله- عزّ وجلّ-، فإنّه بغيض عند الله، والبغض في الله واجب.
الرّابع: ألّا يظنّ في المنقول عنه السّوء لقوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات/ 12) .
الخامس: ألّا يحمله ما حكى له على التّجسّس والبحث عن تحقّق ذلك مصداقا لقوله تعالى: وَلا
تَجَسَّسُوا (الحجرات/ 11) .
السّادس: ألّا يرضى لنفسه ما نهى النّمام عنه، فلا يحكي نميمته
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (الغيبة)
قال عمر- رضي الله عنه-: عليكم بذكر الله تعالى؛ فإنّه شفاء. وإيّاكم وذكر النّاس فإنّه داء.
قال عمرو بن العاص- رضي الله عنه- أنّه مرّ على بغل ميّت فقال لبعض أصحابه: «لأن يأكل الرّجل من هذا حتّى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم .
قال الحسن البصريّ- رحمه الله-: «والله للغيبة أسرع في دين الرّجل من الأكلة في الجسد»
روي عن الحسن- رضي الله عنه-: أنّ رجلا قال له: إنّ فلانا قد اغتابك فبعث إليه رطبا على طبق وقال: «قد بلغني أنّك أهديت إليّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإنّي لا أقدر أن أكافئك على التّمام»
قال بشّار بن برد:
خير إخوانك المشارك في المرّ ... وأين الشّريك في المرّ أينا
الّذي إن شهدت سرّك في الحيّ ... وإن غبت كان أذنا وعينا
مثل سّر الياقوت إن مسّه نا ... ر جلاه البلاء فازداد زينا
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدّلوا كلّ ما يزينك شينا
وإذا مارأوك قالوا جميعا ... أنت من أكرم البرايا علينا
قال النّوويّ- رحمه الله-: «اعلم أنّه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردّها ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللّسان، فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممّن له عليه حقّ، أو كان من أهل الفضل والصّلاح، كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر»
رابعًا: نماذج على الغيبة والنميمة
يقول الشيخ محمد العريفي: في يوم من الأيام ألقيتُ محاضرة في أحد السجون.. جُمع لي السجناء في المسجد الكبير قرابة 500 أو الألف سجين ..
انتهيت من المحاضرة.. أول ما انتهيت قال لي أحد الأخوة الذين كانوا مرافقين معي وهو مشرف على بعض المحاضرات في السجن، قال: يا شيخ هنا الجناح الخاص بأصحاب القضايا الكبيرة والجناح الانفرادي لم يحضروا معك المحاضرة فليتك أن تمر بهم وتلقي عليهم كلمة وتجيب على أسئلتهم إن كان عندهم أسئلة.. قلت: حسناً..
أقبلنا فإذا مجموعة كل واحد في زنزانة خاصة به.. مررنا بهم.. ألقيت عليهم كلمة يسيرة ثم أجبت على أسئلتهم .. مررت في أثناء ذلك بزنزانة فيها شاب عمره تقريبا 23 سنة أو في الخامسة والعشرين سنة تقريبا كان جالساً هادئاً في زنزانته، مررت به وسلمت عليه كان هادئاً لطيفاً ثم تجاوزته، سألت صاحبي قلت: ما قضيته؟! يعني هو عليه سرقات أم مضاربة مع أحد أو أدت إلى قتل ذلك الشخص مثلاً ما قضيته؟!
قال: هذا الشاب يا شيخ عليه جريمة قتل لزوجته، قلت: قتل لزوجته! ما هو السبب؟!
قال: هل تصدق أنهما ما مضى على زواجهما إلا قرابة ثلاثة أشهر وقتلها، قلت كيف قتلها أعوذ بالله يعني كمثل وجدها على فعل معين أو محرم أو فاحشة أو وجدها مع رجل مع أنه لا يجوز أنه يعاملها بالقتل بمثل هذه المواقف لكن أحيانا أن بعض الناس يثور ويتهور ويضربها بشيء فتموت بسببه قال: لا، ذبحها بالسكين، إنا إليه راجعون.. كيف؟!
