الحمد لله رب العالمين، الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتمّ علينا النّعمة، ورضي الإسلام لنا دينا، فلله الحمد والمنّة على الإسلام، وله الحمد على نعمة خير الأنام، والحمد لله كثيرًا كما أكرمنا فأحسنَ الإكْرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانه سبحانه: خلق الإنسان وكرّمه، على جميع خلقه فضّله، وبصورة حسنة قوّمه، هو عزّ كل ذليل، وهو قوّة كل ضعيف، وهو غوْث كل ملهوف، وهو ناصِر كلّ مظلوم، وأشهد أنّ سيدنا وحبيبنا ومصطفانَا محمدًا عبدالله ورسوله، هو من هو؟ هو أسْلم النّاس صَدْرًا، وأزكاها نفْسًا، وأحسنهم خُلُقًا، صلّى الله عليه وعلى آله....وبعــد:
فأهلا ومرحبا بكم أيها الإخوة المسلمون الكرام:
ها قد توضّأ المتوضئون، واغتسل المغتسلون، وتجهز المسلمون لاستقبال يوم الجمعة وخطبتها وصلاتها، ها قد قدِم المسلمون إلى ربّهم بأجسادٍ طاهرةٍ طيبةٍ، وبقلوبٍ تستشرفُ عبيرَ الرحمات والمغفرة... فنسأل الله تعالى أن يمنّ علينا برحمته، وأن يشملنا بجميل عفوه وكرامته...
تعالوا بنا -أيها الحضور الكرام- لنتساءل سويًّا -في بداية هذا اللقاء-:
ما هو الدين الذي جاء به محمد بن عبدالله إلى البشرية؟!!
لا سيّما وقد بُعِث في زمنٍ كان الناس فيه لا يعرفون شيئًا عن التقدّم والتحضّر، وما كانوا يعرفون إلا العيش في رحاب الصحراء مع الهوام والكلاب، ويرتحلون البادية مع الحيوانات، حتى قال قائلهم عندما أراد أن يتغزّل في محبوبته:
أحب لحبها السودان حتى *** أحببت لحبها سود الكلاب
حتى كان أغلب هؤلاء الناس -قبل الإسلام- لا تعاف نفوسهم أكل لحم الخنزير، وشرب الخمر، بل ربما أكلوا الحيوان دون تذكية وذبح، فيصيبهم ما يصيبهم من الأمراض والأذى، حتى جاء دين الله..
إنّه الدين الذي جاء ليحدّث هؤلاء الناس وغيرهم عن قواعد الحياة وأصول المعيشة في هذه الدنيا، بداية من النظافة والطهارة البدنية والمعنوية، حتى كان أول ما نزل على النبيّ محمّد -صلى الله عليه وسلّم- من القرآن (وثيابك فطهّر)...
ومن هنا بدأت ملامح الحضارة تظهر على هؤلاء العرب والبدو؛ حيث اعتبر الإسلامُ النظافة والطهارة ركنًا أساسيًّا في دين الله تعالى، واعتبره ضرورة وقيمة حضارية للتقدّم والتحضّر البشريّ والعمراني...
تقدّم الإسلام على غيره من الديانات والتصورات والشرائع المختلفة شرعية أو وضعية، كاليهود الذين ما كانوا ينظفون آنيتهم وأوعيتهم، وقد قال نبينا الحبيب: ((نظفوا أفنيتكم ولا تشبّهوا بيهود))، وكالنصارى الذين ورد في كتبهم -المحرّفة- أن تلاميذ يسوع كانوا يأكلون دون أن يغسلوا أيديهم من الأذى والقاذورات، والمجوس الذين اعتبروا في شريعتهم أن أقرب القربات إلى النار -التي يعبدونها من دون الله- الاغتسال ببول البقر، والبراهمة والهنود.....الخ.
أمّا الإسلام فقد اعتبر النظافة والطهارة فريضة شرعية وسبيلا للوقاية من الأمراض، وسببا للمغفرة وتحصيل محبّة الله تعالى.. فلقد اعتنى الإسلام بالنظافة بمفهومها الواسع؛ فهي جزء من حياة المسلم وطابع لا غنى له عنه، فلقد عني الإسلام بالطهارة المعنوية والطهارة الحسية، واهتم بنظافة الباطن والظاهر،حتى جعل نظافة البدن والملبس والبيئة مصاحبة ومرتبطة وملازمة للعناية بطهارة النفوس ، وإصلاح المعتقد وسلامة الباطن...
