عناصر الخطبة
العنصر الأول :
فطرية حُبّ الأوْطَــان
العنصر الثاني :
صُوَر حب الوَطَنِ والوَفَاءِ له
العنصر الثالث :
اغْرِسُوا فِي أَبنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالاعتِزَازَ به
♦♦نص الخطبة♦♦
الحَمْدُ للهِ ذِي الآلاءِ وَالنِّعَمِ، المُتَفَضِّـلِ عَلَى خَلْقِهِ
بِأَنْوَاعِ العَطَايَا وَالكَرَمِ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ
لاَ شَرِيكَ لَهُ، غَرَسَ فِي النُّفُوسِ حُبَّ الوَطَنِ، فَوُجِدَتْ فِي رُبُوعِهِ
الرَّاحَةُ وَالسَّكَنُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، كَانَ
لِوَطَنِهِ وَعَشِيرَتِهِ بِمَكَّةَ مُخْـلِصًا وَدَاعِيًا، وَصَارَ بِمَدِينَتِهِ
مِنْ بَعْدِهَا هَادِيًا وَبَانِيًا، صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الَّذِينَ كَانُوا لأَوطَانِهِمْ بُنَاةً، وَلِحِمَاهَا حُمَاةً، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ
وَسَارَ سِيرَتَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ :
♦♦♦♦♦
فطرية حُبّ الأوْطَــان
♦♦♦♦♦
أيها الكرماء الأجلاء عباد الله :
فإنَّ أَغلَى مَا يَملِكُ المَرءُ بعد دِينِهِ هُو الوَطَنُ، ومَا مِن
إِنسانٍ إلاَّ وَيَعتَزُّ بوَطَنِهِ؛ لأنَّهُ مَهدُ صِباهُ ومَرتعُ طُفُولَتِهِ، ومَلجَأُ
كُهُولَتِهِ، ومَنْبَعُ ذِكرَيَاتِهِ، ومَوطِنُ آبَائِهِ وأَجدَادِهِ، ومَأوَى أَبنَائِهِ
وأَحفَادِهِ، وحُبُّ الأَوطَانِ غَريزَةٌ مُتَأَصِّلةٌ في النُّفُوسِ، تَجعَلُ الإِنسَانَ
يَسترِيحُ إلى البَقَاءِ فَيهِ، ويَحِنُّ إِليهِ إذَا غَابَ عَنهُ، ويُدَافِعُ عَنهُ
إذَا هُوجِمَ، ويَغضَبُ لَهُ إذَا انْتُقِصَ. حتَّى الحَيواناتُ لا تَرضَى بغَيرِ وَطنِهَا
بَدِيلاً، ومِن أَجْلِهِ تُضَحِّي بكلِّ غَالٍ ونَفِيسٍ، والطُّيورُ تَعيشُ في عُشِّهَا
في سَعادَةٍ ولا تَرضَى بغَيرِهِ ولَو كَانَ مِن حَريرٍ، والسَّمكُ يقَطَعُ آلافَ الأَميالِ
مُتنقِّلاً عَبرَ البِحَارِ والمحِيطَاتِ ثُمَّ يَعودُ إِلى وَطَنِهِ، فإذَا كَانتْ
هذِه سُنَّةُ اللهِ في المخلُوقَاتِ فَقدْ جَعَلَهَا اللهُ في فِطرَةِ الإِنسانِ، وإِلاَّ
فمَا الذِي يَجعَلُ الإِنسَانَ الذِي يَعيِشُ في الْمَنَاطِقِ شَدِيدَةِ الحَرارَةِ،
أو ذَلكَ الذي يَعِيشُ فِي القُطْبِ المتَجَمِّدِ الشَّمَالِيِّ تحتَ البَردِ القَارِسِ
الدَّائمِ، أو ذَلكَ الذي يَعيِشُ في الغَاباتِ والأَدغَالِ يُعَانِي مِن مَخاطِرِ
الحَياةِ كلَّ يَومٍ، مَا الذِي جَعلَهُم يَتحمَّلُونَ كلَّ ذَلكَ إلا حُبُّهُمْ لِوطَنِهِم
ودِيَارِهِم!.
