أو
الحمد لله كالذي نقول وخيرًا مما نقول، أحسن كل شيء خلقه فالكل بالعناية مشمول، قدَّر لكل موجود رزقه وكل على جناح النعمة محمول.
وأشهد أن لا إله إلا الله الحي الذي لا يَموتُ ولا يزول، المستوي على عرشه دون مماسَّة أو حلول، شهد لنفسه بالوحدانية وشهد له الملائكة والعدول، لا يَشغَله شأن عن شأن وغيره عن شأنه مشغول، لا يُعجزه شيء وكل مراد له في الكون مفعول، لا يُسأل عما يفعل وكل من عداه مسؤول، لا يَخفى عليه شيء فلا حائل دون علمه يحول، يرى ويسمع وستره على العصاة مسدول، فتح أبواب توبته لكل أسير في الإثم مغلول، لا يرد سائلًا ودعاء الصالحين لديه مقبول.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدٌ لله ورسول، تراه تحت العرش ساجدًا والخوف في نفوس الجميع يصول، سل يا محمد ما بدا لك، فمن قبل المسألة أجاب المسؤول، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على الحبيب المصطفى وعلى فروع شجرته والأصول، وعلى الصحب والآل ومن تبع، وقِنا في حبهم شر كل عزول.
العناصــــــــــــــــر
أولاً: تعريفها وصفاتها ثانياً: أقسام محاسبة النفس
ثالثا: أهمية المحاسبة رابعاً: كيفية محاسبة النفس
خامساً: حال السلف الصالح سادساً: لماذا نقصر في محاسبتنا لأنفسنا؟ وآثار فقد المحاسبة
الموضوع
أولاً: تعريفها وصفاتها
تعريف النفس: هي النفس الروحانية التي خلقه الله عز وجل والتي تقبل السلبية والايجابية والنفس البشرية منذ ما وجدت على الأرض تميل إلى حب التطلع والمعرفة وكشف المبهمات......
النفس الفطرية: وهي النفس البشرية التي خلقها الله ومتواجدة فيها صفات الفطرة مثل: حب الذات وحب الله والأكل والشرب والنوم.
النفس المكتسبة: هي النفس المكتسبة من البيئة المحيطة بالطفل حتى الكبر مثل: ا لوراثة والكرم والشجاعة والعمل والتطلع إلى المستقبل
تعريف المحاسبة: قال الماوردي في معنى المحاسبة: (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل).
وقال ابن القيم :هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ
سَفَرَ من لا يعود). وقال (فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً)
صفات النفس في القرآن
النفس المطمئنة: هي النفس التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً ونبياً، وهي التي اطمأنت إلى أمر الله ونهيه، هي النفس التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده، هي النفس التي اطمأنت واشتاقت إلى لقاء الله عز وجل.
وهي التي تذوق طعم الإيمان فعَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» ([1])
وقال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:228].
النفس اللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، على الخير لماذا لم يكثر منه، وعلى الشر لماذا وقع فيه/ قال ميمون بن مهران : [لا يبلغ المؤمن درجة التقى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح].
فهي نفس كريمة تلوم صاحبها على الخير والشر معاً، تلوم صاحبها على الخير لماذا لم تكثر منه؟ لماذا لم تداوم على فعل الخيرات؟ وتلوم صاحبها على الشر والمعاصي: لماذا فعلت الشر؟ لماذا ارتكبت المعصية؟ لماذا وقعت في الذنب؟ فهي نفس كريمة، أقسم الله عز وجل بها في قرآنه، قال سبحانه: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة:2].
النفس الأمارة: فهي النفس التي تدفع صاحبها دفعاً إلى المعصية، وتحاول تلك النفس الخبيثة أن تخرج صاحبها من طريق الهداية إلى طريق الغواية، والطاعة إلى المعصية، والخير إلى الشر.
قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ﴿يوسف ﴾
الناس صنفان:
صنف انتصر على نفسه وقهرها وغلبها، وفطمها عن المعصية، وألجمها بلجام التقوى، وجعلها مطية إلى كل خير وطاعة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هذا الصنف الكريم، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:10].
