العناصر:
أولاً : من أسماء
الله تعالى { العفو } : ثانياً : بم ينال المؤمن عفو ربه :
ثالثاً : اعفُ عن
الناس يَعْفُ الله عنك : رابعاً : العفْوُ غير محمودٌ مع من يتمادى في الإساءة والحمق
:
خامساً : نبينا
هو القدوة في العفو عن الناس : سادساً : صور من عفو الصحابه والتابعين :
سابعاً : من ثمرات
العفو :
الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
الحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات ، الحمد لله الذي خلق الأرض والسموات ، الحمد لله الذي علم العثرات،
فسترها على أهلها وأنزل الرحمات ، ثم غفرها لهم ومحا السيئات ، فله الحمد ملء خزائن
البركات ، وله الحمد ما تتابعت بالقلب النبضات ، وله الحمد ما تعاقبت الخطوات ، وله
الحمد عدد حبات الرمال في الفلوات ، وعدد ذرات الهواء في الأرض والسماوات ، وعدد الحركات
والسكنات .
وأشهد أن لا إله
إلا الله : لا مفرّج للكربات إلا هو ، ولا مقيل للعثرات إلا هو ، ولا مدبر للملكوت
إلا هو، ولا سامع للأصوات إلا هو ، ما نزل غيث إلا بمداد حكمته ، وما انتصر دين إلا
بمداد عزته ، وما اقشعرت القلوب إلا مِن عظمته ، وما سقط حجرٌ من جبل إلا من خشيته
.
وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله قام في خدمته ، وقضى نحبه في الدعوة لعبادته ، وأقام اعوجاج الخلق بشريعته
، وعاش للتوحيد ففاز بخلته ، وصبر على دعوته فارتوى من نهر محبته ..... صلى الله وسلم
عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه ، واستن بسنته ، وسلم تسليمًا كثيرا إلى
يوم الدين .
أما بعــــــــــــــــــــــــد
:
أولاً : من أسماء
الله تعالى { العفو } :
العفو مصدر : عَفَا
يَعْفُو عَفْوًا، فهو عافٍ وعَفُوٌّ، والعَفْوُ هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه،
وأصله المـحو والطمس وعفوت عن الحق: أسقطته ، كأنك محوته عن الذي عليه .
وقال الخليل: (وكلُّ
مَن استحقَّ عُقوبةً فتركْتَه فقد عفوتَ عنه. وقد يكون أن يعفُوَ الإنسان عن الشَّيء
بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق) و العفو اصطلاحاً : (هو التجاوز عن الذنب وترك
العقاب) ، وقال الراغب : (العفو هو التجافي عن الذنب) .
والعفوُّ : هو اسم
من أسماء الله الحسنى ، على وزن فعول بصيغة المبالغة ,
فالله هو العفوُّ
سبحانه ، وهو الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها ويستر العيوب
ولا يحب الجهر بها يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلاً وإنعامًا
، حتى يزول اليأس من القلوب وتتعلق في رجائها بمقلب القلوب . ومن حِكمة الله عزَّ وجلَّ
: تعريفه عبده أنه لا سبيل له إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته، وأنه رهينٌ بحقه فإن لم
يتغمده بعفوه ومغفرته وإلا فهو من الهالكين لا محالة .. فليس أحدٌ من خلقه إلا وهو
محتاجٌ إلى عفوه ومغفرته ، كما هو محتاجٌ إلى فضله ورحمته .
وأَما المُعافاةُ
: فأَنْ يُعافِيَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ ويُعافِيَهم منكَ ، أي : يُغْنيك عَنْهُمْ
وَيُغْنِيَهِمْ عنك ويصرف أَذاهم عَنْكَ وأَذاك عَنْهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ مُفاعَلَة
مِنَ العفوِ، وَهُوَ أَن يَعْفُوَ عَنِ النَّاسِ ويَعْفُوا هُمْ عَنْهُ. لسان العرب
.
