الحمد لله العفو الغفور لا تنقضي نعمه
ولا تحصى على مر الدهور وسع الخلائق حلمُه مَهما ارتكبوا من شرور سبقت رحمته غضبه
من قبل خلق الأيام والشهور، يتوب على من تاب ويغفر لمن أناب ويجبر المكسور
نحمده تبارك وتعالى حمد القانع الشكور ونعوذ بنور وجهه الكريم من الكفر والفجور.
وأشهد أن لا إله إلا الله جعل الظلمات
والنور، خلق
سبع سمواتٍ طباقاً ما ترى فيها من تفاوت أو فطور.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله
المرفوع ذكره في التوراة والإنجيل في الزبور
المزمل بالفضيلة والمدثر بالطهر والعفاف والمبرأ من الشرور
فاللهم صلى وسلم وزد وبارك عليه وعلى
آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى اثره الى يوم الدين .
العناصر
أولًا: الترغيب في العفو
ثانيًا: أقوال السلف في العفو
ثالثًا: نماذج على العفو
الموضوع
وقال الكفويّ: العفو: كفّ الضّرر مع القدرة عليه، وكلّ من
استحقّ عقوبة فتركها فهذا التّرك عفو ، وقال أيضا: العفو عن الذّنب
يصحّ رجوعه إلى ترك ما يستحقّه المذنب من العقوبة، وإلى محو الذّنب، وإلى الإعراض
عن المؤاخذة كما يعرض المرء عمّا يسهل على النّفس بذله، ، إلا أن الصفح أبلغ من
العفو، فقد يعفوا الإنسان ولا يصفح، وصفحت عنه أوليته صفحة جميلة، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاصْفَحْ
عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُون ﴾ الزخرف: 89 ([2])
أولًا: الترغيب في العفو
صفة من صفات الله: قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } [سورة
النساء:43] ، وقال تعالى: {وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا } [سورة النساء:99] قال الغزاليّ: والعفوّ صفة من صفات
الله تعالى، وهو الّذي يمحو السّيّئات ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور،
ولكنّه أبلغ منه فإنّ الغفران ينبأ عن السّتر، والعفو ينبأ عن المحو، والمحو أبلغ
من السّتر. وحظّ العبد من ذلك لا يخفى وهو أن يعفو عن كلّ من ظلمه بل يحسن إليه
كما يرى الله تعالى محسنا في الدّنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة.
بل ربّما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم، وإذا تاب عليهم محا سيّئاتهم، إذ التّائب من
الذّنب كمن لا ذنب له. وهذا غاية المحو للجناية ([3]) .
وقال ابن القيّم- رحمه الله- تعالى: ومن
حكمة الله- عزّ وجلّ- تعريفه عبده أنّه لا سبيل له إلى النّجاة إلّا بعفوه
ومغفرته- جلّ وعلا- وأنّه رهين بحقّه، فإن لم يتغمّده بعفوه ومغفرته، وإلّا فهو من
الهالكين لا محالة فليس أحد من خلقه إلّا وهو محتاج إلى عفوه ومغفرته كما هو محتاج
إلى فضله ورحمته ([4])
وعن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-
قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله- تعالى- حدّثنا بها رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (الشورى/ 30) . وسأفسّرها لك يا عليّ: «ما
أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدّنيا فبما كسبت أيديكم، والله- تعالى- أكرم
من أن يثنّي عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله- تعالى- عنه في الدّنيا فالله-
تعالى- أحلم من أن يعود بعد عفوه» ([5])
من صفات النبي ﷺ: قال تعالى: {فَبِمَا
رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ
مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ
فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ
} [سورة آل عمران:159] أي فبرحمة من
الله لك ولأصحابك -أيها النبي- منَّ الله عليك فكنت رفيقًا بهم، ولو كنت سيِّئ
الخُلق قاسي القلب، لانْصَرَفَ أصحابك من حولك، فلا تؤاخذهم بما كان منهم في غزوة
«أُحد» ، واسأل الله -أيها النبي- أن يغفر لهم، وشاورهم في الأمور التي تحتاج إلى
مشورة، فإذا عزمت على أمر من الأمور -بعد الاستشارة- فأَمْضِه معتمدًا على الله
وحده، إن الله يحب المتوكلين عليه ([6]).
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ:
لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قُلْتُ:
أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ؟
قَالَ: " أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ
فِي القُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي
وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ
فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ([7])(حرزا
للأميين) حصنا للعرب. (المتوكل) المعتمد على الله تعالى. (بفظ) سيء الخلق. (غليظ)
شديد في القول. (سخاب) يرفع صوته على الناس.