صنف أفلح في تزكية نفسه، زكاها بالطاعة وبالبعد عن المعصية والشهوات والشبهات، زكاها عن كل ما يغضب الله عز وجل.
صنف قهرته نفسه، وغلبته وجعلته مطية إلى كل هوى وشهوة ومعصية وذنب: قال تعالى:(فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:341].
ثانياً: أقسام محاسبة النفس
القسم الأول: محاسبة النفس قبل العمل: وهو أن ينظرَ العبدُ في هذا العمل ، هل هوَ مقدورٌ عليهِ فيعملَه ، مثل الصيام والقيام . أو غيرَ مقدورٍ عليهِ فيتركَه . ثم ينظر هل في فعله خيرٌ في الدنيا والآخرة فيعملَه ، أو في عملِه شرٌ في الدنيا والآخرة فيتركَه . ثم ينظر هل هذا العمل للهِ تعالى أم هو للبشر ، فإن كان سيعملُه لله فعلَه ، وإن كانت نيتَهُ لغيرهِ ترَكه ، فلابد من المحاسبة قبل العمل ،لمن أتكلم؟ لمن أعمل؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ لماذا أوالي؟ لماذا أعادي؟ لماذا أعطي؟ لماذا أمنع؟ لماذا جئت؟ لماذا لم آت؟ سؤال عن الإخلاص لمن تعمل، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110].
القسم الثاني: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
محاسبة النفس على طاعاتٍ قصَّرتْ فيها: كتركها للإخلاصِ أو للمتابعة ، أو تركِ العمل المطلوب كترك الذكر اليومي ، أو تركِ قراءةِ القرآن ، أو تركِ الدعوة أو ترك صلاةِ الجماعة أو ترك السننِ الرواتب . ومحاسبة النفس في هذا النوعِ يكون بإكمالِ النقص وإصلاح الخطأ ، والمسارعةِ في الخيرات وترك النواهي والمنكرات ، والتوبةِ منها ، والإكثارُ من الاستغفار ، ومراقبةُ اللهِ عز وجل ومحاسبة القلب والعمل على سلامتِه ومحاسبةُ اللسان فيمـا قالَه ، وإشغالِه إما بالخيرِ أو بالصمت ، وكذلك يكونُ بمحاسبة العين فيما نظرت ، فيطلقها في الحلالِ ويَغُضُّها عن الحرام ، وبمحاسبة الأُذن ما الذي سَمِعته ، وهكذا جميعِ الجوارح .
قال تعالى : (( فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (البقرة: 19199( ، وفي صلاة الليل قال الله تعالى : ( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) (آل عمران 17) هل أمضوا ليلهم عند الدشوش ؟، هل قضوا ليلهم في معصية الله ؟، أبدا ً كانوا يؤدون عملاً من أسباب دخول الجنة ومع ذلك عندما فرغوا منه أكثروا من الاستغفار ، وفي الصحيح أن النبي كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً ثم قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام
لماذا يستغفرون عقب الطاعة؟ المتبادر للذهن أن الاستغفار يكون عقب المعصية وهؤلاء يستغفرون عقب الطاعة لماذا ؟ ؛ لأنهم أيها الإخوة يدركون تقصيرهم فيها ، وأنهم لم يقوموا بحق الله فيها حق القيام كما يليق بجلاله ، وأنه لولا توفيقه لهم بعملها لم يعملوها ، فكم عبد من عباده محروم من عملها.
وهذا يدلك على أن الله هو الذي يمتن على عباده ويوفقهم إلى طاعته ، وأن الإنسان لا يأمن على نفسه الزيغ ، يا أخي ألم يقل ربنا سبحانه لرسوله r وهو أفضل البشر (( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) (الاسراء :74) ، وقال تعالى: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17]
أن يحاسبَ نفسَهُ على كلِّ عملٍ كانَ تركُهُ خيراً من فعله؛ لأنهُ أطاعَ فيه الهوى والنفس، وهو نافذةٌ على
المعاصي، ولأنهُ من المتشابه، يقولُ r : (( إن الحلال بَيِّن ! وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقعَ في الشبهات وقع في الحرام)) ([2])، ويقولُ عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك)) ([3])
أن يُحاسبَ الإنسانُ نفسَه على أمرٍ مباح أو معتاد: لـمَ فعله ؟ وهل أرادَ به الله والدارَ الآخرة فيربح ، أم أرادَ به الناسَ والدنيا فيخسر ذلك الربح ويفوتَهُ الظَفَرُ به .