وقد ورد اسم الله
{ العفو} في القرآن الكريم خمس مرات : في قوله تعالى : ﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّاً غَفُوراً ﴾ سورة النساء:43 . وفي قوله
تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّاً
غَفُوراً ﴾ سورة النساء:99 . وفي قوله تعالى : ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ سورة النساء:149
. وفي قوله تعالى : ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ
عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ سورة الحج :60
. وفي قوله تعالى : ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ سورة المجادلة :2
أما في السنة النبوية
: فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «قلت: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟، قَالَ : تَقُولِينَ: «اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ
الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رواه ابن ماجة وصححه الألباني . وعن عبد الله بن عمر رضي
الله عنه قال : « لم يكن رسول الله يَدَعْ هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح ، اللهم
إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني
ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن
يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي » ، رواه ابن ماجة وصححه الألباني
. قال ابن جريرالطبري في تفسيره : «﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ سورة النساء:43
، أي: إن الله لم يزل عفوًا عن ذنوب عباده، وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا
به . وقال السعدي في تفسيره : «العَفْوُّ، الغَفور، الغَفَّار الذي لم يزل، ولا يزال
بالعفو معروفًا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا، كل أحدٍ مضطرٌ إلى عفوه ومغفرته،
كما هو مضطرٌ إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها، قال تعالى:
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ سورة
طه:82 . وقال الزجاج [ في كتابه : تفسير الأسماء ]: والله تعالى عفوٌّ عن الذنوب، تاركٌ
العقوبة عليها . وقال الخطابي [في كتابه : شأن الدعاء]: «العَفْوُّ: الصَّفحُ عن الذنوب،
وتركُ مُجازاة المسيء . وقال الحليمي [ في : المنهاج ]: «العَفْوُّ، معناه: الواضعُ
عن عباده تَبِعَات خطاياهم وآثارهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا،
أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا، فيُكفِّر عنهم ما فعلوا بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع
لهم، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به، وجزاء له بعمله . وقال ابن القيم في النونية
: وَهْوَ العَفُوُّ فعَفْوُهُ وَسِعَ الوَرَى *** لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بالسُّكَّانِ
والعفو أبلغ من
المغفرة :
قال الغزالي :
’’ العَفْوُّ: هو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو قريب من الغَفور ولكنه
أبلغ منه، فإن الغفران ينبيء عن الستر والعفو ينبيء عن المحو والمحو أبلغ من الستر
’’ .»
وقال محمد منير
الدمشقي في الإتحافات السنية : ’’ العفو في حق الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب
بالكلية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من
قلوبهم، لئلا يخجلوا عند تذكيرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، والعفو أبلغ من المغفرة،
لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر ’’ .
ثانياً : بم ينال
المؤمن عفو ربه :
هناك كثير من الأسباب
تجعل المسلم ينال عفو الله ومنها :
1- كثرة الدعـــاء
باسم الله العَفْوُّ وسؤال الله العفو والعافية :
وقد ورد الدعاء
بالاسم المطلق في حديث عائشة أنها قالت: قلت: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟، قَالَ " تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ
تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" ، رواه ابن ماجه وصححه الألباني . وعن أبي
بكر قال : قام رسول الله على المنبر ثم بكى ، فقال " سلوا الله العفو والعافية
، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية " رواه الترمذي وصححه الألباني،
مشكاة المصابيح . وعن ابن عمر قال : لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين
يصبح " اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو
والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين
يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي " , رواه
ابن ماجه وصححه الألباني .
2- عدم المجاهرة
بالذنــب :
فعَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ
، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ
يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ
كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ
عَنْهُ " متفق عليه .
3- سرعة الاستغفار
والتوبة بعد الذنب :
فمن كمال عفوه سبحانه
أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثمَّ تاب إليه ورجع ، غفر له جميع جُرْمِهِ .. كما قال
تعالى :{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ }،الزمر: 53 .
وليعجل بالتوبة
والاستغفار ، وعدم الانتظار ، فلعله أورث النسيان ، ففي حديث أبي أمامة عن النبي صلى
الله عليه وسلم : «إِن صاحب الشِّمال ليرفع القلم سِتَّ ساعات عن العبد المسلم المخطئ
أو المسيء، فإِن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كُتِبت واحدة» ، صحيح الجامع
. وهذا بخلاف الحسنة التي يكتبها ملك الحسنات على الفور، ويكتبها عشرًا لا واحدة ،
ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة .
