الحمد لله رب العالمين
.. من علينا بنعمة الإسلام العظيم فأكمله لنا وأتمه علينا ورضيه لنا فقال تعالي {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا (3)}[المائدة].
وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له... له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير ..شرع لنا الدين سموا بالإنسان
إلي معارج الكمال وكريم الخصال وحميد الفعال .. فقال تعالي { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ
نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ
السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}[المائدة].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول
الله صلي الله عليه وسلم ... ربي الأمة علي الثقة فيما عند الله تعالي من فضل ورزق
...فعن أبي أُمامةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال: "إِنَّ رُوحَ القُدسِ
نَفَثَ فِي رُوعي أَنَّ نفسًا لنْ تموتَ حتى تستكمِلَ أَجلَها وتستوعبَ رِزْقَها، فاتقوا
اللهَ وأجْمِلُوا فِي الطلبِ، ولا يحمِلَنَّ أحدَكُم استبطاءُ الرِّزقِ أَنْ يطلبَهُ
بمعصيةِ اللهِ، فإنَّ الله تعالى لا يُنالُ ما عندَهُ إلا بطاعتِهِ"[ رواه أبو
نعيم في حلية الأولياء وصححه الألباني.].
فاللهم صل علي سيدنا محمد
وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلي يوم الدين ..
أما بعـد .... فيا أيها
المؤمنون ..
لقد أنعم الله تعالي علينا
بدين متكامل، تشريع شامل لكل مجالات الحياة، فهو إيمان وعمل، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة،
فكر وعاطفة، أخلاق وعمران.
إن الإسلام له منهجه الإقتصادي
الكامل ومنهجه السياسي الكامل، ومنهجه الإصلاحي الكامل في كل مجالات الحياة....
فالإسلام دين شامل يشمل
كل مناحي الحياة ، ذلك المنهج الذي يحقق للإنسان السعادة في الدنيا، ولا ينسى معاده
في الآخرة.
ومن المجالات التي عالجها
الإسلام في حياتنا المجال الإقتصادي ، ولقد حرص الإسلام حرصًا بالغًا على بناء الإنسان
في كل مجالات الحياة وتنمية موارده الاقتصادية، ليعيش حياة طيبة كريمة، هانئة مليئة
بالإنجاز والعمل ،العمل الصالح الذي يؤتي ثماره مرتين مرة في الحياة الدنيا، ومرة في
الحياة الآخرة، وهي الحياة التي ترتفع بالمسلم من حد الكفاف إلى حد الكفاية والرفاهية
لذلك كان حديثنا عن [البناء الإقتصادي وأثره علي الأمة] وذلك من خلال هذه العناصرالتالية
...
1ـ مفهوم البناء الإقتصادي.
2ـ ضرورة البناء الإقتصادي.
3ـ دور القِيَم الإيمانية
في البناء الاقتصادي.
4ـ الحوافز والدوافع في
نجاح البناء الإقتصادي .
5ـ معوقات البناء الإقتصادي.
6ـ أثر البناء الإقتصادي
علي الأمة.
7ـ الخاتمة .
=============================
العنصر الأول : مفهوم البناء
الإقتصادي:ــ
يمكننا القول إن للبناء
الإقتصادي في الإسلام مفهومًا شاملاً عريضًا، يستوعب كل ما يؤدي إلى الحياة الطيبة
للإنسان الذي كرمه الله تعالى، وجعله خليفته في الأرض، وأمره بإصلاحها ونهاه عن السعي
فيها بالفساد والخراب والدمار وإهلاك الحرث والنسل.
فالبناء الإقتصادي هو :
طلب عمارة الأرض، وذلك من قوله تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا(61)}[هود].
وقيل إن البناء يعني
"الحياة الطيبة"، إشارة إلى معنى الآية الكريمة قال تعالي {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)} [النحل].
وقيل هو نقل المجتمع من
الوضع الذي لا يرضاه الله، إلى الوضع الذي يرضاه.
والبناء الإقتصادي في الإسلام
له هدف أساسي، وهو تحقيق التوازن بين مصلحة الجماعة والفرد بقصد تحقيق السعادة للإنسان
في الدنيا والآخر، وتمكينه من أداء الهدف الذي خلق من أجله، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(56}[الذاريات].
العنصر الثاني : ضرورة البناء
الإقتصادي :ــ
وضع الإسلام للبناء الإقتصادي
حسابًا خاصًا، فجعله في حكم الواجب، وقد فسر علماء التفسير قول الله عز وجل {هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (61)}[هود].
على أنها تفيد الوجوب، فالسين
والتاء في "استعمركم" للطلب، والطلب المطلق من الله يكون على سبيل الوجوب.
وفي تلك الآية يقول الإمام
الجصاص: "إن في ذلك دلالة على وجوب عمارة الأرض بالزراعة والغرس والأبنية.
والتنمية واجبة للإنسان
لأنها ليست شيئا عارضا أوهينا في ميزان الإسلام ولكنها ركن ركين وشعبة عظيمة من شعبه
.
ولذلك حرص رسول الله (ﷺ)
علي بناء اقتصادي قوي من أول يوم وصل إلي المدينة المنورة ، إذ كان اليهودُ قبل الهجرة
يحتكرون التجارةَ فيها، ويسيطرون على معظمِ الموارد.