ثالثا: أهمية المحاسبة:
أمر الله بها: قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )الحشر 18، قال ابن كثير في تفسيره: أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم([4])
هداية الله لهم: قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]
وجوب المسارعة للعمل الصالح: قال تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران
محاسبة النفس قبل فوات الأوان: قال تعالى ( وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )البقرة 281
وقال تعالى : ( أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما ! فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين )الزمر .
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : " مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " ([5])
وجوب محاسبة النفس لأنها قد تزل أحيانا: فعن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " ([6])
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r " يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّة " ([7]) ، وكتبَ عمرُ بن الخطابِ t إلى بعضِ عمُّالِهِ :(( حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة ، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة ، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة ))
أن الفتن تعرض على القلوب دائما: عن حُذيفَة – رضي الله عنه – قال قال رسول الله r «تُعرضُ الفتنُ على القلوبِ كما يُعرضُ الحصيرُ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ بيضاء، وأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَت فيه نُكتَةٌ سوداء، حتى تصيرَ القلوبُ على قلبَين: قلبٍ أبيض كالصَّفا، لا تضُرُّه فتنةٌ ما دامَت السماوات والأرض، وقلبٌ أسودُّ مِربَادُّ كالكُوزِ مُجخِّيًا – أي: منكوسًا – لا يعرِفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكَرًا إلا ما أُشرِبَ من هواه».
لا يخفى على الله شيء: قال تعالى" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " المجادلة
الدنيا زرع وحصاده في الآخرة: قال تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) الزلزلة ، وقال تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ " آل عمران 30
كل إنسان مسئول عن عمله يوم القيامة: قال تعالى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ )الصافات 24
وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )المدثر 38 ، وقال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )الكهف ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) المجادلة، وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )، وعن أبي برزة الأسلمي t قال: قال رسول الله r : (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه )([8])
فرحة المحاسبين لأنفسهم وحسرة التاركين لها: قال تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ* إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ*وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ* يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ*مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ*هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ* خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ* إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ* وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ* لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ) الحاقة 137
ليس للإنسان بضاعة إلا العمر: المسلم دوماً يحاسب نفسه ويتهمها بالتقصير، فقف أيها الحبيب مع نفسك الليلة وقفة صدق وقل لها: يا نفس! ليس لي بضاعة إلا العمر، فإن ضاعت بضاعتي ضاع رأس مالي، توهمي يا نفس أنك قد متي وطلبتي من الله الرجعة، وها أنت قد عدتي إلى الدنيا فاعملي قبل أن تتمني الرجعة يوماً فلا يستجاب لك: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) فيكون الجواب: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:100].
أن من نوقش الحساب يوم القيامة عُذب: عن عائشةَ رضيَ الله عنها؛ أنَّ رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذِّب". فقلتُ: أليسَ يقولُ الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}؟ فقال: "إنَّما ذلك العَرْضُ، وليْسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يوَم القِيامَةِ إلا هَلَك" ([9]).
