العناصر :
الأول : الصدق من
شيم العرب قبل الإسلام :
الثاني : الصدق
وصَفَ الله تعالى به نفسه :
الثالث : الصدق
صفة النبيين والمؤمنين المتقين :
الرابع : أنواع
الصدق ودلائله :
الخامس : وصية الآباء
والأمهات بتربية أبنائهم على الصدق ومجانبة الكذب :
فوائد الصدق وثماره
: السادس :
الصدق طريق النجاة
للأمم والمجتمعات : :السابع
الثامن : إياكم
والكذب :
التاسع : أنواع
الكذب ومراتبه :
الموضــــــــــــــــــــــــــــــوع
الحمدُ لله الصَّادقِ
في قِيلِهِ ،الهادِي إلى سبيلِهِ ، أثنى على الصَّادِقينَ في مُحْكَمِ تَنزيلِهِ ،
وحبَّبَ الصِّدقَ إلى النُفُوسِ الكَرِيمَةِ ، جَعَلَ الصِّدقَ صِفَةً لأَوليائِهِ
، فَخَصَّ بهِ الأَنبِياءَ والأَتقياءَ . وأَشهدُ أن لا إله إلا اللهُ ،وحدَهُ لا شريكَ
لهُ ، يَهدي مَنْ يَشاءُ إلى أَسبَابِ مَرضاتِهِ ، ويُضلُّ مَنْ يَشاءُ عن رَحَمَاتِهِ
. وأَشهدُ أنَّ مُحمداً عبـــدُ اللهِ ورَسُولُهُ ، الصَّادِقُ الأمينُ , البَرُّ الوفِيُّ
الكريمُ . صلَّى اللهُم وسلَّمَ وباركَ عليهِ ، وعلى آلِهِ الأوفياءِ ، وأصحابِهِ الأَتقياءِ
، ومَنْ تَبِعَهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الجَزَاءِ .
أمَّا بَعــــــــــــــــــــــــدُ
:
فِي زَمنٍ نُعاني
فيهِ من أزمَةٍ أخلاقِيَّةٍ غَلَبت عليها النَّظرةُ المادِّيَةُ , والحِيَلُ الشَّيطانيَّةُ
, ولهذهِ الأزمةِ أسبابٌ شَرعِيَّةٌ وأُخرى تَربَويِّة , يَأتِي في مُقَدِّمَتِها ضَعفُ
الإيِمانِ ، وضعفُ التَّربِيَةِ ، والتَّهَافُتُ على حُطامِ الدُّنيا الفانِيَةِ ،
ما أَحوجُنا إلى التَّواصِي بأكرم الخلال ، وأحب الصفات ، ومكارم الأخلاق ، وحَديثُنا
اليوم عن خَلَّةٍ هي سيِّدَةُ الأَخلاقِ ، وجَامِعَةُ المَكارِمِ والفَضَائِلِ , ورأَسُ
البِرِّ وعُنوانُ الشَّمَائِلِ ، ألا وهي الصدق !!!!.
الأول : الصدق من
شيم العرب قبل الإسلام :
تَعلمونَ يا كرامُ
: أنَّ الصِّدقَ من الصِّفاتِ المَحمُودَةِ قَدِيماً وحديثاً , فإنه لا يقومُ دين،
ولا تستقيم دنيا إلا بالصدق، ولقد كانتِ العربُ تَنفِرُ من الكَذِبِ وتَهجُو الكَاذِبِينَ،
فَهذا أبو سُفْيانَ بنَ حَرْبٍ رضيَ اللهُ عنهُ ، قَبلَ إسلامِهِ يَذهبُ مع رَهطٍ من
قُريشٍ في تِجارةٍ إلى الشَّامِ ، فَيسمعُ بِهم هِرَقلُ مَلِكُ الرُّومِ ، فَبعثَ إليهم
يَسأَلُهم عن هذا النَّبِيِّ الجديدِ ، فَصَدَقُوهُ في القولِ ،وَوَصفوا الرَّسولَ
بِأصدَقِ الأوصافِ ، قال أبو سفيانَ وهو يومَئِذٍ مُشركٌ : (وَاللَّهِ، لَوْلا الْحَيَاءُ
يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ ) . وحينَ
نشَأَ رَسُولُ في مكَّةَ ، وتَرعرعَ فيها رَسَمَ لهم لوحةَ الصِّدقِ بِأَنْقَى صُوَرِها
وأَحلَى مَعانِيها ، حتى لَقَّبُوهُ بالصَّادِقِ الأَمِينِ . تَقولُ عُائِشةُ رضي الله
عنها : ما كانَ خُلُقٌ أَبغَضَ إلى رسولِ اللهِ من الكَذِبِ ، ولقد كان الرَّجلُ يُحدِثُ
عندَ النَّبِيِّ الكِذْبَةَ ، فَمَا يَزَالُ في نَفْسِ النَّبيِّ عليه حتى يَعلمَ أنَّهُ
قد أحْدَثَ مِنها تَوبَةً ، رواهُ أَحمَدُ وابنُ حِبَّانَ ، وما مِن شَيءٍ أذهَبَ لِلمُرُوءَةِ
من الكَذِبِ .