إن النظافة من أهم العوامل الصحية التي تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الأمراض، والنظافة فريضة شرعية وضرورة بشريّة... ولقد عني الإسلام بأمر النظافة عناية فائقة، ووجه الأنظار إليها، واعتبرها من صميم رسالة الإسلام، فأوجب نظافة البدن والثياب والأمكنة والطرق والبيوت، ونظافة كل شيء، حتى جعل النظافة جزءاً من الإيمان، بل هي شطر ونصف الإيمان.
ومما يؤكّد عناية الإسلام بالطهارة ما يأتي:
الإقرار بأنّ الوضوء والطهارة شرط لصحة الدخول في الصلاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. وفي الوضوء يتم غسل الأعضاء الخارجية التي غالباً ما تكون عرضة للتلوث وحمل الجراثيم والإفرازات التي لا تنقطع.. ومن فوائد الوضوء الصحية: الحيلولة دون إصابة الجلد بالالتهابات وسرطان الجلد، وقد أجريت دراسات وبحوث بين مجموعة من المسلمين الذي يتوضئون في اليوم خمس مرات، وبين مجموعة من غير المسلمين الذين لا يتوضئون، ووجد أن نسبة إصابة المسلمين بسرطان الجلد والالتهابات اليدوية الجلدية نادرة بل ومعدومة، وأنها كثيرة جداً في الكفار الذين لا يتوضئون، فهذا من إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم.
أخذ الزينة والتنظّف عند العبادة وإتيان المساجد، كما قال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]..
منع إتيان المرأة في فترة الحيض والدورة الشهريّة؛ مخافة الأمراض والأذى البدني والنفسي: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
إعلان أنّ محبّة الله تعالى للتوابين والمتطهرين المتنظِّفين: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
اعتبار الطهارة والنّظافة نصف الإيمان والعبادة؛ بقول النبي -صلى الله عليه وسلّم-: (الطهور شطر الإيمان).
تطهير الثياب قبل ارتدائها، قال تعالى لنبيه موجّهًا وناصحًا: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. وما قوله سبحانه وتعالى «وثيابك فطهر»؛ إلا لأهمية الطهارة والنظافة ولأنها صفة يحبها الله عز وجل. وفسر المفسرون الطهارة هنا بطهارة ونظافة الداخل والخارج، وبطهارة السر والعلانية، فطهارة الخارج أن يكون العبد نظيفاً أنيقاً، وذلك يجعل له ولدعوته القبول عند الناس، وطهارة السر: أن تكون النفس بعيدة عن أدران المعاصي ووسخ الذنوب، وألا ينعقد القلب على الضرر أو الخداع أو نحو ذلك من الصفات الذميمة. ومن هنا فإنّ تطهير العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي مقرونة بتطهير الظاهر في بدن الإنسان وثوبه وبقعته ليجمع المسلم بين النظافتين، ويحافظ على الطهارتين.
الأمر بنظافة الشوارع والطرقات، وزيادة مثوبة من أزال الأذى عن طريق الناس، بل واعتبار ذلك صدقة وعبادة؛ ففي الحديث: «وتميط الأذى عن الطريق صدقة». كما تعددت صور الطهارة في الإسلام، كطهارة البدن والجوارح والفم والأسنان والشّعْرِ، والطرقات -كما سبق-..
النهي عن التبوّل في الماء الراكِد، والاغتسال فيه -وسبحان الله من الذي أطلع النبيّ بالخطورة الطبية والصحيّة في ذلك؟ ليس إلا الذي بعثه وأرسله رحمة وشفاء ودواء وعافية للعالمين-!! ففي الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه».
طهارة الأسنان والشعر والجسم من الروائح الكريهة، فالسواك مطهرة، والشعر يجب أن يُكْرَم، والجسم لا تمسّه الروائح الكريهة، بل إنّ المسلم إذا مسّ رائحة كريهة ولو مباحة كالثوم والبصل فلا يقرب المساجد..
مشروعية الغسل كوسيلة للنقاء والطهارة وقوّة البدن؛ فشرع غسل الجنابة والحيض والنفاس وغسل الجمعة والعيدين، وقد ورد: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده»، وفي الحديث: «غسل يوم الجمعة على كل محتلم وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه».