فأرادَ الرسولُ (ﷺ) إنهاءَ
هذا الاحتكارِ والهيمنة، وتشجيعَ أثرياءِ المسلمين على مزاولة النشاط الاقتصادي.
ومن أبرز المسلمين الذين
كانَ لهم فضلٌ في إنشاء سوقٍ تجاري كبير في المدينة المنورة الصحابيُ الجليل عبدُ الرَّحمنِ
بنُ عوف رضي الله عنه ،فكان عبدُ الرَّحمنِ بن عوف من أوائل الذين آمنوا بالنبي (ﷺ)،وساهمت
إمكاناتُه الماليةُ في مساندةِ الدعوةِ وفقراءِ المسلمين.
فأين أصحاب رؤس الأموال
اليوم من عبدالرحمن ابن عوف ومعاناة الكثير من فقراء المسلمين . وقد كان المهاجرون
والأنصار، يعملون في الزراعة، أوفي التجارة أو في الحطب، أو في الاستيراد، أو في غير
ذلك، وكلهم كانوا مثل عبد الرحمن بن عوف، حتى نتج عن ذلك نشاطٌ اقتصاديٌ واسعُ النطاق
.
العنصر الثالث : دور القِيَم الإيمانية في البناء
الإقتصادي:ـ
لا بُدَّ من تلازم القِيَم
الإيمانية مع البناء الإقتصادي؛ لأن البناء الإقتصادي ليس مطلوباَ لذاته، بل هو وسيلة
لتحقيق الرخاء والسعادة وإقامة الدنيا والدين، وإذا كان الاقتصاد الإسلامي يدعونا إلى
العمل والاستثمار وتعمير الأرض والضرب فيها، فإن هناك ضوابط دينية أخلاقية تحكمه تتمثل
في قول الله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ
الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)} [القصص].
ويمكن استخراج هذه الضوابط
من هذه الآية وهى:ـ
1ـ أرزاق العباد على الله تعالى:ـ
أكد الله سبحانه هذا المبدأ،
وأقر هذه القاعدة في كتابه، فلا رازق سواه، كما أنه لا خالق غيره، خلق ورزق دون عناء
ولا كلفة ولا مشقة، فلو سأله الخلق جمعيا فأعطاهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا، كما قال
في الحديث القدسي الجليل ،عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله (ﷺ) فيما يروي عن الله
تبارك وتعالى أنه قال: {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا
تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا
من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا
عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا
عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم
وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا
عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك
من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني
فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر،
يا عبادي إنما هي أعمالكم: أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز
وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}[رواه مسلم].
فبين أن جميع الخلائق إذا
سألوا وهم في مكان واحد، وزمان واحد، فأعطى كل إنسان منهم مسألته لم ينقصه ذلك مما
عنده إلا كما ينقص المخيط، وهي الإبرة، إذا غمس في البحر.
ومن آيات ربنا سبحانه التي
تقرر هذه القاعدة قوله جل ذكره:{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)
مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ(58)} [الذاريات].
والْحَظْ اسم الله الرزاق
في هذا السياق، وما جاء به في ختام الآية الثانية، فالرزاق من أبنية المبالغة، وهو
يعني الذي يرزق مرة بعد مرة، الرزاق لجميع عباده، وقوله (ذو القوة المتين) يدل على
أنه لا يعجزه شيء من هذا العطاء والرزق، فيعطى ويخلق بالقدرة المعجزة التي لا نهاية
لها!
وقال ربنا: {إِنَّ هَذَا
لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ(54)} [ص].
فما على الإنسان إلا أن
يسعى في الطلب ويحسن التوكل على الله، والله تعالى يفيض عليه من رزقه، وقد سهل النبي
(ﷺ) هذا الأمر فقال:{لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو
خماصا وتروح بطانا}.
وهو ظاهر في أن التوكل يكون
مع السعي؛ لأنه ذكر للطير عملا وهو الذهاب صباحًا في طلب الرزق، وهي فارغة البطون،
والرجوع وهي ممتلئة البطون.
وقال تعالى: {الْحَمْدُ
لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ
مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ
لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ
(2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ
غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ(3)} [فاطر].
وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم
مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى
أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(24)} [سبأ].
وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم
مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ
الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ(31)} [يونس]. وتحدى الله تعالى بقضية
الرزق وأنه لا يملكه سواه فقال جل ذكره: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ
أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21)} [الملك].
وإذا كان هذا مقررًا، فإنه
ينبغي للعباد أن لا يهتموا بهذا الأمر؛ لأنه مكفول من الله تعالى لهم، وما عليهم إلا
أن يحسنوا التوكل على الله والإيمان به ليبارك الله تعالى لهم في الرزق الذي تكفل به؛
قال تعالى: {اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ(40)} [الروم].
وقد ذكر الله تعالى قضية
الرزق مقرونة بالخلق، ومعلوم أن الله قد خلق كل ما هو كائن إلى يوم القيامة من الإنس
قبل خلق آدم، وأخذ عليهم عهد الإيمان، وسبق ذلك في علمه، فقرن الرزق به تطمينا للعباد،
حتى لا يهتموا برزق غد، وليعلموا أن الذي خلق هو الذي رزق!