وقديماً قال الحُكَمَاءُ
: " مَنْ استَحلَى رَضاعَ الكَذِبِ عَسُرَ فِطَامُهُ " .
لا يَكْـذِبُ الْمَـرءُ
إِلاَّ مِنْ مَهَانَتِـهِ *** أَوْ عَادَةِ السُّوءِ أَوْ مِنْ قِلَّةِ الأَدَبِ
لَعَضُّ جِيفَـةِ
كَلْبٍ خَيْـرُ رَائِحَـةٍ *** مِنْ كِذْبَةِ الْمَرْءِ فِي جِدٍّ وَفِي لَعِبِ
الثاني : الصدق
وصَفَ الله تعالى به نفسه :
ولعظمةِ الصدق وجلاله
وحُسنه وكماله، وصف الله تعالى به نفسه .
فقال سبحانه :{
قُلْ صَدَقَ اللَّـهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } آل عمران: 95 .
والله تعالى موصوفٌ
بالصدق في ذاته ، وفي أقواله ، وفي أفعاله ، وفي وعده ، وفي وعيده ، وفي أخباره ، وفي
شرعه .
قال تعالى : { وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ حَدِيثاً } النساء: 87 .
وقال تعالى : {
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ قِيلاً } النساء: 122 .
وقال تعالى بعد
أن ذكر إرسال المرسلين : { ثُمَّ صَدَقناهُمُ الوَعدَ فَأَنجَيناهُم وَمَن نَشاءُ وَأَهلَكنَا
المُسرِفينَ } الأنبياء: 9 .
الثالث : الصدق
صفة النبيين والمؤمنين المتقين :
وقد وصف الله النبيين
بالصدق ، وأيدهم بالآيات البينات ، والمعجزات الباهرات ؛ ليكون ذلك برهانًا على صدقهم
، وإقامة للحجة على مُكذبيهم .
فرسل الله الكرام
الذين أُمرنا بالاقتداء بهم أثنى الله عليهم وعلى صدقهم قال تعال : ( وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ) مريم:41 ، وقال : (وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)
مريم:54، وقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)
مريم:56 . وهذا قول الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ
صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ) الشعراء:84 ، أي: اجعلني ممن يُثنَي عليه بحق وليس بباطل
ولا بزور بعد مماتي .
وقال تعالى في الثناء
على نبيه الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}
الصافات: 37 . ولقد وُصِف النبيُّ عليه الصلاة والسلام بالصدق ، حتى مِن أهل الكفر،
فكان يسألهم في بداية دعوته لمــَّا جمعهم على الصفا منادياً : يابني عبد مناف ، يا
بني فلان ، ويا بني فلان ، فاجتمعت له قبائل قريش ، فقال لهم: " لو أخبرتكم أنّ
خيلا وراء الوادي يريد غزوكم، أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم ، ما جربنا عليك كذبا
قط . قال ’’ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ،، .
ولما اختلفت قريش
قبل مبعثه بخمس سنين ، بعدما بنوا بيت الله الحرام ، وأرادوا وضع الحجر الأسود واختصموا،
كل يقول : إنه أولى بذلك ، اتفقوا على أن يُحَكِّمُوا أول داخل لهذا المسجد الحرام
، فيجعلونه حكماً بينهم ، فما هو إلا أن أطل محياه الكريم صلوات الله وسلامه عليه ،
فلما نظروا إليه قالوا : هذا الصادق الأمين ، رضينا به حكماً ، صلوات الله وسلامه عليه
، وكان يوصف بالصادق الأمين ، والصادق المصدوق ، عليه الصلاة والسلام .
ووصف الله المؤمنين
المتقين : فقد قال تعالى بعد أن ذكر جملة من إيمانهم وأعمالهم : {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا ، وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة: 177 . وقال جل وعلا : { مِّنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى
نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } الأحزاب :23 . وقال
تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ
أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } الحشر: 8 . وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } الحجرات: 15
. وأمر الله تعالى المؤمنين بتقواه ، وأن يكونوا مع الصادقين ، فقال جل وعلا : { يا
أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ} التوبة:
119 . وقال جل وعلا: { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّـهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } محمد:21
.
الرابع : أنواع
الصدق ودلائله :
والصدق يكون في
كل أمر من أمور الحياة ، ولا يقتصر على الصدق في كلام الناس وأحاديثهم المعتادة ، وقد
استخدم لفظ الصدق في الكتاب والسنة في معانٍ أخرى عظيمة غير الصدق في كلام الناس وما
يتبادلونه من أخبار :
أولاً : الصدق في
إيمان العبد :
فلابد أن يكون العبد
صادقاً فيما بينه وبين ربه ؛ ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ،عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ’’ ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله
صدقًا من قلبه ، إلا حرمه الله على النار ’’ . فاشترط صلى الله عليه وسلم ، في نجاة
من قال هذه الكلمة من النار ، أن يقولها صدقاً من قلبه ، فلا ينفعه مجرد التلفظ بدون
مواطأة القلب ، وقد عاب الله وذمّ من يقول هذه الكلمة دون مواطأة القلب ، قال تعالى
: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)، البقرة: 8-10 .