من صفات المؤمنين: قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ
(37)﴾ سورة الشورى
وإذا ما غضبوا على مَن أساء إليهم هم يغفرون الإساءة،
ويصفحون عن عقوبة المسيء؛ طلبًا لثواب الله تعالى وعفوه، وهذا من محاسن الأخلاق.
من صفات الصالحين: ففي عهد الخليفة المعتصم سجن الإمام
أحمد بن حنبل وضرب بالسياط حتى أُغمي عليه، وسال الدم من جسده، وكان يقول: قد
جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم - في حل، وعفا عنه، وسجن الإمام مالك، وضرب بالسياط
حتى انخلعت يده من كتفه، فعفا عمن ضربه. والمواقف في العفو كثيرة عند التتبع.
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ أَحَدٍ
بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ، أَوْ ظُلْمِهِ، وَعُدْوَانِهِ، فَإِنِّي قَدْ
أَحْلَلْتُ كُلَّ مُسْلِمٍ، وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ،
وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي. وَالَّذِينَ
كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي ([8])
.
أمر الله به: قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم
مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ
بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ } [سورة
البقرة:109] أي تمنى
كثير من أهل الكتاب أن يرجعوكم بعد إيمانكم كفارًا كما كنتم من قبلُ تعبدون
الأصنام، بسبب الحقد الذي امتلأت به نفوسهم من بعد ما تبيَّن لهم صدق نبي الله
ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فتجاوزوا عمَّا كان منهم من إساءة
وخطأ، واصفحوا عن جهلهم، حتى يأتي الله بحكمه فيهم بقتالهم (وقد جاء ووقع) ،
وسيعاقبهم لسوء أفعالهم. إن الله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ([9]).
وقال تعالى: {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ
وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ } [سورة الأعراف:199] اقْبَلْ
-أيها النبي أنت وأمتك- الفضل من أخلاق الناس وأعمالهم، ولا تطلب منهم ما يشق
عليهم حتى لا ينفروا، وأْمر بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل، وأعرض عن منازعة السفهاء
ومساواة الجهلة الأغبياء ([10]).
دخول الجنات: قال تعالى: { وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ
إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ
جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)} [سورة آل
عمران]
مغفرة الله:
قال تعالى: {وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ
مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ
فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن
يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٢٢} [سورة
النور:22] ، {وَلَا يَأْتَلِ} مِنَ الألية
وهي الحلف أي لا يحلف {أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ} أَيِ الطَّوْلِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْإِحْسَانِ. {وَالسَّعَةِ} أَيِ الْجِدَةِ {أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ لَا تَحْلِفُوا أن
لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين، وهذا فِي غَايَةِ التَّرَفُّقِ
وَالْعَطْفِ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، ولهذا قال تعالى: {وَلْيَعْفُواْ
وَلْيَصْفَحُوا} أَيْ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْأَذَى،
وَهَذَا مِنْ حِلْمِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم، وهذه
الآيات نزلت في (الصدّيق) رضي الله عنه، حين حلف أن لا ينفع (مسطح بن أثاثة)
بنافعة أبداً، بَعْدَمَا قَالَ فِي عَائِشَةَ مَا قَالَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
الْحَدِيثِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ،
وَطَابَتِ النُّفُوسُ الْمُؤْمِنَةُ وَاسْتَقَرَّتْ، وتاب الله عليّ من تَكَلَّمَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ،
شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ - يُعْطِّفُ الصِّدِّيقَ
عَلَى قَرِيبِهِ وَنَسِيبِهِ، وَهُوَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ
ابْنَ خَالَةِ الصَّدِيقِ، وَكَانَ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ إِلَّا مَا يُنْفِقُ
عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي
سبيل الله وقد زلق زلقة تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَضُرِبَ الْحَدَّ
عَلَيْهَا، وَكَانَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْرُوفًا بِالْمَعْرُوفِ،
لَهُ الْفَضْلُ وَالْأَيَادِي عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، فَلَمَّا نزلت
هذه الآية، قال الصديق: بلى والله إنا نحب ان تغفر لنا يا ربنا، ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا
أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ هُوَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتِهِ ([11]).
عفو الله ومغفرته
في كل وقت: عَنْ
أنَسٍ رضي الله عَنْهُ عَن رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ
الله تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ
لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالي. يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ
ذُنُوْبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ
أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أنَّكَ أتيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا
ثُمَّ لَقِيْتَنِى لاَ تُشْرِكُ شَيْئًا بيِ لَأتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا
مَغْفِرَةً" ([12]).