قال: هذا تزوج وسكن مع زوجته على أحسن حال.. حقد عليه مجموعة من الناس ربما بينه وبينهم مشاكل في القديم أو أنهم كانوا يريدون أن يتزوجوا هذه الفتاة، المقصود أنهم حقدوا عليه فأقبل إليه أحدهم فقال له: يا فلان
قال الشاب: ما تريد، قال: أنت اشتريت سيارة خضراء بدل سيارتك؟ وذكر له أحد أنواع السيارات
الشاب: لا ، أنا والله ما اشتريت، أنا سيارتي السوداء التي معي تعرفونها، قال: والله ما أدري لكن أنا أمس الضحى وأنت في العمل خرجت في حاجة ومررت أمام بيتك ورأيت سيارة خضراء واقفة عند الباب فخرجت امرأة من بيتك وركبت معه وبعد ساعتين رجعت إلى البيت، أنت عندك يمكن في البيت أحد يمكن... ، قال الشاب: لا والله ما فيه إلا زوجتي حتى ما عندي خادمة ولا عندي أحد
قال: ما أدري إن شاء الله ما تكون زوجتك.. ومضى..
بعدها بيومين الرجل بدأ يشك يسأل زوجته: فيه أحد جاء ، فيه أحد ذهب..
بعدها بيومين، ثلاثة، أقبل إليه رجل آخر قد اتفق مع الأول فقال له: يا فلان قال نعم ، قال: أنت غيرت سيارتك، اشتريت سيارة بيضاء، قال: لا والله هذه سيارتي تحت واقفة ، قال: والله ما أدري بس أنا أيضا أمس العصر يبدو إنك ما كنت في البيت، فيه سيارة بيضاء وقفت عند الباب وأقبلت امرأة وركبت معها وذهبت، جعلوا الرجل ينتفض ..
ثم جاءوا إليه في اليوم الثالث وزادوا عليه الكلام.. جاءوا إليه في اليوم الرابع ..
- أنظر كيف الألسنة تحدث من عقوق وقطيعة –
فلا زالوا به حتى تخاصم مع زوجته وأكثر عليها الكلام وهي صرفت عليه قالت: كيف تتهمني في عرضي، قال نعم أتهمك اعترفي، ما أعترف..... كثر الكلام فذهبت إلى بيت أهلها..
لبثت عند أهلها أياما فلم يرضهم ذلك، أقبلوا إليه قالوا: يا أخي ترى السيارات نفسها الآن تقف عند بيت أهلها، بكره البنت تحمل وبعدين تقول هذا ولدك. أنت لست رجلا أنت ما عندك مروءة أنت تلعب بعقلك الفتاة والله لو كنت رجل لو أنك.... الخ.............. فلم يزالوا يعينون الشيطان عليه بالوساوس حتى تغلب عليه الشيطان في ليلة من الليالي فخرج من بيته ومضى إلى بيت أهلها وقفز من فوق السور ودخل إلى البيت والكل النائم، مضى إلى المطبخ وأخذ سكيناً ثم مضى إلى غرفتها ودخلها بهدوء وإذا الفتاة نائمة في أمان الله قد نامت فقتلها ثم مسح السكين بثيابه وتركها وذهب إلى الشرطة وقال أنا قتلت فلانة! أدري أني سأتعب لو هربت وسوف ألاحق في كل مكان من الآن أنا قتلتها لكن بردت ما في قلبي! .. ، وحكم عليه بالقصاص.. النفس بالنفس..
شاب يا جماعة لو ترونه يعني من أحسن الشباب خلقة وأقواهم بدنا لكن بكثرة ما وقع من ألسنة أولئك الظلمة الفجرة ، أنظر كيف تحولت الأمور، قد هُتكت بها أعراض وهدمت بيوت بسبب ما يخرج من هذا اللسان ( يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )
وهؤلاء الظلمة غير أنهم اكتسبوا اثما عظيما اثم الغيبة والنميمة فإنهم أيضا فرقوا بين زوجين وكذلك قذفوا المسلمة المحصنة بالزنا والعياذ بالله من ذلك
كان سفيان بن الحصين جالساً عند إياس بن معاوية، فمرّ رجلٌ فنال منه سفيان، فقال إياس: اسكت! هل غزوتَ الروم؟ فرد سفيان أن لا، فسأله إياس ثانية: أغزوتَ الترك؟ فقال سفيان: لا؛ فعلَّمه إياسٌ درساً لم ينسه سفيان أبداً، حين صاح فيه: سلم منك الروم، وسَلِم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟.