وهناك أيضاً صدق
العبد بينه وبين ربه في الطلب والدعاء والعبادة ؛ ففي صحيح مسلم عن أبي ثابت ، - وقيل
أبي سعيد ، وقيل أبي الوليد- سهيل بن حنيف - وهو بدري رضي الله عنه - أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء
وإن مات على فراشه " . وتأملوا أيضًا ما صحّ عند الترمذي وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ’’ ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله
لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ ’’ .
فانظروا مدى انتفاع
المسلم بالدعاء والذكر إن وجد فيهما الصدق ، ومدى خسرانه وعدم انتفاعه بذلك مع غياب
الصدق من القلب والاقتصار على حركة الجوارح ، كذلك الذي يستغفر ربه وفي قلبه نية العودة
إلى الذنب ، فهذا كما قال السلف كالمستهزئ بربه ، واستغفاره يحتاج إلى استغفار، وفي
المقابل لو استغفر العبد ربه بصدق وعزم على عدم العودة إلى الذنب وندم على ما فات فإن
الله يغفر له، ولو عاد فوقع في الذنب مرة أخرى واستغفر بنفس الصدق السابق ذكره لغفر
الله له ، كما ورد بذلك الحديث الصحيح .
وذكر بعض علماء
السلف : أن العبد إذا قال في استفتاح صلاته : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض،
وقلبه مشغول بالدنيا فهو كاذب. فأيُّنا يحاسب نفسه على ألفاظه وأذكاره ودعواته ، وما
فيها من صدق وحضور قلب وصفاء نية؟ .
ثانياً : الصدق
في النية والإرادة :
ويسمى الإخلاص،
ويقابله الكذب أو الرياء؛ يقول الله عز وجل : (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا
اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) محمد:21 ، أي فإذا جدّ الحال وحضر القتال ، فلو أخلصوا
النية لله لكان خيرًا لهم ، وفي حديث " أول ثلاثة تسعر بهم النار، عالم ، ومتصدق
، وشهيد " أن الله يقول لكل منهم : " كذبت ، وإنما قرأت ، أو تصدقت ، أو
قاتلت ليقال كذا وكذا " . أي وليس صدقًا في طلب الثواب من الله عز وجل .
ومن علامات صدق
النية والرغبة في الأجر كتمان المصائب والطاعات جميعاً، وكراهة اطلاع الخلق على شئ
من ذلك .
ثالثاً : الصدق
في العزم والوفاء :
كأن يقول: إن أتاني
الله مالاً تصدقت بجميعه ، فقد يقول ذلك مع عدم صدق العزيمة ، بل مع التردد أو خلو
القلب من الصدق والإصرار على ما يتلفظ به ، وقد يقول ذلك مع عزيمة ثم يترك الصدق في
الوفاء عند تمكنه من ذلك : (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ
إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكَذِبُونَ) التوبة:75 ـ 77 . فأين هؤلاء ممن قال الله عز وجل فيهم : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب:23 . وقد نزلت في أنس بن النضر
، وقد صدق فعلَه قولُه لما تخلف عن غزوة بدر، تأسف قائلاً: "غبتُ عن أول غزوة
غزاها رسول الله ، فإن أشهدني الله موقعاً آخَر لَيَرَينَّ الله ما أصنع " ، فلما
كان يوم أحد وُجِد في الصحابة انكشاف وتراجع ، فقال : " اللهم إني أعتذر إليك
مما صنع هؤلاء ،يعني إخوانه المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، يعني المشركين
، ثم تقدم مقاتلاً تأتيه السهام تمزق جسمه ولا يلتفت إلى سهم أصابه ، بل ظل يتقدم ويتقدم
غير مبالٍ ولا جبان ولا خواف ، فيقابله سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن بعد موته
، يقابله سعد، فيقول أنس بن النضر: ( يا سعد بن معاذ، الجنة ! والله إني أشم ريحها
خلف جبل أحد ) ، ويتقدم مقاتلا إلى أن يحظى بالشهادة في سبيل الله ، وقد مُزِّق جسمُه
تمزيقاً، ولم يعرفه الناس من شدة التمزيق الذي حدث له ، إلا أنّ أخته جاءت تفتش في
القتلى فعرفته بأطراف أصابعه ، فنزلت هذه الآية .
رابعاً : الصدق
في العمل :
ويكون بإتقان العمل
، والبذل بالإتقان ، واستفراغ الجهد ، ومن هذا القبيل قول سعد لرسول الله صلى الله
عليه وسلم : ’’ إنا لصبر في الحرب ، صدق عند اللقاء ’’. أي صادقون في الحرب والقتال
، نثبت ونستفرغ الجهد ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب إذا عمل أحدكم
عملاً أن يتقنه" .