عفو الله ومغفرته
يوم القيامة: عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: فِي النَّجْوَى؟ قَالَ:
سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ،
فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ
سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ،
فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ،
فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
اللهِ " ([13])
أجره
على الله: قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾
الشورى قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كبيرًا،
وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق
العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا
به، وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق
بما يحب أن يعامله الله به، كما يحب أن يعفو الله عنه فليعف عنهم، وكما
يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل ([14])
يحبهم الله تعالى: قال
تعالى: { وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ
يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ } [سورة آل عمران:134]
من عزم الأمور: قال تعالى: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ
لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ } [سورة الشورى:43] أَيْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى وَسَتَرَ
السَّيِّئَةَ {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أَيْ لَمِنَ الْأُمُورِ
الْمَشْكُورَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَمِيدَةِ، الَّتِي عليها ثواب جزيل وثناء جميل.
وقال الفضيل بن عياض: "إِذَا
أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا فَقُلْ: يَا أَخِي اعْفُ عَنْهُ، فَإِنَّ
الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَإِنْ قَالَ: لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ،
وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَقُلْ لَهُ: إِنْ
كُنْتُ تُحْسِنُ أَنْ تَنْتَصِرَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ،
فَإِنَّهُ بَابٌ وَاسِعٌ، فَإِنَّهُ {مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ} ، وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْلِ، وصاحب
الانتصار يقلب الأمور" ([15])
أقرب
إلى خشية الله وتقواه: قال
تعالى: {وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ
مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَةٗ فَنِصۡفُ مَا
فَرَضۡتُمۡ إِلَّآ أَن يَعۡفُونَ أَوۡ يَعۡفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ
وَأَن تَعۡفُوٓاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ
إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ } [سورة البقرة:237]
وإن طلَّقتم النساء بعد العقد عليهن،
ولم تجامعوهن، ولكنكم ألزمتم أنفسكم بمهر محدد لهن، فيجب عليكم أن تعطوهن نصف
المهر المتفق عليه، إلا أنْ تُسامِح المطلقات، فيتركن نصف المهر المستحق لهن، أو
يسمح الزوج بأن يترك للمطلقة المهر كله، وتسامحكم أيها الرجال والنساء أقرب إلى
خشية الله وطاعته، ولا تنسوا -أيها الناس- الفضل والإحسان بينكم، وهو إعطاء ما ليس
بواجب عليكم، والتسامح في الحقوق. إن الله بما تعملون بصير، يُرغِّبكم في المعروف،
ويحثُّكم على الفضل ([16]).
يُورِث العزة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ،
وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ
لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» ([17])
(ما
نقصت صدقة من مال) أنه يبارك فيه ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة
الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة ، وقيل هو الثواب المرتب عليه جبر لنقصه وزيادة
إلى أضعاف كثيرة (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا) من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم
في القلوب وزاد عزه وإكرامه وقيل أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك (وما تواضع
أحد لله إلا رفعه الله) يرفعه في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة ويرفعه
الله عند الناس ويجل مكانه .
أولى الناس بعفوك:
هم الضعفاء
من الزوجات والأولاد والخدم وغيرهم ، ولهذا لما بيَّن الله أن من الأزواج والأولاد
من يكون فتنة قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14
فالإنسان من عادته أن يكون البادئ بالإحسان لزوجه وأولاده، فإذا وجد فيهم
إساءة آلمته جدًّا فلربما اشتد غضبه وصعب عليه أن يعفو ويصفح لأنه يعتبر إساءة
الأهل حينئذ نوعًا من الجحود ونكران الجميل، لهذا احتاج إلى توجيه إرشاد خاص إليه
بأن يعفو ويصفح حتى يستحق من الله المغفرة والعفو والصفح.
وأما الخدم فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كم نَعْفُو عَنِ
الْخَادِمِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ فصمتَ فلمَّا كانتِ
الثَّالثةُ قَالَ: «اعفُوا عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» ([18])
سؤال
الله العفو والمغفرة: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي
غِفَارٍ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ
اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ
أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ
الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ»، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ
وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ
الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ
الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ
وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ جَاءَهُ
الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ
الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا([19])
. (أضاة بني غفار) هي الماء المستنقع كالغدير
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ
لَيْلَةٍ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: " قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ
عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعَفُ عَنِّي)
([20])
وعن
ابن عمر قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: "اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي وَمَالِي.
اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي. اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ
بَيْنَ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي،
وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ مِنْ أَنْ أغتال من تحتي" ([21]).