ومِنْ خِلاَلِ نُصُوصِ القُرآنِ الكَرِيمِ، نَجِدُ أَنَّ حُبَّ الوَطَنِ
غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ لاَ تُعَادِلُها إِلاَّ غَرِيزَةُ حُبِّ الحَيَاةِ، وكَأَنَّ
الوَطَنَ يُسَاوِي الحَيَاةَ بِالنِّسْبَةِ للإِنْسَانِ، فَقَدْ قَرَنَ تَعَالَى النَّهْيَ
عَنِ الإِخْرَاجِ مِنَ الوَطَنِ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ حِينَ أَخَذَ العَهْدَ
عَلَى بَعْضِ الأُمَمِ مِنْ قَبلِنَا، قَالَ تَعَالَى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
لاَ تَسفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرتُمْ
وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ)) ( البقرة) ،
♦وقَرَنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ بَيْنَ مُفَارَقَةِ
الوَطَنِ وَقَتْـلِ النَّفْسِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ” وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ
مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا “، [النِّسَاءِ ]
♦ومدحَ سُبحانَه المهاجرينَ بتضحيتِهم وتركِهم لأوطانِهم في سبيلِ اللهِ
-تعالى- (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الْحَشْرِ ].
♦وَنَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُدَاهَنَةِ مَنْ يَسْعَى لإِيذَاءِ النَّاسِ
وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ أَوْطَانِهِمْ فَقَالَ: ” لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ “، (الحشر)
♦ولَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ الوَطَنِ فِي النَّفْسِ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ
فِرَاقُهُ عَلَى القَلْبِ مُؤْلِمًا، نَجِدُ أَنَّ أَعَدَاءَ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ
يُهَدِّدُونَ أَنْبِياءَهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ
نِعْمَةِ الوَطَنِ، قَالَ تَعَالَى في سورة إبراهيم : ” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى
إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ “، وهَذَا شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلامُ-
قَالَ لَهُ المَلأُ الَّذِينَ استَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِه كما في سورة الأعراف : ” لَنُخْرِجَنَّكَ
يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ” ، وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ لُوطٌ -عَلَيْهِ
السَّلامُ- وَمَنْ مَعَهُ قَالَ عَنْهُمْ قَومُهُمْ كما في سورة النمل
” أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ“
♦♦عبادَ الله ِ: وَقَدْ لاقَى سَيِّدُ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ
هَذَا النَّوْعَ مِنَ الإِيذَاءِ البَلِيغ ِ، فَهَا هُوَ كما في الصَّحِيحَينِ"
لَمَّا أَخبرَ وَرقَةُ بنُ نَوفَلٍ رَسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أنَّ قَومَهُ
-وهُم قُريشٌ- مُخرِجُوهُ مِن مَكَّةَ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَوَ مُخْرِجِيَّ
هُمْ»، قَالَ وَرقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ
إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ
لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ .
♦قَالَ السُّهَيْلِيُّ رحمه اللهُ: "يُؤخذُ مِنهُ شِدَّةَ مُفارَقَةِ
الوَطَنِ على النَّفسِ؛ فإنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلم سَمِعَ قَولَ وَرقةَ أَنَّهُم
يُؤذُونَهُ ويُكذِّبُونَه فلَم يَظهَرْ مِنهُ انزِعَاجٌ لِذلكَ، فلمَّا ذَكرَ لَهُ
الإخراجَ تَحرَّكتْ نَفسُهُ لحبِّ الوَطنِ وإِلْفِهِ، فقالَ: "أوَ مخرجِيَّ هُم؟!".ولِهذَا
طَمأَنَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ صلى اللهُ عليه وسلم وأنزلَ عليهِ قَولَهُ: {إِنَّ الَّذِي
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضي اللهُ
عنهما: أَيْ رَادُّكَ إلى مَكةَ. رواه البخاريُّ.
♦وكانَ صلى الله عليه وسلم يُحبُّ مَكةَ حُباً شَديداً، كما أَخْرَجَ
الْإمَامُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ»، وَابْنُ مَاجَه، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ
فِي«الْمُسْتَدْرَكِ»، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ
الْحَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْحَزْوَرَةِ، يَقُولُ: «وَاللَّهِ إِنَّكِ
لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي
أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» قال الإمام الحاكم في المستدرك: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ».
الْحَزْوَرَةِ كَانَ سُوقَ مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أُدْخِلَ
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ-.