وذلك أن الإنسان
كما أنه قد يكذب في كلامه ، بأن يخبر بغير الواقع والحقيقة ، فكذا قد يكذب بعمله ،
فيوري بالضعيف من العمل ، ويضبط ظاهره دون باطنه ، ليخدع الناس أو يخدع نفسه ، فيظهر
لهم خلاف واقع العمل وحقيقته .
خامساً : الصدق
في كلام الناس وأحاديثهم :
فقد جعل الرسول
صلى الله عليه وسلم ، من الصفات الفارقة بين المؤمن والمنافق ، أن المؤمن يصدق الحديث
، والمنافق يكذب فيه ؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً : " آية المنافق ثلاث:
إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ". فالمؤمن إخوة الإسلام : لابد إذًا
أن يكون صادقًا في قوله وحديثه ، وفي عمله واعتقاده .
وكل منا ينبغي أن
يحاسب نفسه على ذلك ، فإنه من القبيح جدًّا أن يظهر التفريط بيننا في أمر الصدق ، أو
أن يقع أحدنا في آفة الكذب، سواء في القول أو الكلام أو العمل، كما يقع من البعض في
أداء الأعمال دون إتقان ، ودون روح ، ودون الجهد المطلوب ، أو في الذكر والدعاء ، بحيث
لا يوجد الصدق في القلب ، بل يكون الأمر مجرد كلمات ، أو حركات بلا رصيد في القلب وإصرار
وإلحاح ، أو في التعلم والعمل لنصرة هذا الدين والالتزام به ، حيث يبدو التكاسل والتفريط
والتخلف عن القيام بالواجب أو الدور المطلوب .
الخامس : وصية الآباء
والأمهات بتربية أبنائهم على الصدق ومجانبة الكذب :
واعلموا أن معلم
البشرية وهاديها ، محمد صلى الله عليه وسلم،، قد أوصى أمته بغرس فضيلة الصدق في نفوس
أطفالها، حتى تتأصل في نفوسهم ويشبوا عليها ، وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم من خلال
البيئة التي يتربون فيها والمجتمع الذي يعيشون فيه، وعلى الأم بالذات مسؤولية عظيمة
إن أحسنت القيام في بيتها في تنشئة أطفالها على الصدق، فعن عبد الله بن عامر ، قال:
دعتني أمي يومًا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك،
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أردت أن تعطيه؟!"، قالت: أردت
أن أعطيه تمرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إنكِ لو لم تعطيه شيئًا
كتبت عليك كذبة ". خذوا - أيها الأباء والأمهات - درساً، واغرسوا الصدق في أولادكم
غرساً ، وحذار من تعويدهم على الكذب أو السكوت عليهم أو مجاراتهم فيه مهما تكن الظروف
، فالأم راعية مسؤولة أمام الله جل وعلا، وكذا الأب . فانظروا عباد الله كيف يعلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم الأهل ، تنشئةَ الأولاد على الصدق، والتنزه عن الكذب الشين
البشع أعاذنا الله منه . ومن أسف شديد ، أن الآباء والأمهات لم يأخذوا بوصية نبيهم
صلى الله عليه وسلم ، بل عملوا بخلافها ؛ فهم يكذبون أمام أطفالهم ، ويكذبون عليهم
، بل يستخدمونهم أحياناً ليكذبوا على ألسنتهم إلا ما شاء الله ، نعوذ بالله من الكذب
سره وعلنه ، ظاهره وباطنه ، جده ومزحه ، فعليكم عباد الله بالعودة إلى مصدر دينكم وعزتكم
، والأخذ بوصايا نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فألزموا أنفسكم الصدق ، وربوا أولادكم
على الصدق كذلك ، فإن الصدق هو قمة الخير ونجاح الأمم ، وقد جاء في الحديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك الكذب
وإن كان مازحًا ". فاتق الله أخي المسلم ، واتقي الله أيتها المسلمة في الكذب
بصفة عامّة ، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدث أخاه حديثًاً هو له مصدّق وهو فيه كاذب ،عياذًا
بالله .
السادس : فوائد
الصدق وثماره :
وللصدق فوائد كثيرة
وثمرات جليلة منها :
1- بالصدق تتحقق
العبوديّة لله عزّ وجل : فإيمان العبد لا يتحقق إلا بصدقه ، ففي الحديث: الذي خرجه
مالك في الموطأ من حديث صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل فقيل له: يا
رسول الله هل يكون المؤمن جباناً ؟ قال: نعم - يعني قد يكون المؤمن جبانا ولا يقدح
هذا في إيمانه - ، قيل: يا رسول الله هل يكون المؤمن بخيلاً ؟ قال: نعم ، ثم قيل: يا
رسول الله هل يكون المؤمن كذاباً ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا ، ثم تلا قول الله
تعالى: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) النحل:105
.