ثالثاً : اعفُ عن
الناس يَعْفُ الله عنك :
تتفاوت درجات الناس
فى الثبات أمام المثيرات ، فمنهم من تستخفه التوافه فيستحمق على عجل ، ومنهم من تستفزه
الشدائد فيبقى على وقعها الأليم محتفظا برجاحة فكرة وحسن خلقه . ومع أن للطباع الأصيلة
فى النفس دخلا كبيرا فى أنصبة الناس من الحدة والهدوء ، والعجلة والأناة ، والكدر والنقاء،إلا
أن هناك ارتباطا مؤكدا بين ثقة المرء بنفسه وحسن تدينه ، وبين أناته مع الآخرين ، وتجاوزه
عن خطئهم ، فالرجل العظيم حقا كلما حلق فى آفاق الكمال اتسع صدره ، وامتد حلمه ، وعذر
الناس من أنفسهم ، والتمس المبررات لأغلاطهم ! فإذا عدا عليه غرٌّ جهول يريد تجريحه
، نظر إليه من قمته كما ينظر الفيلسوف إلى صبيان يعبثون فى الطريق ،وقد يرمونه بالأحجار
.
وهذا المعنى يفسر
لنا حلم هود وهو يستمع إلى إجابة قومه بعد ما دعاهم إلى توحيد الله ، قالوا:
" إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ، قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني
رسول من رب العالمين ، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين". إن شتائم هؤلاء
الجهال لم يطش لها ، حلم هود ، لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا فهو فى الذؤابة
من الخير والبر ، وبين قوم سفهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأحجار يحسبونها لغبائهم
تضر وتنفع ! كيف يضيق المعلم الكبير بخرف هذه القطعان .
: وقد فصل النبي
صلى الله عليه وسلم صنوف الخلق ومنازلهم فى الفضل عند ربهم ، وعلى المؤمن يضع نفسه
حيث يجب ففي الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم ، خطب فى الناس عصر يوم من الأيام
فكان مما قاله لهم : ’’ إن بنى آدم خلقوا على طبقات شتى : ألا وإن منهم البطيء الغضب
سريع الفيء ، والسريع الغضب سريع الفيء ، والبطيء الغضب بطيء الفيء ، فتلك بتلك ، ألا
وإن منهم سريع الفيء سريع الغضب ، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء ، وشرهم سريع الغضب
بطيء الفيء ، ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ، ومنهم سيئ القضاء حسن الطلب ، ومنهم
سيئ الطلب حسن القضاء ، فتلك بتلك ، ألا وإن منهم سيئ القضاء سيئ الطلب ، ألا وخيرهم
الحسن القضاء الحسن الطلب ، وشرهم سيئ القضاء سيئ الطلب ، ألا وإن الغضب جمرة فى قلب
ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ،فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض
,, أى فليبق مكانه وليجلس ، فإنه إذا استطير وراء لهب الغيظ ، أفسد الأمور فى غيبة
وعيه , وغلبة عاطفته فلم يدع لإصلاحها مكاناً .
لقد جاء النبي بهذا
الدين ومبادئه ليعالج سيئ أخلاق الجاهلية : وإن الجاهلية التى عالجها رسول الله صلى
الله عليه وسلم كانت تقوم على ضربين من الجهالة ، جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم .
فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد ، وأما الأخرى فكف ظلمها
يعتمد على كبح الهوى ومنع الفساد ، وقد كان العرب الأولون يفخرون بأنهم يلقون الجهل
بجهل أشد ، حتى قال شاعرهم : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فجاء
الإسلام يكفكف من هذا النزوان ، ويقيم أركان المجتمع على الفضل فإن تعذر فالعدل ، ولن
تتحقق هذه الغاية إلا إذا هيمن العقل الراشد على غرائزه .
وقد جعل الله العفو
عن الناس هو طريق الفلاح : وإن مما يدل على عظمة هذا الدين أن الله تعالى جعل العفو
عن الناس هو طريق الفلاح التى يسرع بصاحبه إلى جنات العلا ، قال تعالى : ’’ وسارعوا
إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء
والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين’’ .