♦ثُمَّ لَمَّا هاجرَ إلى المدينةِ واستَوطَنَ بِهَا أَحبَّهَا وأَلِفَهَا
كمَا أَحبَّ مَكةَ، بلْ كَانَ يَدعُو أَنْ يَرْزُقَهُ اللهَ حُبَّها ،
كمَا في "صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ": "اللَّهُمَّ حَبِّبْ
إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ"، ودعَا عليه الصلاةُ
والسلامُ بالبركةِ فيها وفي رِزقِهَا كمَا دعَا إبراهيمُ عليه السلامُ لِمَكةَ ،
♦وكذلكَ كانَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إذَا خَرجَ مِنَ المدينةِ
لِغزوَةٍ أَو نَحوِهَا تَحَرَّكتْ نَفسُهُ إليهَا؛ فعَن أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي اللهُ
عنه قالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ
مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ، أَوْضَعَ نَاقَتَهُ -أي أَسْرَعَ بِهَا-،
وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا".. رواهُ البُخاريُّ. قالَ
ابنُ حَجرٍ في "الفَتحِ": "فيهِ دَلَالَةٌ علَى فَضلِ المدينةِ وعلَى
مَشروعيةِ حُبِّ الوَطَنِ والحَنينِ إليهِ".
♦وقالَ الحافظُ الذهبيُّ - مُعَدِّدًا طائفةً منْ مَحبُوباتِ رسولِ اللهِ
صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: "وكانَ يُحِبُّ عَائشةَ، ويُحبُّ أَبَاهَا، ويُحِبُّ أسامةَ،
ويُحِبُّ سِبْطَيْهِ، ويُحِبُّ الحَلواءَ والعَسَلَ، ويُحِبُّ جَبَلَ أُحُدٍ، ويُحِبُّ
وَطَنَهُ".
♦♦وفيِ "تَاريخِ مَكَّةَ" للأَزْرقِيِّ والإصابة لابن حجر
، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَدِمَ أَصِيلٌ الْغِفَارِيُّ قَبْلَ أَنْ
يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَصِيلُ، كَيْفَ
عَهِدْتَ مَكَّةَ؟ قَالَ: عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا
قَالَتْ: أَقِمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ
يَلْبَثْ أَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ:
«يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟» قَالَ: وَاللَّهِ عَهِدْتُهَا قَدْ أَخْصَبَ
جَنَابُهَا، وَابْيَضَّتْ بَطْحَاؤُهَا، وَأَغْدَقَ إِذْخِرُهَا، وَأُسْلِتَ ثُمَامُهَا،
وَأَمَشَّ سَلَمُهَا فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَصِيلُ لَا تُحْزِنَّا». أرأيت كيف عبر
النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن حبه وحنينه إلى وطنه فإن ذكر بلده الحبيب
-الذي ولد فيه، ونشأ تحت سمائه وفوق أرضه، وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه- أمامه
يثير لواعج شوقه، ويذكي جمرة حنينه إلى موطنه الحبيب الأثير العزيز!!
♦♦صُوَر حُب الوَطَن والوَفَاءِ له♦♦
أيها المسلمون: وإذَا كَانتْ مَحبَّةُ الأرضِ والوَطَنِ سُلُوكًا فطريًّا،
فإِنَّ لِحُبِّ الوَطَنِ والوَفَاءِ له صُوَرَاً مُتَعَدِّدةً، وأَشْكَالاً
مُتَنَوِّعَةً، وأَشْرَقُ هَذِهِ الصُّورِ وأَجْلاَها، وَأَهَمُّ تِلْكَ المَجَالاتِ
وأَعْلاَها،
♦♦ أولاً ♦
المحافظة على تدين المجتمع وأخلاقه وقيمه ببناء الإنسان أولاً، عقيدة
وثقافة وفكرًا وأخلاقًا واقتصادًا ، صيانة له من الإهلاك والعذاب، فكل بلدة فسقت واستخدمت
نعم الله في العصيان أُهلكت وعُذبت، مصداق ذلك قول الله -عز وجل-: (وَإِذَا أَرَدْنَا
أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء ]، وقوله -عز من قائل-: (وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ
كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل ]
وكما قال الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى. فليس من مصلحة المجتمع انتشار
الفواحش والأخلاق الفاسدة والميوعة القاتلة للشباب والبنات، فكيف تُبنى المجتمعات بأيدي
ونفوس مريضة أخلاقيًّا، هي لا تثبت أمام الشهوات، فكيف تثبت أمام الأعداء وأمام مخططاتهم؟!!