2- الصدق لا يطيقه
إلا أهل العزائم ولا يصبر عليه إلا أصحاب الهمم : يقول ابن القيم رحمه الله تعالى
: ’’ فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي , لا يطيقه إلا أصحاب العزائم , فهم يتقلبون تحته
تقلب الحامل بحمله الثقيل .
3- عِظَم القَدْر،
وعُلُوّ المنزلة في المجتمع : فالذي يتحلّى بالصّدق يَعْظُم قَدْرُهُ، وتعلو منزلته
بين الناس؛ لاعتقادهم أنه ما فعل ذلك إلاّ عن حسن سيرة ، ونقاء سريرة ، وكمال عقل
.
4- الصدق أعلى درجات
البر ومفتاحها : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ
فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ
، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ
الله صِدِّيقًا..." مسلم :2607 .
5- إذا صدق حديثك
انعكس ذلك على رؤياك في منامك : قال عليه الصلاة والسلام : " إذا اقترب الزمان
لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، وأصدقُكم رؤيا أصدقُكُم حديثاً " فصِدق حديثك ينعكس
حتى على الرؤيا المنامية التي ترى في منامك ، إذ تتحقق بإذن الله ’’ أصدقكم رؤيا أصدقكم
حديثاً ’’.
6- الصدق يؤدي إلى
الثقة والطمأنينة والكذب يؤدي إلى الشك والريبة : فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دع ما يريبك إلي ما لا يريبك
, فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة " الترمذي (2518) وصححه الألباني ، فالصادق
لا يقع في ريبة ويكون حاسماً واثقاً من كلامه لا يخالف الصدق , ويحذر من الكذب وأحوال
الكذابين .
7- الصدق نجاة لصاحبه
: فكما في قصة كعب بن مالك لمّا تخلّف عن غزوة تبوك ، ولما جلس بين يدي رسول الله عليه
الصلاة والسلام قال: يا رسول الله، لقد أوتيتُ جدلاً، ولكني نظرت فقلتُ : إِنُ حدّثتُ
الآن بشيء كذِبٍ يوشك الله أن يسخطك علي ، فيا رسول الله ، لقد تخلفت عن غزوة تبوك
بلا سبب ، ( أي: إنني كنت معافيً، وكنت مُوسِرا، ولكني تخلفت )، وما زال الشيطان بي
حتى تخلفت عنك يا رسول الله ، فاقض بالذي أراك الله ، ثم انصرف ، فقال النبي بعدما
انصرف : " أما هذا فقد صدقكم " ، وأمر النبي بمقاطعته خمسين ليلة ، وباعتزاله
خمسين ليلة ، وجاء قومه يؤنبونه يقولون : لو كنتَ اعتذرت إلى رسول الله بأي عذر كان
قد قبله منك واستغفرت بعد ذلك !، فلم يلتفت إلى قولهم ؛ وبسبب صدقه جاءه الفرج ، وجاءت
توبة الله عليه : (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة:118 .
أما الذين كذبوا
على رسول الله فجاءت فيهم أقوال، قال تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا
انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) التوبة:95 .
8- الصادق يُرزَق
صدق الفراسة : فمَن صدقت لهجته ، ظهرت حجته ، فقد كان الصديق رضي الله عنه ، أعظم الأمة
فراسة ، وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ووقائع فراسته مشهورة ، فإنه ما قال لشيء:
أظنه كذا ، إلا كان كما قال ويكفي في فراسته : موافقته ربه في المواضع المعروفة .
9- البركة في الكسب،
والزيادة في الخير: فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : (( البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا ، أو قال: حتى يتفرَّقا ، فإن صدَقا وبيَّنا،
بُورِك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، مُحِقَتْ بركة بيعهما )) رواه البخاري ومسلم
.
10- الصدق دليل
القوة والثقة بالنفس : ففي مسند أحمد ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- قَالَ : ’’ أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ
مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصَدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ
، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ ’’ .
11- الصدق يميز
أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران : ففي الصحيحين عن أنس بن
مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث مَن كُنَّ فيه كان منافقًا:
إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان) رواه البخاري ومسلم ، وفي حديث أبي
هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب
......." البخاري(33)]. فالبصدق تعلو منزلتك ويشرف قدرك عند خالقك ، وبالصدق يصفو
بالك ويطيب عيشك .
12- الصدق من أسباب
النجاة من العذاب: قال سبحانه: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
﴾الأحزاب:24 .