والعرض: هو أن يعرض الله على العبد أعماله، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعت سول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (ما منكم مِن أحد إلا سيكلمُه الله، ليس بينه وبينه تَرجُمان، فينظر أيمنَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، فينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، فينظر بين يديه، فلا يرى إلا النارَ تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة). وفي رواية(مَن استطاع منكم أنْ يَستَتِر من النار ولو بشق تمرة؛ فليفعل) ([10])
تذكـر وقوفك يوم العرض عرياناً ** مستوحشا قلق الأحشاء حيـــرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنـق ** على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل ** فهـل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لمـا قرأت ولم تنكر قراءته ** إقـــرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتى ** وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار مسكنهم ** والمؤمنون بــدار الخلد سكانا
أن الحياة الدنيا هي متاع الغرور: قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
يا نفس قـد أزف الرحـيـل ** وأظلك الخطب الجليــــــل
فتأهبي يا نفـــــــــــس لا ** يلعب بك الأمل الطـويـــل
فلتنـزلن بمنــــــــــــــــزل ينــسى ** الخليل به الخليــل
وليركبن عليك فيــــــــــه ** من الثرى حمل ثقيـــــــل
قرن الفناء بنا جميعــــــاً ** فما يبقى العزيز ولا الذليل
الدنيا لا تدوم على حال واحد فهي في تغير دائم: يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾ الفرقان ، فإن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير، والعمر كلما زاد نقص، وكم شقي فيه من أناس، و كم سَعُدَ فيه من آخرين، وكم من فقير مسلم قد هام على وجهه؟ ، وكم من مشرد كان له بيت فصار بلا مسكن ولا مأوى؟، كم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر؟ ، كم من حرة عفيفة هتك سترها كافر عتل غليظ؟، كم من بلد استبيحت حرمته وسلبت أراضيه؟، كم من أرض أحرقت ظلماً لا لشيء إلا لأن أهلها يقولون: ربنا الله؟ ، كم من الصور المؤلمة حملها عامنا الذي سيرتحل في حقيبته؟ ، كم من طفل قد تيتم، كم من امرأة قد ترملت، كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، كم من دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، لا إله إلا الله ..عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق، كم من آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام.
لابد من الرجوع والعودة إلى الله وطلب المغفرة منه سبحانه
يا رَبّ قد عَصَفَ الهوَى بكياني ** وسَطا كَلِه على أركــاني
وتَنوّعَت ألوانُه وتَعدّدَت ** أوطارُه وغَدوتُ كالحــــــــيران
ودُخانُه حَجَبَ البَصيرةَ والهُدى ** فَكَأنّني في غَيبةِ السكران
جَاهَدتُه وحَسِبتُ أنّي غالبٌ ** فعَدا بمَكرٍ لا يُرى بمَكـــــــان
أنجُو وأُصرَعُ في مُحيطٍ هادِرٍ ** مِن عَالم الإغراءِ والبُهتـانِ
فأزلُّ عَن تَقوَى عَرفتُ طَريقَها ** أوّاهُ مِن ضَعفي ومِن عِصياني
لا حَولَ لي يا رَبّ إنّي عاجزٌ ** فادفَع بحَولِكَ كيدَه الشيطاني
ضَعفِي وخوفي في التِجاءٍ ضَارع ** مَا خابَ مَن يَرجُوكَ باطمِئنانِ
يا أرحَمَ الرُّحماءِ إنّي عَائِذٌ ** بسَوابِقِ التكــــــريمِ وَالإحسَــــــــــانِ
أنتَ العَليمُ بما أخافُ وأرتَجِي ** وَبسِرّيَ المَكــــــتُومِ والإعــــــلانِ
فاختر لِعَبدِكَ ما تُحبُّ وتَرتَضي ** سَلّمتُ قلبي فاكفِني أحـــــــزاني