فلا بد من معاقبة المفسدين، والمجرمين، ولا بد من محاسبة الذين يبثون الفواحش والآثام
في المجتمع.
فالإنسان هو أول ركن رئيس في أي خطة للبناء في البلدان والأوطان ، وكما
يقولون: (بناء الإنسان مقدّم على بناء العمران) فهو أساس التقدّم، وهو عمود الرقيّ،
وهو ركن التحضّر، والله كرّمه، وحرّم الاعتداء على دين الإنسان، وماله، ونفسه، وعِرْضِه،
وبدنِه، وأرضِه، وعقلِه
♦♦ثانيًا ♦
ومن صُوَر الوَفَاءِ لِلوَطَن ،
بناء الوطن وتعميره والترقي به : فقد حثنا الإسلام على تعمير الوطن بكل
أنواع التعمير، فقال رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-: “ إن قامت الساعة وبيد أحدكم
فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”(أحمد)، وقال -صلى الله عليه وسلم-:
“ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان
له به صدقة”(متفق عليه)، ومثل الزراعة الصناعة والتجارة…
♦♦ولَئِنْ كَانَتِ المُسَاهَمَةُ فِي بِنَاءِ الوَطَنِ وَاجِباً عَلَى
مُوَاطِنِيهِ، فَإِنَّ المُحَافَظَةَ عَلَى مُنْجَزَاتِهِ مِنْ أَعْظَمِ مَسْئولِيَّات
قَاطِنِيهِ، وَذَلِكَ بِحُسْنِ استِغْلاَلِها، وصَحِيحِ استِعْمَالِها، فَإِنَّ المَرَافِقَ
الخدمِيَّةَ، والمُؤَسَّساتِ الوَطَنِيَّةَ، والهَيئَاتِ العِلْمِيَّةَ، كُلُّهَا مُنْجَزَاتٌ
لِلْوَطَنِ وَأَجْيَالِهِ، وحُقُوقٌ لِلْبَلَدِ وَكَافَّةِ عِيَالِهِ، فَهِيَ لَيْسَتْ
لِجِيلٍ دُونَ سِوَاهُ، وَلاَ لِفَرِيقٍ دُونَ عَدَاهُ، وَالكُلُّ فِي أَحَقِّيَّةِ
الانْتِفَاعِ بِهَا سَواءٌ، لِذَا كَانَ مِنَ الوَفَاءِ وَالأَمَانَةِ، المُحَافَظَةُ
عَلَيْهَا وَالصِّيَانَةُ، بِأَنْ يَحْرِصَ كُلُّ مُوَاطِنٍ عَلَى سَلاَمَتِها، ويَتَجَنَّبَ
الاستِئْثَارَ بِها واحتِكَارَها، بَلْ نَصَّ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه
وسلم- عَلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ جَعَلَ لِلمُحتَاجِ حَقّاً فِي المَصَالِحِ
الخَاصَّةِ والأَمْلاَكِ الشَّخْصِيَّةِ لِلأَغْنِياءِ مِمَّا فَضَلَ عَنِ احتِيَاجَاتِهِم،
فَأَمَرَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ أَنْ يَعُودَ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ
لَهُ، ومَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ أَنْ يَمنحَهُ لِمَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، قَالَ
رَاوِي الحَدِيثِ: ((حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لِيْسَ لأَحَدٍ حَقٌّ فِي فَضْلٍ)).
وقد مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأشعريين قائلًا: “إن الأشعريين
إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد،
ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، بالسوية، فهم مني وأنا منهم”(متفق عليه
♦♦ثالثًا ♦
ومن صُوَر الوَفَاءِ لِلوَطَن ،
المُسَاهَمَةُ فِي النُّهُوضِ بِالمُؤَسَّسَاتِ العِلْمِيَّةِ، ومَرَافِقِها
الخدمِيَّةِ، وَلَئِنْ كَانَ لأَصْحَابِ الأَمْوَالِ بَاعٌ فِي إِنْشَاءِ بُنْيَتِها
التَّحتِيَّةِ، فَإِنَّ لِذَوِي العِلْمِ والكَفَاءَاتِ، وأَصْحَابِ المَعَارِفِ والدِّرَاسَاتِ،
وحُذَّاقِ المِهَنِ والخبْرَاتِ، مُهِمَّةَ بَذْلِ العِلْمِ والإِرشَادِ، والإِيضَاحِ
والتَّبْيينِ لِمَا فِيهِ مَصلَحَةُ العِبَادِ،
وذلك بتوظيف الكفاءات ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ
هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ»
ذكره الإمام الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ
وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ».