2ـ الرزق مكفول فلم الهم؟
قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ(23)} [الذاريات].
وعتب على هؤلاء الذين يقتلون
أولادهم بغير حق لا لشيء إلا الخوف أن يأكلوا من طعامهم فيقللوا عليهم أرزاقهم، فقال
سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31)} [الإسراء].
وقال تعالى:{وَكَأَيِّن
مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ(60)} [العنكبوت].
والمعنى كما يقول ابن كثير
رحمه الله:(لا تطيق جمعه ولا تحصيله، ولا تدخر شيئا لغد، (الله يرزقها)، أي يقيض لها
رزقها على ضعفها وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار
الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء).
3ـ كثرة الرزق أو قلته لا تدل على محبة الله تعالي
أو بُغضه تعالي.
فالله سبحانه يرزق الجميع،
ولكنه قد يزيد أهل الضلال والجهل في الرزق، ويوسع عليهم في الدنيا، وقد يقتر على أهل
الإيمان، فلا يظن أن العطاء والزيادة دليل المحبة والاصطفاء!.
بل إنه بين أنه لولا أن
يكفر الناس جميعًا لأراهم الله تعالى عطاياه لأهل الكفر، فقال جل ذكره:
{ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا
وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
(35)} [الزخرف].
وقد قال ربنا: {أَيَحْسَبُونَ
أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ
بَل لاَّ يَشْعُرُونَ(56)} [المؤمنون].
وقد حكى لنا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه حال النبي (ﷺ) وقد دخل عليه في غرفته، وهو على حصير ما بينه وبينه شيء،
وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أهب معلقة،
فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال:(ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر
فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)؟
والله يعطي الدنيا من يحب
ومن لا يحب. ولا يعطي الإيمان إلا من يحب. قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا
إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)}
[الفجر].
يقول: ما كل من وسعت عليه
أكرمته، ولا كل من قَدَرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء،
ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر والصبر كان كل قضاء يقضيه الله خيرًا له، كما في الصحيح
عن النبي (ﷺ) أنه قال {لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له. وليس ذلك لأحد
إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له}.
وقال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ
فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ
إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ َسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ
جُنداً(75)} [مريم].
4ـ الله هو المتصرف في أرزاق
العباد:ـ
وهذا أصل مهم من أصول الإيمان
بقضية الرزق؛ فالله سبحانه متصرف في أرزاق العباد؛ يجعل من يشاء غنيا كثير الرزق، ويقدر
على آخرين، وله في ذلك حكم بالغة؛ قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلاَ تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ
كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31)} [الإسراء].
قال ابن كثير: أي خبير بصير
بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، فمن العباد من لا يصلح حاله إلا بالغنى فإن أصابه
الفقر فسد حاله، ومنهم بضد ذلك.
وقال في قوله تعالى: {وَلَوْ
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)}الشوري.
ولو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي
والطغيان من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا، ثم قال: {وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا
يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}، وهذا كقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ(21)} [الحجر].
وقال تعالى في حكاية عن
مريم وزكريا عليهما السلام: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا
نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ
وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)} [آل عمران].
5ـ الرزق يُبَارك فيه بالطاعة
ويُمْحَق بالمعصية:ـ
الرزق يبارك فيه بالطاعة،
ويمحق بالمعصية، فتذهب بركته وإن كان كثيرا ظاهرًا؛ لأن ما عند الله تعالى لا ينال
إلا بطاعته؛ قال سبحانه{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)} [الروم].
وفي المسند قال رسول الله
(ﷺ) (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) ، وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق، فترك التقوى
مجلبة للفقر، فما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي، وفي هذا يقول ربنا جل ذكره: {وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)} [الأعراف].
وقد ضرب الله الأمثال لذلك
في القرآن؛ قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)} [النحل].
وقال سبحانه: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ
كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلاَ
يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ(20)} [القلم].
6ـ الرزق آتٍ لا محالة:ـ
وهذا أصل مهم من أصول الإيمان؛
أن يعلم الجميع أن رزق الله تعالى الذي قدره لا يفوت العبد، بل لا بد من تحصيله، وقد
قال في ذلك رسول الله (ﷺ) {ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا
شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي أنه لن
تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها}.
فلو أن الناس عملوا بذلك
وآمنوا به لما كان هناك سرقة ولا نهب، ولا غصب ولا اختلاس، ولا تحايل على قضية الرزق،
فما قدر الله تعالى آتٍ لا محالة، وما لم يقدر فلن يستطيعَه العبدُ ولو بذل في سبيل
ذلك الدنيا وما فيها.
ولذلك كان النبي (ﷺ) يقول:{يقول
ابن آدم: مالي مالي. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت،
أو أعطيت فأمضيت} رواه مسلم.
ومن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلالَ؛ رُوِي
عن علي رضي الله عنه أنه دخل مسجد الكوفة
فأعطى غلامًا دابته حتى
يصلي، فلما فرغ من صلاته أخرج دينارًا ليعطيه الغلام، فوجده قد أخذ خطام الدابة وانصرف،
فأرسل رجلا ليشتري له خطامًا بدينار، فاشترى له الخطام، ثم أتى فلما رآه علي رضي الله
عنه، قال سبحان الله!