وامنُن عليَّ بتَوبةٍ مَقبُولةٍ ** واختِم بتَوحِيدٍ وطُهرِ جَـــــــــــــــــنانِ
رابعاً: كيفية محاسبة النفس
قال ابن قدامة في كتابه : مختصر منهاج القاصدين :وتحققَ أربابُ البصائر أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار –
الناتجة عن عدمِ محاسبة النفس - إلا لزومُ المحاسبةِ لأنفسِهم وصِدْقُ المراقبة ، فمن حاسبَ نفسهُ في الدنيا خفَّ حسابه في الآخرة ، ومَن أهملَ المحاسبة دامتْ حسراته ، فلما علموا أنهم لا يُنجيهم إلا الطاعة ، وقد أمرَهم بالصبرِ والمرابطةِ فقالَ سبحانه : "يا أيُّها الَذينَ آمَُنواْ اصبِروا وَصابِرواْ ورابِطوا" فرابطوا أنفسَهم أولاً بالمشارطةِ ثمّ بالمراقبة ، ثم بالمحاسبةِ ثم بالمعاقبة ، ثم بالمجاهدةِ ثم بالمعاتبة ، فكانتْ لهم في المرابطةِ سِتُّ مقاماتٍ أصلُها المحاسبة ، ولكنْ كلّ حسابٍ يكونُ بعدَ مشارطةٍ ومراقبة ، ويتبعهُ عندَ الخُسران المعاتبةُ والمعاقبة . نأخذها الآنَ بشيءٍ منَ التفصيل:
المقامُ الأول: المشــارطة: اعلم أنّ التاجرَ كما يستعينُ بشريكهِ في التجارةِ طلباً للربح ، ويشارطهُ ويحاسبه ، كذلك العقلُ يحتاجُ إلى مشاركةِ النفس وشرطِ الشروطِ عليها وإرشادِها إلى طريقِ الفلاح ، والتضييقِ عليها في حركاتها وسكناتها . فمثلاً : إذا فَرِغَ العبدُ من صلاةِ الصُبْح ، ينبغي أن يُفرغَ قلبَه ساعةً لمشارطةِ نفسهِ، فيقولُ للنفس : ماليَ بضاعة إلا العُمُر ، فإذا فَنِيَ مني رأس المال وقعَ اليأسُ من التجارةِ وطلبِ الربح . فليقُل أحدُنا الآنَ قبلَ الموت : يا نفس ، اجتهدي اليومَ في أن تعـمُري خِزانتكِ ولا تدعيها فارغة ، ولا تَميلي إلى اليأسِ والدَعَةِ والاستراحة فيفوتكِ من درجاتِ عليينَ ما يُدْرِكه غيرَكِ
المقامُ الثاني: المراقبــة: إذا أوصى الإنسانُ نفسَهُ وشَرَطَ عليها ، لم يبقَ إلا المراقبة لها وملاحظتها وفي الحديثِ الصحيح في تفسيرِ الإحسان ، لما سُئِلَ عنهُ رسولُ اللهِ r قال : (( أنْ تعبدَ الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك )) . فمراقبة العبد نفسَه في الطاعة هو أن يكونُ مخلصاً فيه! ا ، ومراقبته في المعصيةِ تكونُ بالتوبةِ والندمِ والإقلاع ، ومراقبته في المباح تكونُ بمراعاةِ الأدب والشكرِ على النعيم ، وكلُّ ذلك لا يخلو من المراقبة .
المقام الثالث: المحاسبةُ بعدَ العمل: اعلم أن العبدَ كما ينبغي أن يكونَ له وقتٌ في أولِ النهار يشارطُ فيهِ نفسه ، كذلك ينبغي أن يكونَ له ساعةٌ يطالبُ فيهِ نفسه في آخرِ النهار ويحاسبُها على جميعِ ما كانَ منها ، كما يفعلُ التُجّار في الدنيا معَ الشُركاءِ في آخرِ كل سنةٍ أو شهرٍ أو يوم .
المقام الرابع: معاقبةُ النفسِ على تقصيرِها: اعلم أن العبدَ إذا حاسبَ نفسهُ فرأى منها تقصيراً ، أو فعلَتْ شيئاً من المعاصي ، فلا ينبغي أن يهملَها ، فإنه يَسْهُلُ عليهِ حينئذٍ مقارفةُ الذنوب ويعسرُ عليه فِطامُها ، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبةً مباحة ، كما يعاقبُ أهلَهُ وأولادَه . وكما رويَ عن عمر t : أنه خَرجَ إلى حائطٍ له ثم رَجعَ وقد صلى الناسُ العصرَ ، فقال : إنما خرجتُ إلى حائطي ورَجعتُ وقد صلى الناسُ العصرَ ، حائطي صدقةٌ على المساكين .
المقام الخامس: المجــاهدة: إذا حاسبَ الإنسانُ نفسَه ، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصيةً أن يُعاقبـَها كما سبق ، فإن رآها تتوانى للكسلِ في شيءٍ من الفضائلِ أو وِرد من الأوراد ، فينبغي أن يؤدبـَها بتثقيلِ الأورادِ عليها ، كما وردَ عن ابنِ عمرَ t ، أنه إذا فاتته صلاةٌ في جماعةٍ فأحيا الليلَ كلَّه! ُ تِلكَ الليلة ، فهوَ هُنا يجاهدُها ويُكرِهُهَا ما استطاع .