13- الصدق مغفرة
للذنوب والأجر العظيم : قال عز وجل : ﴿...وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ
وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ
اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
﴾
14- التوفيق لحسن
الخاتمة : لما ثبت في الحديث الذي أخرجه النسائي وغيره ،عَنْ شَدَّادُ بْنُ الْهَادِ
: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ
وَاتَّبَعَهُ فَقَالَ : أُهَاجِرُ مَعَكَ فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ . فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم شَيْئًا ، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ
لَهُ ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا
هَذَا؟ قَالَوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ رسول الله، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَا هَذَا يَارسول الله ؟ قَالَ :« قَسْمٌ قَسَمْتُهُ
لَكَ ». قَالَ : مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ ، وَلَكِنِى اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ
أُرْمَى هَا هُنَا ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخَلَ الْجَنَّةَ
. فَقَالَ :« إِنْ تَصْدُقِ اللَّهُ يَصْدُقْكَ ». ثُمَّ نَهَضُوا إِلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ
فَأُتِىَ بِهِ النَّبِيُّ يُحْمَلُ وَقَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ . فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : هُوَ هُوَ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ : « صَدَقَ اللَّهَ
فَصَدَقَهُ ». فَكَفَّنَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي جُبَّتِهِ ، ثُمَّ
قَدَّمَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ صَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم : ’’ اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ ، قُتِلَ
شَهِيدًا أَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ ’’ . وفي مسند أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ قَالَ : ’’ الصِدْقُ وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ ، وَإِذَا
بَرَّ آمَنَ ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ’’ .
15- الصادق يفوز
بمنزلة الشهداء : ففي صحيح مسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ’’ مَنْ
سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ ،
وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ’’ .
16- الجزاء العظيم
بجنات تجري من تحتها الأنهار : قال سبحانه وتعالى : ﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
المائدة: 119 ، فأخبر سبحانه أنه لا ينفع العبد وينجيه من العذاب يوم القيامة إلا صدقه
. وفي مسند أحمد وغيره ،عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ : { اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ
، اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ
، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } وعن
أبي أمامة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا زعيم ببيت في ربض
الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا
، وببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه " أبو داود وحسنه الألباني . فهذا هو الرّبح
الأوفر لأهل الصدق، وأي ربح أعظم من الجنة .
17- بل إن منازل
أهل الصدق في الجنة من أعلى المنازل وأعظمها : حتى ظن البعض أنها منازل الأنبياء عليهم
السلام عندما سمعوها من سيد الصادقين وإمام المتقين ، محمد صلى الله عليه وسلم فقد
روى البخاري في صحيحه ،عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضى الله عنه عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ : « إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَيُونَ أَهْلَ الْغُرَفِ
مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَيُونَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الأُفُقِ
مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ » . قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ ؟ قَالَ :
((بَلَى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ
)) .
السابع : الصدق
طريق النجاة للأمم والمجتمعات :
إن من ضرورات الحياة
الاجتماعية، ومقوماتها الأصلية التي تقوم عليها : شيوع التفاهم والتآزر بين عناصر المجتمع
وأفراده، ليستطيعوا بذلك النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، وذلك لا يتحقق
إلا بالتفاهم الصحيح، وتبادل الثقة . وبديهي أن اللسان هو أداة التفاهم ، ومنطلق المعاني
والأفكار، والترجمان المفسر عما يدور في خلد الناس ، فهو يلعب دورًا خطيرًا في حياة
المجتمع ، وتجاوب مشاعره وأفكاره , وعلى صدقه أو كذبه ترتكز سعادة المجتمع أو شقاؤه
، فإن كان اللسان صادق اللهجة ، أمينًا في ترجمة خوالج النفس وأغراضها ، أدى رسالة
التفاهم والتواثق ، وكان رائد خير، وإن كان متصفًا بالخداع والتزوير، وخيانة الترجمة
والإعراب ، غدا رائد شر، ومدعاة تناكر، وتباغض بين أفراد المجتمع .
من أجل ذلك كان
الصدق من ضرورات المجتمع، وحاجاته الملحة، وكانت له آثاره وانعكاساته في حياة المجتمع,
فهو نظام عقد المجتمع السعيد ، ورمز خلقه الرفيع ، ودليل استقامة أفراده ونبلهم، والباعث
القوي على طيب السمعة ، وحسن الثناء والتقدير، وكسب الثقة من الناس .
كما له آثاره ومعطياته
في توفير الوقت الثمين، وكسب الراحة الجسمية والنفسية، فإذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم،
ارتاحوا جميعًا من عناء المماكسة ، وضياع الوقت الثمين في نشدان الواقع ، وتأمل معي
هذا الحديث فعن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا،
أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا،
وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" البخاري (2079) ومسلم
(1532) . فالبركة في البيع والشراء مرتبطة بصدق البائع والمشتري ، وعدم كتمان العيب،
والعكس بالعكس .
ولنسمع إلى قول
الله عز وجلّ في محكم كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا
مَعَ الصَّادِقِينَ) ، نستدلُّ من هذه الآية الكريمة بأنّ تحقيقَ التقوى ،وطاعة الله
، تستوجبُ عادةً بيئةً معيّنة تساعدُ المسلم على الطّاعة ، والبيئة التي تمّ ذكرُها
في هذه الآية الكريمة بيئة الصادقين، وقد خصّ الله عزّ وجلّ لفظةَ الصّادقين بهذه الآية
الكريمة دون غيرها من الألفاظ ؛ لأنّ الصادق هو الذي يستطيع نفع وتقديم كلّ ما هو خيرٌ
لغيره، وعندما يصاحبُ المسلمُ الصّادقين فإنّه يأخذُ من آدابِهم، وأخلاقهم، وعلمهم،
وأحوالهم، وهذا كله مدعاة لنجاة المرء .