إنه خطام دابتي، فقال الرجل:
اشتريته من غلام بدينار، فقال علي رضي الله عنه: سبحان الله! أردت أن أعطه إياه حلالا،
فأبى إلا أن يأخذه حراما!
وقيل لأبي حازم رضي الله
عنه: ما مالك؟
قال: شيئان: الرضى عن الله،
والغنى عن الناس.
قيل له: إنك لمسكين. فقال:
كيف أكون مسكينا ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
7ـ الأصل في الرزق أنه لا
يأتي وحده ولكن يُسعي إليه :ـ
إن الله تعالي جعل من السنن
الكونية ، الأخذ بالأسباب ،وطلب الرزق من عند الله سبحانه وتعالى بأسبابه المباحة قال
تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(17){ العنكبوت.
قال تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ۚ (198){ البقرة .
أي أن تطلبوا الرزق والفضل
من الله سبحانه وتعالى، فعلى المسلم أن يجدَّ ويجتهد في طلب الرزق ليغني نفسه عن الناس
وليغني من تلزمه نفقته، وليتصدق ولينفق في وجوه الخير إذا رزقه الله مالاً فنعم المال
الطيب للرجل الطيب، ووجوه طلب الرزق كثيرة والحمد لله وميسرة:
ومنها البيع والشراء والمتاجرات
والمؤجرات في حدود ما شرع الله سبحانه وتعالى، فالتجارة النزيهة هي خير المكاسب، والحمد
لله الأصل في المعاملات الحلَّ والإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه: قال تعالي }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ (29){ النساء.
فالتجارة هي خير المكاسب
بأن يبيع الإنسان ويشتري طلباً للربح، وكذلك من وجوه الكسب المباحة أن يتعلم الإنسان
المهن والحرف التي يكتسب من وراءها من الصناعة وغير ذلك من المهن التي يستفيد منها
أموال مباحة، وكان نبي الله داوود عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها
ولهذا جاء في الحديث:" إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن داود عليه السلام كان يأكل
من عمل يده ".
إن أطيب ما يأكل المؤمن
من كسب يده، وإن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده مع أنه نبي وملك لكنه لا يأكل
إلا من كده ومن عمل يده فكذلك المؤمن يطلب الحرف والصناعات والمهارات التي يعيش من
وراءها ويستغني من مردودها، فيتعلم ما يدر عليه من الرزق مما أباح الله سبحانه وتعالى،
يتعلم الهندسة، يتعلم الطب، يتعلم الحدادة ،يتعلم كل ما فيه نفعٌ وفيه مردود
حلال ليحصل على الرزق، وكذلك
من وجوه الاكتساب الاحتراف ،والكد باليد .
ولقد قطع الإسلام كل الطرق
أمام المتسول والبطال حتي لا يركن لشيئ مثل
أن يركن بحجة العبادة ، أو يركن معتمدا علي مال الزكاة .
فعن أنس رضي الله عنه (
أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي (ﷺ) يسأله فقال صلَّى الله عليه وسلَّم أَمَا في بيتك
شيء؟ قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ[كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه.]
نلبس بعضَه، ونبسط بعضه،
وقَعْبٌ[الإناء] نشربُ فيه من الماء، قال (ﷺ)
(ائتني بهما) ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله (ﷺ) بيده، وقال: مَن يشتري هذين؟،
فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، قال (ﷺ) مَن يَزيد على درهم؟ مرَّتين أو ثلاثًا، قال
رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ،
وقال: (اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به).
فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ
(ﷺ) عودًا بيده، ثم قال له: (اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا) ،
فذهَبَ الرجل يحتطبُ ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها
طعامًا، فقال رسول الله (ﷺ) هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ المسألةُ نُكتةً في وجهك يومَ
القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفظِع،
أو لذي دمٍ مُوجِع.
رواه أبو داود برقم ، واللفظ
له، ، وابن ماجه ، والنسائي ، وأحمد .
وقال عليه الصلاة والسلام:
لئن يذهب أحدكم بأحبله إلى الجبل فيحتطب ويبيع خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه
.
ولقد رأى الفاروقُ عمر ابن
الخطاب رضي الله عنه قومًا قابعين في رُكن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟
قالوا: نحن المُتوَكِّلون
على الله، فعَلاهم عمر رضي الله عنه بدِرَّته ونَهَرَهم، وقال: لا يَقعُدنَّ أحدُكم
عن طلب الرزق
،ويقول: اللهم ارزقني، وقد
علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضّة، وإن الله يقول:}فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10){ الجمعة.
وروى ابن أبي الدنيا في
"التوكل" بسنده عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناسا من أهل اليمن،
فقال : من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكلون. قال : بل أنتم المتكلون، إنما « المتوكل الذي
يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله ».
وكان سفيانُ الثوريّ رحمه
الله يمُرُّ ببعض الناس وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: فما
نصنَع؟!