الإعلان عن سنن الفطرة، الداعمة للطهارة البدنية والنفسيّة، وبيان أنها سنّة نبوية كريمة عن أنبياء الله ومرسليه: «خمس من الفطرة الختان والاستحداد وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر».
التحذير الشرعي من خطورة عدم التنزه عن البول والغائط، وبيان عقوبة فاعله، كما في الحديث: «إنهما ليعذبان؛ وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة».
يقول قائل: ولماذا اهتم الإسلام كل هذا الاهتمام بالعناية البدنية؟
ونجيبك قائلين:
أولا: لأن العقل السليم في الجسم السليم، والجسم السليم بدايته القوة، والقوة لا تأتي من النقاء والطهارة البدنية.
ثانيًا: إن العلم الحديث يثبت دقة كل ما أمر به الإسلام في التنظّف والتطهّر؛ فالعلم الحديث يقول: «إن الجرام الواحد من براز الإنسان فيه أكثر من مائة ألف مليون جرثومة، وله دور كبير في نشر الأوبئة إن ترك هنا وهناك» لذا جاء التوجيه النبوي بالتستّر عن النّاس عند قضاء الحاجة، وعدم حبسها بالجسم، وعدم تركها مكشوفة.... الخ.
ثالثًا: كثرة الجراثيم والميكروبات التي تعلُق بالجسد والجلد، حتى اكتشف العلماء بالأجهزة المتطوّرة أنه يوجد في المناطق المكشوفة من الجِلْد ما يتراوح العدد بين 1: 5 مليون جرثومة وفي كل سنتميتر مربع واحد..
وعلى هذا فيمكننا القول:
إنّ الإسلام قد سبق سائر الشرائع والديانات السابقة والفلاسفة والأطباء والمخترعين بهذه التشريعات الوقائية العجيبة والفريدة «وإن من أسرار الطب الوقائي في الإسلام أنه جعل النظافة أمراً تعبدياً مما جعل فيها روحاً وديمومة لا يستطيعها أي قانون آخر».
وإن ديناً هذه تعاليمه، ينبغي لأتباعه أن يكونوا حريصين على النظافة بُكل أبعادها، ليكونوا أقوى الأمم؛ عقيدةً وإيماناً، وأسلمهم فكراً وعلماً، وأصلحهم قلوباً وأعمالاً، وأصحهم أجساداً وأبداناً، وأحسنهم هيئةً وأشكالاً، ليجمعوا بين صلاح الباطن والظاهر، وحسن المنظر والمخبر، وعند ذاك تحصل لهم القوة المادية والمعنوية، حيث يقوى الإيمان والعلم، ويحسن الخلق والمعاملة، وتصح الأبدان والعقول، فيكون لهم من الشوكة والهيبة والقوة ما يرهب أعداءهم بإذن الله. والمسلم مطالب بالطهارة والنظافة في سره وفي علانيته، في عباداته وفي عاداته، في نفسه وفي أهله، في بيته وفي مسجده، في حضره وفي سفره ، في يومه وفي غده ، بل في كل أيام عمره.
ثمرات الطهارة والنظافة على الفرد المسلم:
1. أنها سبب لمحبة الله للعبد، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، ويقول عزّ مِن قائل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
2. أنها سبب لدخول الجنة، فالإنسان الذي يحرص على الطهارة دائماً من أهل الجنة إن شاء الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم! اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية).
3. الطهارة سبب لتكفير الذنوب والخطايا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم رجل يقرب وَضوءه فيتمضمض ويستنشق، إلا خرت خطايا وجهه).
4. هي سبب للنور التام يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12].
5. أن في المحافظة على الطهارة تشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي كان أنظف الناس ثوباً، وأطيبهم ريحاً.
6. أنها استجابة لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل أمر بالطهارة فقال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، وقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، وقال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، وهذه كلها أوامر، فالمتطهر مستجيب لأمر الله، وكذلك مستجيب لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ).. كما لا يمكن أن ننسى أثر الطهارة والنظافة على المجتمع كله.. من إنسان ونبات وحيوان... الخ.
إنّ أمّتنا هي أرقى الأمم شرعًا وعقلاً، لكن هل هي كذلك واقعًا؟!!