يَا رَبِّ
إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً
**
فَلَقَدْ
عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كَانَ
لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ
**
فَبِمَنْ
يَلُوذُ وَيَسْتَجِيرُ المُجْرِمُ
مَا لِي
إِلَيكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا
**
وَجَمِيلُ
عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ
آثار العفـــــــو: للعفو آثار
طيبة وعظيمة على العبد الدنيا والآخرة على الفرد والمجتمع، فما ذكرنا سابقا هو
راجع في الغالب على العبد في الآخرة من الثواب العظيم والرفعة والجنة.
أما في الدنيا فراحة النفس وطمأنينة
القلب وهدوء البال وسلامة الأعصاب وصحة الجسد، وسعادته في الدنيا وهذا كله يعود
على الفرد.
أما على المجتمع: فتآلف القلوب وتماسك
الصفوف وطهارة المجتمع من أمراض الغل والحقد والحسد وقلة الجرائم من السرقة
والقتل.. غير ذلك من قلة القضايا التي تثقل كاهل القضاة في أمور تافهة من جراء عدم
العفو والصفح.
ومن الناحية النفسية: فقد ذكر علماء
النفس أن الرضا عن النفس وعن الحياة يعالج كثير من الأمراض والاضطرابات النفسية.
ثانيًا:
أقوال السلف في العفو
قال
أبو بكر رضي الله عنه : بلغنا أن الله
تعالى يأمر مناديا يوم القيامة فينادي من كان له عند الله شيء فليقم أهل العفو
فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس.
عمر الفاروق رضي الله عنه: يعفو عن الناس جميعا ويقول: كل الناس مني في حل..
إن مما يشرف الله به النيات ويرفع به الدرجات أن تحلم على من جهل عليك،
وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعــــــــك"
قال معاوية رضي الله عنه : عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة فإذا أمكنتكم
فعليكم بالصفح والإفضال، وقال: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما
قطعت إن جذبوها تبعتهم وإن جذبتها تبعوني لكي لا تنقطع.
عبدالله ابن مسعود رضي الله
عنه: ذهب ليشتري الطعام فلما أراد أن
يدفع الثمن وجد أن الدراهم سرقت فدعا الناس على السارق، فقال ابن مسعود: اللهم إن
كان ما حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان ما حمله على أخذها جراءة على
الذنوب فاجعله آخر ذنوبه.
فالمسلم هينا لينا سمحا نقيا، سهلا
عفوا قريبا من الناس، متوددا إليهم، باذلا لهم، ناصحا إياهم، ملتمسا لهم الأعذار
في تصرفاتهم.
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه
الله : " إنك إن تلقى الله
ومظلمتك كما هي ، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها.
قال
ابن القيم (رحمه الله): "يا ابن
آدم إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو وإنك تحب أن يغفرها لك الله،
فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده، وإن أحببت أن يعفو عنك فاعف أنت عن
عباده، فإنما الجزاء من جنس العمل"..
قال
المهلب بن أبي صفرة رضي الله عنه: ما شيء أبقى للملك من العفو. خير مناقب
الملك العفو.
خطب خالد بن عبد الله القسري بواسط فقال: إن أكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفواً
من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل عن قطيعة.
قال
المنتصر بالله عندما عفا عن أبي العمرّد الشاري: لذة
العفو أعذب من لذة التشفي، وأقبح فعال المقتدر الانتقام.
د. خالد أبو شادي: كم ميت في قبره يتمنى من
الله العفو وهيهات! فلنعرف قيمة ما في أيدينا من أوقات، ولنبادر قبل أن يقال: فلان
مات! اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
ثالثًا: نماذج على
العفو
عفو الله عن المعتدين: قال تعالى: {يَسَۡٔلُكَ
أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ
سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ
فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ
بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا
مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا } [سورة النساء:153]
قال السدي وَقَتَادَةُ: سَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى مَكْتُوبَةً وقال ابْنُ
جُرَيْجٍ: سَأَلُوهُ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مِنَ اللَّهِ مَكْتُوبَةً
إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَهَذَا
إِنَّمَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ
وَالْإِلْحَادِ، كَمَا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَبْلَهُمْ نَظِيرَ ذَلِكَ كَمَا
هو مذكور في سورة الإسراء: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا
مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} الْآيَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَقَدْ سَأَلُواْ
مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} ، أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ
وَعِنَادِهِمْ وَهَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حَيْثُ يَقُولُ
تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تنظرون} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أَيْ مِنْ
بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاهِرَةِ
عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ مِصْرَ، وما كان من إهلاك
عدوهم فِرْعَوْنَ وَجَمِيعِ جُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، فَمَا جَاوَزُوهُ إِلَّا
يَسِيرًا حَتَّى أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ
فَقَالُوا لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} .