قال: اطلُبوا من فضلِ الله،
ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
ويُروى عن" شقيق البلخي"
وهو من أهل العبادة والزهد أنه ودَّع أستاذه " الشيخ إبراهيم بن أدهم" لسفره
في تجارة عزم عليها.
وأثناء سيره في الطريق رأى
طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع.
فلم يمضِ وقت طويل حتى جاء
طائر آخر فأطعم الطائر كسير الجناح. تعجب شقيق من هذا المشهد وأثر فيه ،فقال في نفسه:
إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه ولا قوة ولم يهمله فلماذا أذهب
إلى التجارة و لماذا العناء و السفر وأنا في هذا السن؟!
سأرجع وحتماً سيرزقني الله
، وفعلاً عاد إلى بيته ولم يكمل السفر ،وحين وصل زار شيخه فقال له الشيخ : لماذا عدت
يا شقيق.. الم تذهب للتجارة ؟
فقص عليه القصة بأنه رأى
في طريقه طائرا أعمى وكسيح و أخذ يفكر كيف يأكل هذا الطائر ويشرب؟
وبعد قليل جاء طائر آخر
يحمل حباً وأطعم الطائر الأعمى ثم سقاه، فقلت طالما ربنا عز وجل رزق الطائر الأعمى
الكسيح سأرجع إلى بيتي وسط أولادي وارجع لأهلي وبلدي وربي سيرزقني.
هنا قال له الشيخ إبراهيم:
سبحان الله يا شقيق! ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون
غيره ولا تكن أنت الطائر الآخر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله ؟!
أما علمت أن النبي (ﷺ) قال:
(اليد العليا خير من اليد السفلى) .
إنتبه شقيق إلى خطأه فقَبل
يد الشيخ وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق، ثم تركه ليذهب مجدداً لطلب الرزق.
فالمؤمنين ليسوا عالة على
غيرهم تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب ، وليسوا طلاب دنيا وعبيد مال تحجزهم مصالحهم
وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى قال تعالي } ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن
كما أحسن الله إليك{القصص.
ودخل عبد الله بن عمر رضي
الله عنه السوق ، فأقيمت الصلاة فأغلق التجار حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال : فيهم نزلت
: }رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ..
{.النور
وقال مطرف الوراق :
" كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل
إلى الصلاة ".
وأيضا لم يجعل النبي (ﷺ)
لمتبطل كسول حقا في الصدقات ، فيحكي أنه جاء رجلان إلى النبي (ﷺ) يسألانه من الزكاة
فنظر إليهما فوجد أنهما قويان فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئتما أعطيتكما غير أنه
لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة قوي ، لا حظ فيها لغني (يعني الزكاة) ولا حظ فيها لذي
مرة (يعني قوة) لذي مرة قوي لأن الأول غنيٌ بماله والثاني غنيٌ بقوته.
فقال رسول الله (ﷺ):"
لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" أخرجه أبو داود والترمذي.
فالإسلام الحنيف ليس فيه
عطالة ، فالإسلام دين الجد والاجتهاد ، حيث يأمرنا بالضرب في الأرض ، قال تعالي (وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ) يعني يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) يطلبون
الرزق.
8ـ المالك الحقيقي للمال
هو الله تعالي ونحن مستخلفون فيه :ـ
المالك الحقيقي للمال والأرض
هو الله تعالي ،والإنسان ما هو إلا مستخلف فيه ،لذلك ينبغي علي الإنسان أن يحسن استخدامه
وتوظيفه فلا يتصرف وفق رغبات وشهواتها فيسرف في الإنفاق ليرضي متطلبات نفسه ونزواتها
ويبخل بالمال حرصا عليه عندما تستلزمه الضرورات التي ليس لمفسه إليها حاجة أو حظ ونسي
أن هذا المال ليس ماله وأنه فقط مستخلف فيه وأن المستخلف في شيئ ملزم التصرف فيه وفق
ضوابط وأوامر من استخلفه ولا يجوز له أن يجتهد خارج هذه الأوامر والضوابط وإلا أصبح
خائنا للأمانه فيقع تحت طائلة الآية الكريمة } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(27)وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28){ الأنفال .
فيؤكد المولي عز وجل هذه
الحقيقة بكلمات واضحة مباشرة فيقول سبحانه وتعالي}آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا
مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا
لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7){الحديد
ويقول تعالي }وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ(33){ النور.
ومن هنا جاءت النصوص توضح
المنهج الوسط في التعامل مع المال بما يحقق الاستخلاف ويؤدي إلي مرضاة الله تعالي وفي
نفس الوقت تحذر من الخروج علي هذا المنهج فيقول تعالي مبيحاَ لعباده الزينة والطيبات
من الرزق ولكن في غير سرف ولا تقتير } يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ
مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32){ الأعراف.
ويقول تعالي }وَلَا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُومًا مَحْسُورًا (29){ الإسراء.
ويقول تعالي أيضا : }وَالَّذِينَ
إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا(67){
الفرقان .
ويقول تعالي في معرض أداء
الحقوق } وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا
إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27){ الإسراء.