فَإِنَّ وَفْرَةَ المَالِ يَجِبُ أَنْ تُصَاحِبَها نَهْضَةٌ عِلْمِيَّةٌ
تُنِيرُ طَرِيقَ الوَطَنِ وتُشْرِقُ بِها رُبُوعُهُ، ويَعْرِفُ الحقَّ بِها أَفْرَادُهُ
وجُمُوعُهُ، قَالَ تَعَالَى: ((وَإِذ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ))(آل عمران )، إِنَّ عَلَى أَهلِ العِلْمِ
مَسْئولِيَّةً عَظِيمَةً فِي بِنَاءِ الأَوْطَانِ، وتَوفِيرِ النُّصْحِ والرَّخَاءِ
لِبَنِي الإِنْسَانِ، وهَذِهِ مُهِمَّةُ الأَنْبِياءِ، ورِسَالَةُ الأَصفِياءِ -عَلَيْهِمُ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وهِيَ اليَوْمُ مُهِمَّةُ العُظَمَاءِ الذِينَ استَحَقُّوا
التَّقْدِيرَ والاحتِرَامَ
♦♦رابعًا ♦♦
ومن صُوَر الوَفَاءِ لِلوَطَن ،
عَدَمَ الإتْيَانِ بِمَا مِنْ شَأنِهِ المِسَاسُ بِوَحْدَتِهِ وَلُحْمَتِهِ،
فَوَحْدَةُ الصَّفِّ غَايَةٌ مُقَدَّسَةٌ فِي الإِسْلاَمِ، ولأَجْلِهَا
فُرِضَتِ الفَرَائِضُ وشُرِعَتِ الأَحكَامُ ،قال تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران ]، وقال عز وجل-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً ) الأنبياء
وتَدَبَّروا فِي مَعَانِي أَركَانِ الإِسْلاَمِ تَجِدُوا فِيَها زَاداً
لِلإِتِلاَفِ، وَبَلْسَماً مِنَ الفُرقَةِوَالخِلاَفِ،
وَهَذَا مَا حَرَصَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا الكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم
وَهُو يَضَعُ أُسُسَ الدَّوْلَةِ المُسْلِمَةِ فِي المَدِينَةِ، فَآخَى بَينَ المُهَاجِرِينَ
وَالأَنْصَارِ، وَوَضَعَ وَثِيقَةَ المَدِينَةِ، وَبَثَّ رُوحَ التَّآلُفِ وَالمَحَبَّةِ.
يقول رسول الله -:“ مثَلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم
كمثَلِ الجسَدِ الواحِدِ، إذا اشتَكَى مِنه عُضوٌ تداعَى له سائِرُ الجسَدِ بالحُمَّى
والسَّهر“(متفق عليه).
♦♦ذلك لأن التَّفْرِقَةُ والتَّشَرْذُمُ -لأَيِّ اعْتِبَارٍ ْ- وَبَالٌ
وَمَهْلَكَةٌ، لأَجْلِ ذَلِكَ حَذَّرَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ مِنْهَا كَثيرًا فِي كِتَابِهِ،
يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “، وَقَدْ
أَخْبَرَ المُصْطَفَى فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوقِفٍ عَلَى أَهَمِّـيَّةِ التَّآلُفِ وَخُطُورَةِ
التَّفْرِقَةِ وَالتَّنَازُعِ،
فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ
الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ»، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ،
فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ»، وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ الحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ
الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ». رواه الترمذي وصححه الألباني
فَكَمْ أُهْـلِكَتْ مِنْ قَبْلِنا أُمَمٌ بِسَبَبِ تَنَازُعِهِا، وَامَّحَتْ
حَضَارَاتٌ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ أَهْـلِهَا.