أين أمتنا وأين المسلمون من قيم الحضارة والنظافة والرقيّ؟ ليس نظافة الأسنان والفم والشعر والجسد، ونظافة البيوت والطرقات والشوارع والجدران فحسب بل هناك الكثير والكثير؛ لا سيّما وأن صور الأذى التي يقع فيها الناس متنوعة، ومنها:
1. الأذى المسموع (الكلام السيئ، والشتائم والسباب والإشاعات والشبهات)
2. الأذى المشموم (الروائح الكريهة)
3. الأذى المرئي (المناظر الأخلاقية الجارحة المعارضة للفطرة والدين والعقل السويّ)
4. الأذى المحسوس والملموس (كإلقاء القاذورات في الشوارع والطرقات، وأذى الناس بركن السيارات في غير أماكنها الصحيحة).
وإذا أردنا أن نتخلّق بأحسن الأخلاق في الطهارة والنقاء: فإليكم أنواع الطهارة -(مادية ومعنوية)- التي يريدها الإسلام من المسلمين، وهي على النّحو التالي:
أنواع الطهارة التي يريدها الإسلام من المسلم:
وتتعدد أنواع الطهارة التي ينشدها الإسلام من الفرد والمجتمع، ومنها:
1. طهارة العقيدة: من الخرافات والشركيات؛ فهناك من يعتقد في ألوهية البقر والبهائم، وهناك من يعتقد في ألوهية اثنين أو ثلاثة من الآلهة، وهناك من يرى الإله صرصارًا، ولكن عقيدة المسلم قائمة على التوحيد والإخلاص، فأول طريق النظافة المعنوية الحقيقية (طهارة عقيدة المسلم من الخرافات فلا يصدّق إلا الحقّ، ولا يؤمن بخرافة تجعله أسيرها، ولا بشركيات في أن هناك نافعًا أو ضارًّا غير الرب العليّ سبحانه. والثبات على ذلك، ودعوة الغير إلى تمثّلها في الحياة).
2. طهارة القلب مما سوى الله، فلا يرائي أحدًا، ولا ينو بعمله إلا رضا الله والإخلاص له، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، كما يجب ألا يرى القلب نافعًا إلا الله، ولا رزّاقًا إلا هو، ولا يتحكّم في الأجل إلا الله، فيسير القلب مطمئنًّا لقضائه وقدَرِه، ولا يقلق من سيطرة إنسان على رزق أو راتب؛ فالأمر أمر الله تعالى، والقدرة قدرته، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء وأراد. فكن ذا يقين في ربّك الخالق، وأيقن كذلك بأنّه ذو الجلال والإكرام.
3. طهارة القلب من الغل والحقد والحسد: فأصلح قلبك، فإذا صلح القلب صلح سائر الجسد، أصلح قلبك نحو إخوانك؛ فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ : "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [رواه البخاريّ] فلقد حث الإسلام على التآخي والمحبّة والألفة ونبذ الفرقة والخلاف كمَا نهى عن كل أذى أو ضرر أو اعتداء؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، حَرَامٌ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» [رواه مسلم].
4. طهارة الجوارح كلها من الحرام:
فأمّا طهارة اللسان فقد حث عليها القرآن المجيد بقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقوله -صلى الله عليه وسلّم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت). فلا تتحدث بلسانك إلا إذا كان نطقًا بخير وحق، وإلا صمتّ!!
وأمّا طهارة اليد: فلا تمتد يدك إلى مال لا يحلّ لك، تحت أي مسمّى (هدية، إكرامية، رشوة، مال عام...الخ)، فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ولك أن تتخيل لو أنك تقبض راتبًا 1000ج وأخذت رشوة عشر جنيهات، ثم أطعمت أبناءك هذه الأموال، لك أن تتخيل أن العشر اختلطت بالألف فدخل في العروق والدماء لأبنائك وأهلك، فالحذر الحذر..
وأمّا طهارة العين: فمما لا شك فيه أننا مسؤولون عن جوارحنا وأعضائنا، وما قوله تعالى -عنا ببعيد؛ حيث يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فلا تنظر بعينك إلى ما حرّم الله تعالى، فنظرتك إلى الحرام داء وليس له من دواء إلا الغضّ والخفض، ومعلوم ما تصنعه النظرة الحرام في القلب والحياة كلها.
وأمّا طهارة الأذن: فلا تعط أذنك مخادع كذّاب يضحك عليك بإشاعة أو شبهة، ويزينها لك، فاحفظ أذنك وطهرها من الاستماع للحرام، قال سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. وهكذا ينبغي أن نعمل على تطهير جوراحنا وأعضاء جسدنا، مستذكرين قول ربنا: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 24، 25].