المقام الأخير: معاتبةُ النفسِ وتوبيخُـها: قال أنس t: سمعتُ عمرَ بن الخطابِ t، وقد دخلَ حائطاً، وبيني وبينه جدار، يقول: عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين !! بخٍ بخ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك! .
أخي الحبيب: اعلم أن أعدى عدوٍ لكَ نفسُكَ التي بين جنبيك، وقد خُلِقتْ أمارةً بالسوءِ ميالةً إلى الشرورِ، وقد أُمرتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن موارِدِها، وأن تقودَها بسلاسلِ القهْرِ إلى عبادةِ ربِها، فإن أنتَ أهملتها ضلّتْ وشَرِدتْ، وإن لزمتَها بالتوبيخِ رَجونا أن تصيرَ مُطمئنة، فلا تغفلنّ عن تذكيرِها.
أخي الحبيب: كم صلاةٍ أضعتَها؟ كم جُمُعَةٍ تهاونتَ بها؟ كم صدقةٍ بَخِلتَ بها؟ كم معروفٍ تكاسلتَ عنه؟ كم منكرٍ سكتَّ عليه؟ كم نظرةٍ محرمةٍ أصبتَها؟ كم كلمةٍ فاحشةٍ أطلقتها؟ كم أغضبتَ والديك ولم ترضِهِما؟ كم قسوتَ على ضعيفٍ ولم ترحمه؟ كم من الناسِ ظلمتَه؟ كم وكم ...؟
لم لا أنوح وأنــــــــــــدب ** وأنا المسيء المذنـــب
نفسي لشدة خبثهــــــــــــا ** غير الخطـا لا تخطــــب
في السر تعصي ربهــــــــا ** بين الورى تتــــــــأدب
تخشى الخـــــــــلائق ثم لا ** تخشى الإله وترقـــــب
يا ويلهـا يا ويلهــــــــــــــا ** مما يداهـا تكـســــــب
كم بحر لغو خضتــــــــــه ** كم في الفساد أقلّــــب
كم غائـب أغتابـــــــــــــه ** كم ذا أقول وأكــــذب
كم فتنـة ألقيتـهـــــــــــــا ** بين الذيـن تحبـبــــوا
كم في الخطا قدمي خطـا ** وعن الهدى تتنكــب
كم حيلة أحتـال فــــــــــي ** تحصيل أمر يغضــب
ملك اليمين أرحتــــــــــــه ** لم يلق خيرا يكتـــب
ملك اليسار بعكـســــــــــه ** ليـلا نهـارا يتعـــــب
وذكرَ ابنُ القيم أن محاسبةَ النفس تكون كالتالي:
البدءُ بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصٌ تداركهُ.
النظرُ في المناهي، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية.
محاسبةُ النفس على الغفلةِ، ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم.
محاسبةُ النفس على حركاتِ الجوارح، وكلامِ اللسان، ومشيِ الرجلين ، وبطشِ اليدين ، ونظرِ العينين ، وسماعِ الأذنين ، ماذا أردتُ بهذا ؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟
ومن الأسبابٌ التي تعينُ المسلمَ على محاسبةِ نفسهِ وتُسهِّلُ عليهِ ذلك
معرفةُ أنك كلما اجتهدت في محاسبةِ نفسكَ اليوم، استراحتَ من ذلك غداً ، وكلما أهملتها اليوم اشتدَّ عليكَ الحسابُ غداً .
معرفةُ أنَّ ربحَ محاسبة النفس هو سُكْنى الفردوس، والنظرُ إلى وجهِ الربِ سبحانه ، وأنَّ تركها يؤدي بك إلى
الهلاكِ ودخولِ النار والحجابِ عن الرب تبارك وتعالى .
صحبةُ الأخيار الذينَ يُحاسبونَ أنفسَهُم، ويُطلِعونَك على عيوبِ نفسِكَ ، وتركُ صحبة من عداهم
النظرُ في أخبارِ أهل المحاسبةِ والمراقبة، من سلفِنا الصالح .
زيارةُ القبورِ والنظرُ في أحوالِ الموتى الذين لا يستطيعونَ محاسبةَ أنفسِهم أو تدارُكِ ما فاتَـهم .