♦♦عِبَادَ اللهِ : وإِنَّ هُنَاكَ مَنْ لا يَحْـلُو لَهُمْ إِلاَّ قَطْعُ
حِبَالِ تَآلُفِكُمْ، وَتَمْزِيقُ أَوْصَالِ وَحدَتِكُمْ، وَهَدْمُ بِنَاءِ دَوْلَتِكُمْ،
فَلا يَفْتَؤُونَ يَنْشُرُونَ الشَّائِعَاتِ، وَيَبُثُّونَ الافْتِرَاءَاتِ، لأَجْـلِ
إِضْعَافِ مَنْزِلَةِ الوَطَنِ فِي النُّفُوسِ، وَهَدْمِ الشُّعُورِ بِالاعتِزَازِ
بِهِ، مُسْتَغِلِّينَ فِي ذَلِك التِّقْنِيَّةَ الحَدِيثَةَ وَوَسَائِلَ التَّوَاصُلِ
الاجْـتِمَاعِيِّ. فَاحْذَرُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- مِنْ أَنْ تَصْـنَعُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ
لِهَؤُلاءِ أَبْوَاقًا، أَوْ أَنْ تَجْعَلُوا نَوَادِيَكُمْ لِبِضَاعَتِهِمْ أَسْوَاقًا،
♦♦خامسًا♦♦
وَإِنَّ مِنَ صُوَر الوَفَاءِ لِلوَطَنِ الوقُوفَ بِحَزْمٍ وَصَرَامَةٍ
فِي وَجْهِ الأَفْكَارِ الدَّخِيلَةِ ومُرَوِّجِيها، والتَّصَدِّي لِلثَّقَافَةِ السَّقِيمَةِ
ونَاشِرِيها، تِلْكَ الأَفْكَارُ التِي تُؤَسَّسُ عَلَى مَبْدءِ الإِقْصَاءِ لِلآخَرِ،
واعتِبَارِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَجْ مَنْهَجِي فَهُوَ مُفَارَقٌ.
وإِنَّ العَبَثَ بِالمُنْجَزَاتِ، وتَعْطِيلَ المَرَافِقِ وَالخَدَمَاتِ،
وَزَعْزَعَةَ وحْدَةِ المُجتَمَعات، كُلُّهَا مِنْ خِيَانَةِ الأَمَانَةِ وَالإِفْسَادِ
فِي الأَرْضِ، تَوَعَّدَ اللهُ عَلَيْها أَلِيمَ العَذَابِ، وَأَعَدَّ لِمُرتَكِبِيها
شَدِيدَ العِقَابِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ((إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (المائده)
♦♦وَلأَجْـلِ هَذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنِ الوَطَنِ وَالذَّوْدُ عَنْ
حِمَاهُ وَمُقَارَعَةُ الأَعْـدَاءِ مِنْ أَعْـظَمِ المَوَاطِنِ الَّتِي تُبْذَلُ فِيهَا
الأَرْوَاحُ وَتُقَدَّمُ فِيهَا الدِّمَاءُ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ عَنِ المَلإِ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ: ” قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ “( البقرة
) وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ عَنِ الرَّعِيلِ الأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ: ” أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
” .( الحج)
احبتي الكرام:
♦♦وإن حدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره، لا تقتصر على
حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء؛ بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد
إلى الأقطار الإسلامية الأخرى.
فَأَيْنَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِي بَلَدٍ
عَدَدْتُ ذَاكَ الحِمَى مِنْ صُلْبِ أَوْطَانِي
وصدق من قال :
وللأوطان في دمِ كلِ حُرٍ
يدٌ سلفت ودينٌ مستحقُ
♦وقد حكم الشرع على من قاتل أو دافع عمّا يملكه من أرض، أو مال أو عقار
أو ما شابه ذلك، فقتل فهو شهيد عند الله سبحانه وتعالى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ
دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وفي رواية: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ مَظْلُومًا فَلَهُ الْجَنَّةُ"
وفي رواية: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"صحيح
الجامع
♦وَعَنْ مُخَارِقِ بْنِ سَلِيمٍ رضي الله عنه قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ
رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْرِقَنِي، أَوْ يَأخُذَ مِنِّي مَالِي؟!) قَالَ: ("لَا
تُعْطِهِ مَالَكَ")، وفي رواية:("ذَكِّرْهُ بِاللهِ")، قَالَ: (أَرَأَيْتَ
إِنْ ذَكَّرْتُهُ بِاللهِ فَلَمْ يَنْتَهِ؟!) قَالَ:("فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ
حَوْلَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"). قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ؟!) قَالَ:("فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ")، قَالَ:
(فَإِنْ نَأَى السُّلْطَانُ عَنِّي؟!) -مراكز الشرطة بعيدة، وهذا يريد أن يأخذ ماله-
قَالَ:("قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ")، قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟) قَالَ:("فَأَنْتَ
شَهِيدٌ")، قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟) قَالَ:("هُوَ فِي النَّارِ").رواه
مسلم ،
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وحَافِظُوا عَلَى لُحْمَةِ بِنَائِكُمْ
وَوَحْدَةِ صَفِّكُم، وشَمِّرُوا سَوَاعِدَكُم فِي الرُّقِيِّ بِوَطَنِكُم، وابْذُلُوا
لَهُ طَاقَاتِكُمْ، يُبَارِكِ اللهُ في سَعْيِكُمْ وأَعْمَارِكُم.