فالصّدق سبيلُ الأمّة
للنجاة من المهالك، كما قال الرّسول عليه السّلام : ( إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى
الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ
حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ
يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ
كَذَّاباً ) .
يتحقّقُ البرُّ
هنا بالصدق، وهي كلمةٌ جامعة للأعمال الصالحة ، وجميع أبواب الخير ، أمّا الكذب الذي
يؤدّي إلى الفجور فيعني الميلَ والانحراف عن الحقّ، وهذه كلها موانعُ للخير، وكما ورد
أيضاً في الآية الكريمة : ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ ﴾ ، أي
الخير كله والفضل في الصدق والتصديق .
يقول الصديق رضي
الله عنه وأرضاه : ’’ الصدق أمانة والكذب خيانة ’’ .
ويقول أكثم بن صيفي
: ’’ الصدق منجاة والكذب مهواة ’’ .
ويقول قائل :
" الصدق في أقوالنا أقوالنا، والكذب في أفعالنا أفعالنا ’’ .
يقول أحدهم :
عليك بالصدق ولو
أنه *** أحرقك الصدق بنار الوعيد
وابغِ رضا المولى
فأغبى الورى *** من أسخط المولى وأرضى العبيد
ألا يا عباد الله
يقول المطيبة الأفواه بذكره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ’’ تحروا الصدق وإن
رأيتم أن فيه الهلكة ، فإن فيه النجاة ، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة ، فإن
فيه الهلكة ’’
الصدق أفضل شيء
أنت فاعله *** لا شيء كالصدق، لا فخر ولا حسب
الثامن : إياكم
والكذب :
إن الكذب رأس الرذائل،
فبالكذب يتصدع بناء المجتمع، ويختل نظامه، ويسقط صاحبه من العيون، وتدور حوله الظنون،
فلا يصدقونه في قول، ولا يثقون به في عمل، ولا يحبون له مجلساً، أحاديثه منبوذة ، وشهادته
مردودة , قال تعالى : (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ ) النحل :105 .
وفي حديث سمرة بن
جندب ، الذي رواه البخاري ومسلم ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر شيئاً من الأحداث
التي تقع في الآخرة ، وكان عليه الصلاة والسلام قد رأى ذلك في رؤيا ، رأى أنواعاً من
العذاب التي تقع على بعض العصاة ، قال عليه الصلاة والسلام : ’’ فانطلقنا فأتينا على
رجل ، وإذا آخر - يعني انطلقت أنا وجبريل وملك - وإذا آخر إذا رجل آخر بيده كلّوب وهو
حديده مثل السكين تكون معقوفة من أعلاها تستعمل عادة لحمل اللحم وتعليقه ونحو ذلك قال:
’’ وإذا رجل في يده كلّوب وإذا الرجل الآخر بين يديه وهذا الرجل الذي في يده الكلّوب
يضع الكلّوب في فم هذا الرجل الآخر فيشق فمه حتى يصل إلى أذنه يقول عليه الصلاة والسلام:
فيشرشر شدقه إلى قفاه إلى ما بعد أذنه إلى القفا ثم يخرج سكينه ثم يضعها في الجانب
الآخر فيشرشر شدقه إلى قفاه إلى الجهة الأخرى فإذا هذه الجهة الأولى قد عادت كما كانت
فيعود إليها يفعل بها ذلك فهذا عذابه فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فزع ،
فعلا منظر مفزع فزع قال: سبحان الله ما هذان؟ يعني لماذا يشق؟ ولماذا يعذب؟ ما هذان؟
فقال له جبريل: انطلق انطلق قال عليه الصلاة والسلام : فانطلقنا ، ثم في آخر الحديث
قال له جبريل: وأما الرجل الذي رأيته يشرشر شدقه إلى قفاه فهو الرجل يكذب الكذبة تبلغ
الأفاق " ، يصطنع الكلام وقد كان هذا ربما صعبا أن يكذب المرء كذبة تبلغ الأفاق
ربما كان صعبا فيما مضى ، لكنه اليوم ربما بكتابة في صحيفة أو كتابة في شبكة الانترنت
، أو كتابة أحياناً بالأجهزة الحديثة ، وعلى شبكان التواصل الاجتماعي يصنع الإنسان
خبراً ، أو يكذب كذبة ، أو يحكي أي شيء، ثم تجده ينطلق بضغطة من يده واحدة ، فهذا الرجل
يكذب الكذبة تبلغ الأفاق .