حضورُ مجالس العلمِ والذكر فإنها تدعو لمحاسبة النفس .
البعدُ عن أماكن اللهوِ والغفلة فإنها تُنسيكَ محاسبةَ نفسك .
دعاءُ اللهِ بأن يجعلك من أهلِ المحاسبة وأن يوفقك لذلك
خامساً: حال السلف الصالح
قال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك لشريكه
قال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة
قال ابن القيم -رحمه الله -: "وهلاك القلبِ في إهمال محاسبة النفس ، وفي موافقتها وإتباع هواها".
عمر بن الخطاب t : يقول ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهونُ عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) ، ولم يقف أمر محاسبة النفس لمجرد الكلمات عند عمر بل تراه يطبق هذا الكلام على نفسه قال أنس t سمعت عمر بن الخطاب t يوماً وقد خرجتُ معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول : والجدار بيني وبينه : عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ والله لتتقين الله يا بن الخطاب أو ليعذبنك.
ابن الصَّمَّة رحمه الله تعالى فقد كان من أشد الناس محاسبة لنفسه ؛لما بلغ الستين من عمره تقريباً جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال : يا ويلاه ، يا ويلاه !!ألقى ربى بواحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفى كل يوم آلاف الذنوب؟!!ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى.
لقى الفضيل بن عياض رجلا فقال له : “كم عمرك؟” قال: ستون سنة، قال: “فأنت منذ ستين سنة تسير إلى
ربك توشك أن تبلغ، فقال الرجل: يا أبا على! إنا لله وإن إليه راجعون، قال له الفضيل: “تعلم ما تقول؟ ، قال الرجل: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: “تعلم ما تفسيره؟، قال الرجل: فسره لنا يا أبا على، قال: قولك: إنا لله؛ تقول أنا لله عبد وأنا إلى الله راجع، فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع فليعلم بأنه موقوف، ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا فقال الرجل: فما الحيلة؟
قال: يسيره، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي؛ فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقى.
قال لقمان الحكيم لابنه: "يا بني، إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حَرون؛ فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت، إن النفس إذا أُطعمت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت؛ فاحذر نفسك، واتهمها على دينها، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق، فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره."
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: " مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ آكُلُ ثِمَارَهَا ، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا ، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا ، ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا ، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا ، وَأُعَالِجُ سَلاسِلَهَا وَأَغْلالَهَا ، فَقُلْتُ لِنَفْسِي : أَيْ نَفْسِي ،
أَيُّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ ؟ قَالَتْ : أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا ، فَأَعْمَلَ صَالِحًا ، قَالَ : قُلْتُ : فَأَنْتِ فِي الأُمْنِيَةِ ، فَاعْمَلِي " .
قال الغزالي: «عرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته
قال مالك بن دينار: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: رحم الله امرأ حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره، رحم الله امرأً أخذ بعنان عمله فنظر ماذا يريد به، رحم الله امرأً نظر في مكياله، رحم الله امرأً نظر في ميزانه فما زال يقول حتى أبكاني.
حكى صاحب للأحنف ابن قيس: قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء، وكان يجئ إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا، ما حملك على ما صنعت يوم كذا.
عن علي بن عبد الحميد: قال سمعت السري السقطي يقول: من حاسب نفسه استحيا الله من حسابه
قال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من
أين مطعمه و من أين ملبسه ومن أين مشربه، أمن حل ذلك أم من حرام.
جاء رجل إلى يونس بن عبيد: فقال له: أنت يونس بن عبيد، قال: نعم، قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك، قال: وما حاجتك، قال: أريد أن أسألك عن مسألةٍ، قال: سل عما بدا لك، قال: أخبرني ما غاية الورع؟ قال: محاسبة النفس مع كل طرفة والخروج من كل شبهة، قال فأخبرني ما غاية الزهد؟ قال: ترك الراحة.
قال الحسن بن علي الدقاق: أصل الطاعة الورع، وأصل الورع التقى، وأصل التقى محاسبة النفس، ومحاسبة النفس من الخوف والرجاء، والخوف والرجاء من المعرفة، وأصل المعرفة لسان العلم والتفكر.