♦♦سادسًا ♦
ومن صُوَر الوَفَاءِ لِلوَطَنِ وَالإِخْلاَص له،
كثرة الدعاء إذ أن الدعاءُ تعبيرٌ صادق عن مكنون الفؤاد، ولا يخالطه
كذبٌ، أو مبالغة، أو نفاق؛ لأنه علاقة مباشرة مع الله.
ولقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة، كما في "الصحيحين":
((اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلتَ بمكة من البركة))؛ رواه البخاري ومسلم.
وفي مسلم: ((اللهم باركْ لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك
لنا في صاعِنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلُك ونبيُّك، وإني
عبدُك ونبيُّك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه))؛
رواه مسلم.
وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام
أنه دعا لمكة المكرمة بهذا الدعاء، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة ].
ودعاء إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام يُظهِر ما يفيض به قلبُه، مِن حبٍّ
لمستقر عبادته، وموطن أهله.
ولقد دعا بالأمن والرِّزق، وهما أهم عوامل البقاء، وإذا فُقِد أحدُهما
أو كلاهما فُقِدت مقوماتُ السعادة، فتُهجَر الأوطانُ، وتَعُود الديارُ خاليةً من مظاهر
الحياة؛
أسال اللَّه العلي القدير ان ينْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء
وَأَن يخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وأنَ يبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا
وكُلِّ أَرزَاقِنَا اقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية :
** *** ***
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ فِي أَدَاءِ رِسَالَتِهِ، وَوَصَفَهُ بِعَظِيمِ الخُلُقِ فِي شَخْصِهِ وَمُعَامَلَتِهِ،
وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ذُو الإِحْسَانِ
وَالكَرَمِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَاءَ لِلأَخْلاقِ
مُتَمِّمًا، وَلِلسُّـلُوكِ مُقَوِّمًا، وَلِلبَشَرِيَّةِ هَادِيًا وَمُعَلِّمًا، صلى
الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجمَعِينَ، وَمَنِ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ
إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.أما بعد
♦♦♦♦♦♦♦
اغْرِسُوا فِي أَبنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالاعتِزَازَ به
♦♦♦♦♦♦♦
أيها المسلمون: هذه قصة تعبر عن روح حب الوطن والحكمة ضالتنا ولا يضرنا
من أي وعاء خرجت :
♦ففي إحدى دول العالم الواقعة على البحار شيدت سدود حجرية تصد البحر
عن السكان الذين طالما عانوا من الأمواج وهجمات المياه وكان التفقد الدائم للسدود وسد
أية ثغرة تحصل فيها مهمة أساسية لا يفرط بها بحال وإلا فهو الهلاك.. وفي أحد الأيام
كان هناك طفل صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره يتمشى قبل الغروب عند أحد السدود ولاحظ
أن هناك تسربا للماء من فتحة صغيرة.. ونظر الطفل حوله.. كان الظلام قد بدأ بالانتشار
ولم يكن هناك أحد يسمعه.. واستيقظ حس الطفل للحفاظ على أمته وشعر بالخطر الجسيم الذي
ربما سيحصل لو أن هذه الفتحة قد توسعت وتدفق منها الماء.. وربما كان الأمر أبسط مما
تصوره الصغير ولكن روح الالتزام بحفظ أمته وبلاده وأرضه وشعبه أبت عليه مغادرة المكان..