والتبذير هو الإنفاق في
غير المشروع ،أما الإسراف فهو الإنفاق في المشروع ولكن بزياة كبيرة عن الحد المعقول
وكلاهما حرام .
وَقَالَ النَّبِى (ﷺ):
(كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلا مَخِيلَةٍ)
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ
مَخِيلَةٌ.
ورغم ذلك نجد البعض من أصحاب
الثراء الفاحش ينفقون المال علي موائد القمار وعلي حفلات المُجون والرقص، وهناك من
المسلمين من يكاد يموت جوعا أو مرضا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وفي هؤلاء وأمثالهم يقول
النبي (ﷺ) فعن خولة الأنصارية رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله (ﷺ):(إن رجالا يتخوضون
في مال الله بغير حق ،فلهم النار يوم القيامة ( . رواه البخاري
وليعلم المسلم أيضا أن نعم
الله عز وجل لا يمتلكها أحد ، وإنما هي بمثابة الجوار، ليتمتع بها بما يرض الله عز
وجل ، فإذا أحسن الإنسان جوار النعم لازمته، وبارك الله له فيها ، وإذا أساء جوارها
فارقته ،وأثم إثما كبيرا .
فعن أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها تقول دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ (ﷺ) فَرأى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَشَى إليها
فأخذَها ثُمَّ مسحَها فَأكلَها ثُمَّ قال لي يا عائشةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ
تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ"[أخرجه
ابن ماجه ، وابن أبي الدنيا في الشكر والطبراني في المعجم الأوسط].
ويقول الله تعالي}وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7){إبراهيم
ولابد أن نعلم أنَّ صلاح
الأمة بالتزام هذه التعاليم وهلاكها في انحرافها عن هذه التعاليم
فعن عبد الله بن عمرو في
الحديث المرفوع }صَلاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ ، وَيَهْلِكُ
آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ { .رواه الطبراني في الأوسط.
ومن أهم الأشياء التي يوقن
بها المسلم أن كل هذه النعم لا تصحبه في رحلته إلي الدار الآخرة ، وهي أهم رحلة لأنه
من خلالها يتحدد مصير الإنسان إما نعيم مقيم ، وإما عذاب أليم ، وقدأخبرالنبي (ﷺ) بذلك
فعن أنس رضي الله عنه عن رسولِ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ
ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ"
متفقٌ عَلَيهِ.
العنصر الرابع : الحوافز
والدوافع في نجاح البناء الإقتصادي :ـ
إن عملية البناء الإقتصادي
لا يمكن أن يتمَّ إلا إذا توافر لها الإنسان الصالح القوى الذي ينهض بها، والمجتمع
الخيِّر الذي يحتضنها ،لذلك أعطي الإسلام حوافز ومشجعات لما أوجب العمارة على خلقه،
جعل لهم في مقابل ذلك حوافز عظيمة، وذلك لما في الحوافز والدوافع والقيم التي تحرك
الأفراد، من دور أساسي في إنجاح هذه العملية.
لقد جعل الله تعالي حوافز
ودوافع تجعل الإنسان يسعى لتحقيق البناء من خلال المنهج التربوي الإسلامي حوافز أخروية
وروحية، فنجد أن هناك آيات كثيرة، وأحاديث ترغب في العمل وتحث عليه.....
ومن الحوافز الأخروية قول
الله تعالى{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ(19)} [الأحقاف].
وقوله تعالى{إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)}[الكهف].
وكذلك قوله تعالى {إِلَيْهِ
يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (10)}[فاطر].
ومن ذلك قول النبي (ﷺ)
"ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان، أو بهيمة، إلا
كان له به صدقة".
وفي مجال الحوافز الدنيوية،
فقد وردت أحاديث كثيرة، فمثلاً في مجال الأعمال المخصوصة كالزراعة، جاءت أحاديث تجعل
العمل الزراعي في الأراضي غير المملوكة سببًا في التملك، وهذا الحافز يتسم مع طبيعة
الإنسان المجبولة على حب المال والتملك.
ومن ذلك قول النبي (ﷺ)
:{من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وما أكلت العافية منه له به صدقة}. وأخرج البخاري في
صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ: " مَنْ
أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ ".
ويقول (ﷺ) : " مَنْ
أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ مِنْهَا يَعْنِي أَجْرًا وَمَا أَكَلَتْ الْعَوَافِي
مِنْهَا يعني الطير والسباع- فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ ".
تشجيع المشاريع الإقتصادية:ـ
شجَّع رسول الله المشاريع
الاقتصادية بين المسلمين، وحثَّهم على المزارعة، كما فعل الأنصار مع
إخوانهم المهاجرين الفقراء،
الذين قَدِموا على المدينة بلا أدني مال، فعن أبي هريرة أنه قال: قالت الأنصار للنبي
(ﷺ): اقسمْ بيننا وبَيْن إخواننا النَّخِيلَ. فقال: "لا". فقالوا: تَكْفُونَا
الْمُؤْنَة, وَنَشْرَككُمْ في الثمرة. قالوا: سمِعْنا وأطَعْنا.(رواه البخاري) .
والإعمار والإحياء إما بالزرع
أو حفر الآبار،أو بالبناء عليها،كبناء المصانع، والشركات المنتجة لما يلزم للناس، ونحو
ذلك.