قال سليمان بن عبد الملك لـأبي حازم الزاهد العابد العالم: [يا أبا حازم ! ما لنا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال أبو حازم : لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، وأنت تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب] من الذي يحب أن يترك العمران ويترك حياة الرفاهية ليذهب إلى الصحراء والخراب؟.
فقال سليمان : [يا أبا حازم ! فما لنا عند الله جل وعلا؟ فقال أبو حازم : اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم أين مكانتك عند الله جل وعلا، فقال: وأين أجد ذلك؟ فقال أبو حازم : في قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار:114] فقال سليمان : فأين رحمة الله يا أبا حازم ؟! فقال أبو حازم : (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56] فقال سليمان : فكيف القدوم على الله غداً؟ فقال أبو حازم : أما المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالآبق يرجع إلى سيده ومولاه].
سادساً: لماذا نقصر في محاسبتنا لأنفسنا؟ وآثار فقد المحاسبة:
هناك أمور تمنع أو تقلل من محاسبة النفس من أهمها
المعاصي : سواء كان ذلك بفعل الكبائر أو بالإصرار على الصغائر ؛ حيث إن هذه المعاصي تسبب الران على القلب ، فإذا لم يحاسب العبد نفسه ويتوب تراكم هذه الران على قلبه ، وبقدر تراكم هذا الران تقل محاسبته لنفسه حتى يصبح قلبه لا ينكر منكراً ولا يعرف معروفاً
التوسع في المباحات: لأن هذا التوسع يرغبه في الدنيا ويقلل تفكيره في الآخرة، وإذا لم ينظر إلى آخرته، أو قل نظره إليها قلت محاسبته لنفسه .
عدم استشعار عظمة الله: وما يجب له من العبودية والخضوع والذل؛ فلو استشعرنا ذلك وعرفنا لله حقه لأكثرنا من محاسبتنا لأنفسنا، ولقارنا بين نعم الله علينا وبين معاصينا، ولقارنا بين حقه علينا وبين ما قدمناه لآخرتنا
تزكية النفس وحسن الظن بها: لأن حسن الظن بالنفس يمنع من التعرف على عيوبها وإذا لم تكتشف الداء كيف ستعالجه
عدم تذكر الآخرة: والانشغال بالدنيا ولو وضعنا الآخرة نصب أعيننا لما أهملنا محاسبة أنفسنا . وغيرها......
آثار فقد المحاسبة
تسهل على العبد الوقوع في المعاصي؛ حيث إن محاسبة النفس تجعله يندم على فعله المعصية، وإذا ندم أوشك ألا يعملها مرة أخرى، أما إذا لم يأبه للمعصية ولم يحاسب نفسه عليها فإنه من السهل أن يقع فيها أو في معصية غيرها مرة أخرى
يعسر عليه ترك المعاصي والبعد عنها؛ لأنه يكون حينئذ ألفها واعتاد عليها ، وتشربها قلبه فيصعب عليه تركها
استثقال الطاعات؛ لأن الطاعة تحتاج إلى جهد وعزيمة ، وهذه العزيمة لا تأتي إلا بالوقوف مع النفس وقفة
محاسبة ، وأخذها بالحزم والجد .
هلاك القلب: قال ابن القيم) :هلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها) وقال في إغاثة اللهفان: (وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها ؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذه حال أهل الغرور : يغمض عينيه عن العواقب ، ويمشي الحال ، ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه ، والنظر في العاقبة ؛ وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب ، وأنس بها ، وعسر عليها فطامها ، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد
مثل لنفسك أيها المغرور ** يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت ** حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت ** وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولـها ** فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلـت وتخربت ** خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ** وتقول للأملاك أين نسير
وإذا الجليل طوى السما بيمينه ** طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصائحف نشرت وتطايرت ** وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الوليد بأمه متعلق ** يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية ** كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانـها ** ولها على أهل الذنوب زفيـر
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت ** لفتىً على طول البلاء صبور
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
تعليقات: (0) إضافة تعليق