التاسع : أنواع
الكذب ومراتبه :
1- الكذب على الله
ورسوله : وهذا أعظم الكذب يقول الله جل وعلا: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا
حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) النحل:116 ، فلا يجوز أن يقول المرء إن الله
حرم هذا ، أو إن الله أباح هذا وهو لا يعلم ، فإن هذا كذب على الله تعالى وعلى أحكامه
، وكذلك أن يروي المرء حديثا يكذبه على رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول بأبي هو
وأمي: ’’ إن كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ،،
.
قبل أن تتكلم بحديث
تأكد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله ، وقبل أن تنقل حديثاً تأكد أنه حديث صحيح
قبل أن تنشره بين الناس .
2- الكذب الذي يدفع
إليه الحسد : فمثلاً تجد أنه يحسد صاحب البقالة الذي ينافسه ، أو يحسد زميله في العمل
، أو يحسد أخاه ، أو يحسد صاحبه في تجارة ، أو في غير ذلك ، يحسده فيفتري عليه الكذب
، يقول: أصلاً هذا أمواله فيها كذا وكذا ، أوهذا شهاداته مشكوك فيها ، ويبدأ يكذب عليه
، وإنما دفعه إلى هذا الحسد ، فهذا أيضاً من أقبح أنواع الكذب .
3- الكذب لإفساد
ذات البين : فيكذب على الزوجة ليفسد بينها وبين زوجها ، أو يكذب على الصديق ليفسد بينه
وبين صديقه ، وهذا من أعظم الجرائم بل بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الكذب للإصلاح
بين الناس جائز فما بالك بالكذب للإفساد بين الناس فهو من أعظم الجرائم يقول صلى الله
عليه وسلم: " ليس الكاذب من يسعى بين اثنين فيقول خيرا أو ينمي خيرا " بمعنى
أنك لو علمت أن امرأة بينها وبين زوجها خصومة ثم جئت إلى الرجل وقلت: لماذا لا تعود
إلى زوجتك وأبنائك؟ قال: هذه المرأة سيئة التعامل ولا تحبني ولا تحترمني فتقول: يا
أخي بالعكس أنا حدثتني زوجتي أن زوجتك تثني عليك في كل مجلس ، وتدعو لك ، ونادمة على
ما وقع منها ، وفي الواقع لم يقع هذا ولم تحدثك زوجتك بشيء ، لكنك كذبت لأجل أن تقرب
قلبه إليها ، ولأجل أن تزيل ما في قلبه من حقد عليها ومن ضغينة ، فهذا النوع من الكذب
جائز لأجل التوفيق وإرجاع الناس إلى بعض .
4- الكذب في الحُلم
والرؤيا : أن يُرِي المرء عينيه ما لم تريا ، وهذا أيضا من أقبح أنواع الكذب فإنه كما
جاء في الحديث يكلف أن يعقد يوم القيامة بين شعيرتين وليس بفاعل ، يعطى حبتين من الشعير
يقال له: اعقد بينهما اعملهما عقدة ولن يستطيع أن يفعل ذلك كما أنك افتريت شيئا لم
يقع الآن حاول أن تصنع شيئا لا يمكن أن يقع ، وهذا أيضا أيها المسلمون من أقبح أنواع
الكذب .
5- الكذب في المطالبة
بالحقوق : فتجد إنسانا مثلا ربما بينه وبين رئيسه في العمل ظلماً أو شكاية ، فإذا ذهب
ليشتكيه زاد على المشكلة أخباراً ليست حقيقية فهو يطالب بحقه وبماله ، فيقول: لا وقد
منعني أيضا راتبي في الشهر الفلاني، وهو أيضا لا يعطي الناس رواتبهم في أوقاتها ويبدأ
يكذب عليه من شدة ما في قلبه ، والأصل أن تطالب بحقك ، بالانضباط الشرعي الذي أباحته
الشريعة بقدر مالك من حق ، أما أن يبدأ الإنسان يفتري شيئا ، ظاناً أنه يطالب بحقه
، فهذا أيضاً من أعظم أنواع الكذب .
6- الكذب لاستدرار
العواطف : تجده مثلا يريدك أن تتصدق عليه ، أو أن تساعده بشفاعة ، أو غير ذلك فيبدأ
يكذب ويقول: وولدي مريض ، وسيارتي متعطلة وعلي ديون ، وهو ربما صادق في بعض ذلك ، لكنه
كذب في بعضه الآخر ، فالله جل وعلا لا يصلح عمل المفسدين ، إذا كنت كذاباً فلن يوفقك
الله تعالى لأجل أن يحسن إليك الآخرون ، نعم إن الله يحب المحسنين ، وحث الله تعالى
أولئك على الإحسان ، لكن لا يجوز أن تستدر عطفهم ومساعدتهم بالكذب ، أعطهم بمقدار ما
أباح الله تعالى لك من الشكاية إليهم وطلب المساعدة ، أما أن تكذب فوق ذلك فهذا من
أعظم ما حرم الله تعالى عليك .
{ وصلي
اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم }
تعليقات: (0) إضافة تعليق