وخلاصة القول، فإن التنمية
الاقتصادية في الإسلام، تنمية شاملة متوازنة تجمع بين تنمية الإنسان، وإعداده إعدادًا
صحيحًا، ليضطلع بمسؤولياته أمام الله عز وجل وبين تنمية البيئة المحيطة به اقتصاديًا
واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، لتمكنه من القيام بهذه المسؤوليات على الشكل المطلوب
خير قيام.
العنصر الخامس :معوِّقات
البناء الإقتصادي:ــ
هناك معوِّقات للبناء الإقتصادي
نذكر منها:ـ
1- الربا بجميع أنواعه،
وما يترتب عليه من أضرار خطيرة على الفرد والمجتمع، لم يكن الإسلام في منعه للربا حربًا
على الأغنياء أو ضد الثراء؛ بل كان التزام الحق والعدل في استنماء المال، وتوظيفه في
دفع عجلة التنمية الاقتصادية وتحقيق ازدهار المجتمع ورخائه، ومن هنا كان تحريم الربا
ضابطًا رئيسًا للاستثمار الرشيد في الاقتصاد الإسلامي، وذلك أن الربا يؤدي إلى تمييز
رأس المال على سائر عناصر الإنتاج؛ بأن يكون مستحقًّا لعائد دون مقابل من إنتاج أو
عمل أو تعرض لمخاطرة.
وبعبارة أخرى: فإن المعاملات
الربوية تؤدي إلى استخدام النقود في غير وظيفتها الأساسية، فتكون سلعة تُباع وتُشترَى،
يُباح تأجيرها بثمن معين يسمى الفائدة، مما يمنحها القدرة على إنتاج نقود من غير إسهام
فعلي في العملية الإنتاجية بالعمل، أو التعرض للمخاطرة، أو الإنتاج الفعلي. وبناءً
على ذلك؛ فإن الربا يؤدي إلى تعطيل استخدام النقود الأساس كوسيط للتبادل، فتركّز الثروة
في أيدي طبقة محدودة من المجتمع، فتصبح هي المتحكِّمة في رأس ماله، وذلك يترتب عليه
قلة الإنتاج من جرَّاء توقُّف الاستثمار الحقيقي الذي يتطلَّب بذل الجهد وممارسة العمل
من الجميع، والاشتراك في تحمُّل المخاطرة، فالمرابون بما يحصلون عليه من كسب محرَّم
بدون جهد وعناء ومخاطرة يصرفهم ذلك عن تحمُّل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة،
وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم بالتجارات
والحِرَف والصناعات والعمارات فقط.
ولقد تفاقم أمر الربا في
هذا الجانب فتعدَّاه من نطاق الدولة الداخلي إلى المستوى الدولي بشكلٍ ألحق الضرر بالدول
الفقيرة، وجعلها مكبَّلة بالديون الخارجية وفوائدها الربوية المتراكمة، بعد أن عجزت
مواردها المحلية عن الوفاء بالتزامات ديونها الخارجية التي أخفقت في تنميتها الاقتصادية،
جعلتها في موقف ضعيف إزاء طغيان الدول الدائنة التي جعلت من هذه الديون عوامل ضغط وإكراه
لربط اقتصاد الدول المدينة بالتبعية لها؛ وذلك مما أدَّى إلى انتقال الموارد من فقراء
العالم إلى أغنيائه، وتفشِّي ظاهرة التضخُّم في كثير من الدول، واختلال توزيع الدخل
والثروة بين البشر.
2- الغش والخداع:ـ
الغش هو إظهار الشيء على
غير ما هو عليه في الواقع، وذلك بكتمان العيب وإخفائه، فالغش خيانة وخداع، وهو حرام
بإجماع المسلمين، وفاعله مذموم عقلاً وشرعًا، ويعتبر الغش بأنواعه وصوره كافة آفةً
اجتماعية واقتصادية خطيرة، ويتعدَّى ضرره مصلحة المستهلكين، فتمتد آثاره لتشمل المنتجين
والمزارعين والصناعيين، وقد تطول صحة الإنسان والنظام الاقتصادي بشكل عام.
ومن صور الغش التي شاع ظهورها،
وتتنافى مع مكارم الأخلاق:ـ
الغشُّ في النشاط الاقتصادي،
ككتمان العيب وعدم إظهاره، ويدخل في الغش نقصان الكيل والميزان، وقد حذَّر الإسلام
من ذلك وأمر بالوفاء بالكيل والميزان بالعدل؛ فقال تعالى{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا(152)} [الأنعام].
كما توعَّد الله سبحانه
وتعالى بالويل لكل مَن يطفِّف أو ينقص في المكيال والميزان إذا باع، ويزيد
إذا اشترى؛ فقال تعالى
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلاَ
يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)} [المطففين].
3- صناعة وبيع الأشياء المحرمة:ـ
اتجهت الاقتصاديات الوضعية
على قصر عنايتها على الجانب المادِّي وحده،
فأصبح الهدف الوحيد للنشاط الاقتصادي المعاصر، دون مراعاة أو التفات للجوانب الأخرى
كالقيم والمبادئ الأخلاقية، فقد شاع التعامل بالأشياء المحرمة في مجال الأطعمة والأشربة
والصناعات، وذلك ما يمنعه الإسلام وتأباه شريعته التي لا تسمح أبدًا بأية صورة من صور
الكسب الخبيث؛ يقول تعالى:{قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ
كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100)}
[المائدة].