أن رجلا باع غلاما عنده فقال للمشتري: ليس فيه عيب إلا أنه نمام، فاستخفّه المشتري فاشتراه على ذلك العيب فمكث الغلام عنده أياما ثم قال لزوجة مولاه: إن زوجك لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال لها: خذي الموس واحلقي شعرات من باطن لحيته إذا نام، ثم جاء إلى الزوج، وقال: إن امرأتك اتخذت صاحبا وهي قاتلتك أتريد أن يتبين لك ذلك. قال: نعم، قال: فتناوم لها، فتناوم الرجل، فجاءت امرأته بالموس لتحلق الشعرات، فظن الزوج أنها تريد قتله، فأخذ منها الموس فقتلها، فجاء أولياؤها فقتلوه، وجاء أولياء الرجل ووقع القتال بين الفريقين.
أرأيتم ما تصنع النميمة كيف أودت بحياة رجل وزوجته وأوقعت المقتلة بين أقاربهما هذا صنيع ذي الوجهين دائما.
إبراهيم بن ادهم دعا مجموعة من الناس للطعام فتناولوا رجلا وتحدثوا في عرضه، فغضب الامام وقال: الله أكبر إن من كان قبلكم كانوا يبدأون طعامهم بالخبز وما أراكم الا قد بدأتم طعامكم باللحم أي عرض أخيكم.
خامسًا: كيفية التخلص من الغيبة
تقوى الله عز وجل والاستقامة على أمره: ويحصل هذا بسماع وقراءة آيات الوعيد والوعد وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث تحذر من الغيبة ومن كل معصية وشر، ومن ذلك قوله تعالى { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف:80].
وقوله سبحانه -: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ متفق عليه
وعَن أبي سعيدٍ رَفَعَهُ قَالَ: " إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإنَّا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعوَججْنا "([20]) ومعنى تكفر: أي تذل وتخضع له.
تذكر مقدار الخسارة التي يخسرها المسلم من حسناته ويهديها لمن اغتابهم من أعدائه وسواهم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ»؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»([21])
أن يتذكر عيوبه وينشغل بها عن عيوب نفسه ، وأن يحذر من أن يبتليه الله بما يعيب به إخوانه.
قال أنس بن مالك: "أدركت بهذه البلدة – المدينة – أقواماً لم يكن لهم عيوب ، فعابوا الناس ، فصارت لهم عيوب ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس ، فنسيت عيوبهم" ، قال الحسن البصري : كنا نتحدث أن من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله عز وجل به .
العلم بأنه مسئول عن كل شيء يوم القيامة: قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) الإسراء
مجالسة الصالحين ومفارقة مجالس البطالين: عن أَبَي بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» ([22])، (كير) جلد غليظ ينفخ فيه النار. (لا يعدمك) لا تفقد ولا يفوتك. (خبيثة) كريهة]
قال النووي في فوائد الحديث: فيه فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة.
قراءة سير الصالحين والنظر في سلوكهم وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم:
قال أبو عاصم النبيل: ما اغتبت مسلماً منذ علمت أن الله حرم الغيبة.
وقال محمد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت.
أن يعاقب نفسه ويشارطها حتى تقلع عن الغيبة: قال حرملة: سمعت رسول ابن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم.
فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أني أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة،
قال الذهبي: هكذا والله كان العلماء، وهذا هو ثمرة العلم النافع.
المحافظة على لسانه وجوارحه من الحرام: عَن سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: «هَذَا» ([23]) .
عَن عُقْبةَ بن عامرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ فَقَالَ: «أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» ([24])
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» ([25]) ، (يضمن. .) يحفظه ويؤد حقه. (ما بين لحييه) لسانه ولحييه مثنى لحي وهو العظم في جانب الفم. (ما بين رجليه) فرجه]
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
تعليقات: (0) إضافة تعليق