5. طهارة الأخلاق من الرذائل: إن بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلّم- هي بعثة الأخلاق والإنسانية، فقال عليه الصلاة والسّلام: «بعثت لأتمّم صالح الأخلاق»، ولماذا ننادي بطهارة الأخلاق؟ لأن الأخلاق هي الترجمة الحقيقية للإسلام والعبادة لله، ولك أن تتخيل شخصًا رائحته طيبة، أسنانه جميلة، شعره طيب، وسيارته حسنة، ولا يلقي بالقمامة في الشارع، ولا يأتي امرأته في فترة حيضها ولا دُبُرِها، بينما هو سيئ الأخلاق مع الناس، فيغتاب الآخرين، وينمّ عليهم، وينقل الأكاذيب، ويشيع الفاحشة بماله، وهكذا... أين أخلاقه؟ أين النظافة؟ أين الإسلام؟ وهل الإسلام مسجد ودار عبادة ومظهر خارجي؟ أبدًا: الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاق!! لا سيّما وأن العبد ينال من الجنة بحسن خلقه، ودرجته بجوار النبي على قدر أخلاقه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أَحبَّكم إِليّ وأَقربَكم منّى في الآخرة: أَحاسنُكم أَخلاقًا»..
6. طهارة المجتمع من الظلم والمظالم: فإن المجتمع الذي يكثر فيه الظلم لا قدسية له عند الله، ويوشك أن يعمّه الله بعقاب، إنّ القاذورات الحقيقية -في أي مجتمع- هي قاذورات الظلم والبغي والإفساد وتضييع حقوق العباد، وقد قال صلى الله عليه وسلّم: «لا قدست أمة -أو كيف تقدس أمة- لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها».. والظلم ظلمات يوم القيامة، وهل هناك أذى بعد ذلك؛ بأن يأتي العبد يوم القيامة محملا بالأوزار والأغلال والقيود بالمظالم، ولذا كان التطهير مطلوبا من مثل هذه القاذورات في الدنيا قبل يوم القيامة، ففي الحديث -عند البخاري في الصحيح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ». وفي الموطأ: «من كانت عليه تبعة من أخيه المسلم فليتحلّلها منه في الدنيا قبل الآخرة حيث لا حمراء ولا بيضاء».. فلا بد للمجتمع من الطهارة من الظلم، وإلا تحوّلت الحياة إلى غابة يأكل القوي فيها حق الضعيف.
7. طهارة المجتمع من الفُرقة والتنازع: إن المجتمع يكون مُصابًا بالأذى إذا مسّته نارُ الفُرقة والنزاع، فلا نتيجة وراء ذلك إلا الفشل والخيبة والخسارة المحققة، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وما أحوج المجتمع الرشيد إلى الأخوة والتعاون والتسامح والتعاضد، الذي يحفظ البلاد والعباد.
8. طهارة المجتمع من اليأس والتشاؤم: فاليأس كالقمامة رائحتها كريهة، والأمراض المنبعثة عنها خطيرة، تودي بحياة الأفراد والمجتمعات، والأمم لا تبنى باليأس ولا التشاؤم، فما أحيا اليأس أمّة، ولا بنى حضارة، ولا حقق تقدّمًا يومًا من الأيام، ولقد نهى القرآن الكريم عن اليأس، فقال ربّنا في محكم التنزيل: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]...
9. طهارة حياة المسلم من تأييد الظلم والباطل، وأن يتحوّل بقلبٍ نقيّ سويّ فتيّ قويّ إلى الطهارة الحقيقية في نصرة الحق وأهله، ومجابهة البغي وحزبه.. فإنّ المجتمع الذي لا يقال فيه كلمة الحق ولا يُنصَر فيه الضعيف، ولا تُسْتَردّ فيه الحقوق مجتمع ضائع تائه..
إنها الطهارة التي يريدها الإسلام، وينشدها الدين من أتباعه!!
فهلّا اكتملت طهارة المسلمين اليوم -في زماننا- بالطهارة الظاهرة المادية، والطهارة الباطنة المعنوية؛ فتتآلف القلوب، وتتعانق الأفئدة، وتترافق النفوس محبة وعطاء لدينها ووطنها وأمتها...
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من كل مرض وبلاء..
ونسأله سبحانه أن يرزقنا دواء من كل داء، وعافية من كل ابتلاء، وأن يكمّلنا بالصحة والشفاء..
تعليقات: (0) إضافة تعليق