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ
اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَفِي سُورَةِ
(طَهَ) بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى إِلَى مُنَاجَاةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ لَمَّا
رَجَعَ وَكَانَ مَا كَانَ، جَعَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الَّذِي صَنَعُوهُ
وَابْتَدَعُوهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ مِنْهُمْ مَنْ
عَبَدَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَحْيَاهُمُ الله عزَّ
وجلَّ، وقال الله تعالى: {فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً
مُّبِيناً} ([22])
النبي ﷺ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ
حِمَارًا، عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الحَارِثِ
بْنِ الخَزْرَجِ، وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ فِي مَجْلِسٍ
فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ
وَاليَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَفِي
المَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ المَجْلِسَ
عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ
بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ
إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا المَرْءُ، لاَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ
مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلاَ تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ،
فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ المُسْلِمُونَ
وَالمُشْرِكُونَ وَاليَهُودُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ
دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: «أَيْ سَعْدُ،
أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أُبَيٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا» قَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَاصْفَحْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ
اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ البَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ، فَيُعَصِّبُونَهُ
بِالعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ
بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ([23])
(إكاف) هو للحمار
بمنزلة السرج للفرس (قطيفة) دثار مخمل - جمعها قطائف وقطف (فدكية) منسوبة إلى فدك
بلدة معروفة على مرحلتين أو ثلاث من المدينة (عجاجة الدابة) هو ما ارتفع من غبار
حوافرها (خمر أنفه) أي غطاه (لا تغبروا علينا) أي لا تثيروا علينا الغبار (إلى رحلك) أي إلى منزلك (يخفضهم) أي يسكنهم
ويسهل الأمر بينهم (البحيرة) المراد بها هنا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم (فيعصبوه
بالعصابة) يعينوه ملكهم وكان من عادتهم إذا ملكوا إنسانا أن يتوجوه ويعصبوه (شرق
بذلك) أي غص ومعناه حسد النبي صلى الله عليه وسلم]
أبو بكر رضي الله عنه: عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ
النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ
قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ
فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّهُ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ
قَوْلِهِ غَضِبْتَ، وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ
فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ حَضَرَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ
لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ» ! ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ
كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عنها لله إلا
أعزه الله تعالى بها ونصره، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا
صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ
مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إلا زاده الله عزَّ وجلَّ بها قلة" ([24])
قال الشّافعيّ- رحمه الله-:
قالوا سكتّ وقد خوصمت قلت
لهم ... إنّ الجواب لباب الشّرّ مفتاح
فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب
... نعم وفيه لصون العرض إصلاح
إنّ
الأسود لتخشى وهي صامتة ... والكلب يحثى ويرمى وهو نبّاح
عمر بن الخطاب رضي الله عنه : عن ابْنَ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ
فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ
يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ،
كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا»، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ
أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ:
سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ
فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ»، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ،
فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ
عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ،
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ
العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]،
وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا
عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ» ([25])
الرُّبَيِّعَ بنت النَّضْرِ رضي الله عنها: عن أنس رضي الله عنه أَنَّ
الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا
الأَرْشَ، وَطَلَبُوا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ:
أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالحَقِّ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ
القِصَاصُ»، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى
اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» زَادَ الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَرَضِيَ
القَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ ([26])
(ثنية) مفرد ثنايا وهي
مقدم الأسنان. (جارية) هي المرأة الشابة هنا لا الأمة. (الأرش) دية الجراحة أو
الأطراف. (العفو) النزول عن حقهم وعدم أخذ الدية أو غيرها. (كتاب الله القصاص) حكم
كتاب الله تعالى القصاص وهو أن تكسر السن مقابل السن. (لأبره) لصدقه وحقق رغبته
لما يعلم من صدقه وإخلاصه.
قال مالك بن دينار رضي الله عنه: «أتينا منزل الحكم بن أيّوب
ليلا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن، وهو خائف فدخلنا معه عليه، فما كنّا مع
الحسن إلّا بمنزلة الفراريج، فذكر الحسن قصّة يوسف- عليه السّلام- وما صنع به
إخوته، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النّساء ومن الحبس،
ثمّ قال: أيّها الأمير، ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، ورفع
ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره
وجمع له أهله؟ قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (يوسف/ 92) ، يعرّض للحكم بالعفو عن
أصحابه، قال الحكم: فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلّا ثوبي هذا
لواريتكم تحته» ([27])
نسأل
الله تعالى العفو العافية في الدنيا والآخرة
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ أحمد أبو عيد
0109 809 58
54
نسألكم الدعاء
تعليقات: (0) إضافة تعليق