4- التبذير والإسراف:ـ
التبذير والإسراف من العادات
القبيحة التي فشَت بين الناس، وهم لا يرضون بأن يمدُّوا أرجلهم على قدر لحافهم، ولكنهم
يريدون أن يصلوا من لحاف غيرهم بلحاف أنفسهم حتى يمدُّوا أرجلهم أقصى ما يستطيعونه،
فيقعون في الإسراف والتبذير الذي يهدم اقتصاد الأسرة والمجتمع، وقد حذَّر الإسلام من
الإسراف والتبذير تحذيرًا شديدًا؛ قال تعالي{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ
الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)} [الإسراء].
5- الاعتماد على الغير في
الإنتاج:ـ
ويظهر ذلك في كثرة الاستيراد
وقلة التصدير، ولقد فضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي على الاستهلاكي؛ حرصًا منه على تنمية
الثروة الإنتاجية، ويجب على الأمة الإسلامية أن تضع خطة على أساس علمي وإحصائي؛ لزيادة
ثروة الأمة وتنمية إنتاجها كمًّا ونوعًا، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان
الإسلامية؛ للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها، واتخاذ الوسائل الفعالة مادية
ومعنوية؛ لدفع عجلة التنمية، وتنظيف المجتمع من كل الآفات النفسية والأخلاقية والثقافية
والاجتماعية، التي تعطل طاقات الأمة، وتحطم منجزاتها، وتعوق مسيرتها نحو التقدم.
العنصر السادس : أثر البناء
الإقتصادي علي الأمة :ـ
إن الأمة المنتجة قوية ولها
منعة ويهابها أعدائها ، والأمة المستهلكة ضعيفة وتكون ألعوبة في أيد أعدائها .
إن الأمة التي تعمل تقود
ولا تقاد ، تسود ولا تساد ، تتكلم فيُسْمع لها ، تأمربأمر الله فَتُطاع ، وتنهى بنهي
الله فلا تُعصى، تذل لها الأمم وتدين لها الدول، وكانت مضرب المثل بين الأمم، و يشار
إليها بالبنيان، ويتحقق لها النجاج ، والهيبة والمنعة.
لقد زار سيدنا عمرابن الخطاب بلدة فرأى أكثر الفعاليات الاقتصادية بيد غير المسلمين،
فعنفهم أشد التعنيف، فقالوا: لقد سخرهم الله لنا، فقال لهم قبل ألف وأربعمائة وأربعون عاما: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟
لقد أدرك الخليفة العملاق
قبل ألف وأربعمائة وأربعون عاما أن المُنْتِج قوي والمستهلك ضعيف.
أيها المؤمنون ...
إننا لا بُدَّ أن نصوغ حياتنا
إسلاميًّا؛ لتحقيق استقلال ذاتي حقيقي لأمتنا يردُّها إلى حضارتها الأصيلة المتوازنة،
ويعيد إليها شخصيتها المستقلة المتميزة، ويجعلها رأسًا في الحياة، لا ذيلاً لشرق أو
غرب، ولنرقى بالمجتمع من التخلُّف إلى التقدم، ومن الاعتماد على الغير إلى الاكتفاء
بالذات، ومن استيراد مصنوعات الحضارة إلى تصديرها، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج.
ويجب علينا أن نستعيذ بالله
تعالي من العجز والكسل ، ويحرص كل إنسان منا أن يكون له عمل يخدم به أمته ودينه، لذلك
كان النبي (ﷺ) يستعيذ بالله من العجز والكسل فقال (ﷺ): اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ
مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ [متفق
عليه عن زيد بن أرقم]
إن تقدم الأمة في الصناعات
المختلفة وريادتها في الأعمال المبتكرة يحقق لها المنعة من الأعداء المتربصين بها والطامعين
في ثرواتها وكنوزها .
الخاتمة :....
إن الإسلام الحنيف رغَّب
في الكد والعمل والتحصيل، وذم البطالة بشتى صورها، وحذر منها لما
فيها من الجمود والاتكالية،
فبقاء الفرد عاطلاً دون عمل معتمدًا على غيره يجعله ذليلاً مكسور الجناح، واضعًا نفسه
تحت رحمة الخلق وشفقتهم، يرجو برهم وعطفهم، ويخاف شرَّهم وعقابهم، فهو إن لم يسايرهم
منعوا عنه العطاء، ومخرجه من ذلك أن يكون عاقلاً منتجًا، وأن يوجد لنفسه مهنةً، يكتسب
من خلالها، وأن يكون في عداد المثمرين المنتجين، حتى لا يبقى عالة على نفسه ومجتمعه.
نسأل الله العظيم أن يحفظ
بلادنا من كل مكروه وسوء ، ولا يشمت بنا عدوا ولا حاسدا ،وأن يجعلنا من العاملين المخلصين
المنتجين إنه ولي ذلك ومولاه .
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تعليقات: (0) إضافة تعليق