واحتار الصغير ماذا يفعل وخيم الظلام.. وخطرت بباله فكرة.. مد يده تجاه الفتحة التي
يتدفق منها الماء.. كانت الفتحة في حجم قبضته الصغيرة تماما.. ومد يده الى داخلها قدر
استطاعته وتوقف تدفق الماء وابتسم الصغير وغمرت قلبه سعادة غامرة بأنه يشارك في الدفاع
عن أمته ضد خطر الأمواج والغرق.. وتكور الطفل على نفسه والبرد يزداد ويزداد ويده تتجمد
بالتدريج بسبب برودة المياه وبرودة الجو.. ومضت الساعات والطفل في موقعه.. كان البرد
شديدا فلم يمر بالموقع أحد لتفقده.. وقلق أهل الطفل عليه.. ومع خيوط الفجر.. وجد حرس
الشاطىء طفلا صغيرا وقد دفع بيده وذراعه بأقصى مايستطيع في فتحة كانت تتسرب منها المياه..
لم تكن هناك قطرة بإمكانها أن تمر .. وذهل الحراس لوجه الطفل البارد الشاحب.. وعندما
وضع أحدهم يده على الطفل ارتد مذعورا لقد كان متجمدا من البرد وقد انطفأت فيه شعلة
الحياة.. ولكن كانت ترتسم على وجهه أمارات الرضا والسعادة.. وتزينه ابتسامة وديعة تقول
لمن بعده : لقد مت من أجل أن أهب لبلادي الحياة.
فاغْرِسُوا فِي أَبنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالاعتِزَازَ به
♦أيها الإخوة الأفاضل: فإني أقرر أنَّ حبَّ الوطن والحنين إليه أمر غريزي
فطري لا يحظره الإسلام، ولكن بشرط أن لا يكون الوطن أحبَّ إلى المرء من الله ورسوله
وجهاد في سبيله؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة ]
♦ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية : وفي الآية دليل على وجوب حب الله
ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب.
♦♦وهذه الآية لا تنفي باقي المحبوبات بل تؤكدها♦♦
والإشكال يحصل إن قدم المسلم أياً من محبوباته على محبة الله ورسوله
(فالله تعالي لم ينكر علينا هذه الروابط وماينشأ عنها من حب ، ولكنه أنكر علينا أن
يكون هذا الحب أكبر من حبنا لله ورسوله ) .
وإنّ الدين الإسلاميّ لا يستنكر ولا يرفض حب الوطن، وأن يعيش الإنسان
محبًّا لبلده؛ بل وجدناه يشجع أيّما تشجيع على حبّ الأوطان ويخلّد ذكر المحبين لأوطانهم؛
فهذا بلال لم يُعرف في تاريخ الإسلام إلا بنسبته إلى وطنه: بلال الحبشي، وصهيب الروميّ،
وسلمان الفارسيّ، والطفيل الدوسيّ، فقد ظلّ كل هؤلاء بنسبتهم إلى أوطانه، ظل بلال حبشيًّا،
وصهيب روميًّا، وسلمان فارسيًّا، والطفيل دوسيًّا، لكنهم ما نَسَوْا انتماءهم الأساس
والأعظم إلى رسالة الإسلام، وما يتعارض هذا مع ذاك، وما طُلِب منهم لإثبات وطنيتهم
للبلد الجديد أن يتنازلوا عن جنسيتهم الأصليّة!!
فَاتَّقُوا اللهَ – أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ- وَقِفُوا صَفًّا واحِدًا
فِي وَجْهِ كُلِّ مُرْجِفٍ، وَتَنَبَّهُوا لِسَعْيِ كُلِّ مُفْسِدٍ، واغْرِسُوا فِي
أَبنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالاعتِزَازَ بِإِنْجَازَاتِهِ الحَاضِرَةِ وَمَجْدِهِ
التَّلِيدِ، حَتَّى يُحَقِّقُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَى المُوَاطَنَةِ الصَّالِحَةِ،
فَهُمْ أَمَلُ الوَطَنِ وَبُنَاةُ الغَدِ.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ.اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، َالْمُسْلِمِيْنَ
وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ
مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ: ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ “.
وأقم الصلاة .
تعليقات: (0) إضافة تعليق