وفى الحديث :
" من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى
يخيره فى أى الحور شاء " وعن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات ؟ قالوا : نعم يا رسول
الله ، قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك . وتعطى من حرمك ? وتصل من قطعك
" . ’
إن الله تبارك وتعالى
قد وضعنا أمام معادلة لاتتغير : معادلة ثابتة بثبات الألوهية والربوبية ، فهو يعفو
عنك ، بمقــدار ماتعفو أنت عن عباده ، فهو يجازيك من جنس عملك. ان كنتَ رجلاً صفحاً
متسامحاً عفوَّاً مغفاراً كريماً .. جزاك بالمعنى نفسه ، قال تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } ، الشورى: 40 . فاعْفُ عن الظالمين، وأَعْرِض عن الجاهلين،
ويَسِّر علي المعسرين طلباً لعفو الله عند لقائه . وقال تعالى ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا
أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)
149 النساء . تأمل في هذه الكلمة ’’ ... تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ... ’’ أي شيء يسوءك من
فعال أو أقوال بالإيجاب أو بالسلب ، أي سوء تعفو عنه فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا
قَدِيرًا. كما تعفو انت ، يعفو الله عنك .
اعفُ عند القدرة
على الإنتصار وأيضا عند عدم القدرة : وانتبه لكلمة عَفُوًّا قَدِيرًا ، فالله يعفو
مع قدرته على عباده ، أما أنت فقد تعفو وأنت مقتدر ، و قد تعفو وأنت غير مقتدر !، ومن
الفلسفة الخاطئةُ التي شاعت بين المسلمين أن : (العفو عند المقدرة فقط ) ، وهذا خطأ
، فالعفو عند المقدرة نعم ، والعفوأيضاً عند غير المقدرة.. نظرية قرآنية عجيبة ، فهناك
عفو العاجز أيضا.. حتى العاجز يعفو ..العاجز في ظنك في وهمك في وهمي يستطيع أن يعفو
، لآن هذا العاجز ،غير عاجز وهو قادر على ان يدعو على ظالمه ؛ فهذه اعظم مصيبة تحلّ
بالظالم أيا كان ، ان يُبتلى بأن يدعوا عليه مظلوم ، مسكين هو.. لأن الله موجود ، ومن
يؤمن ان الله الذي لا اله الا هو موجود يؤمن ويدرك ان هذه أعظم كارثة يوعد بها الظّلمة
، ان يدعوا عليه من لايجد ناصراً الا الله قال تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون الشعراء 227 ، لكن المؤمن الحق العفو، لايدعوا، يفوّض
امره الى الله ، وربما يقول : اللهم لاتؤاخذه ، اللهم لاتجعلني سبباً في عذابه.. هذا
المؤمن الذي يحبه الله . وكما يعفو هو.. سيعفو الله عنه ، لايمكن ان تُباري الله في
صفاته ، نعم أُمِرنا ان نتخلق بأخلاق الرّب ، وهذه في مُقدّم أخلاق الله التي ينبغي
ان نتخلق بها ، هو عفو ، ونحن نعفو، هو غفور ونحن مدعوون الى المغفرة ، وتأكيدا على
هذا المعنى الجليـــل يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ثــلاث انا حالف بالله
عليهن، (يقول حالف وليس سيحلف ليؤكد للمترددين والذين يظنون) لاينقص مال من صدقة فتصدقوا
، (يريد ان يبعث امّة كريمة مِعطاءة باذلة ، أمور كثيرة لاتتم الا بالعطاء والبذل أيها
الاخوة ،لا بالبخل والشح ) ، ولا يُظلَمُ عبد فيعفو، إلا زاده الله عِزّاً يوم القيامة
(وأيضا في الدنيا ،له العزة في الدنيا أيضا لكن في الاخرة يظهر هذا العز على رؤس الخلائق
جمعاء) ، ومافتحَ عبدٌ باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه به باب فقر " ، هذا الدين
يربّي اتباعه أبناؤه على ان يكونوا اعفّة كرماء اعِزّاء مرفوعي الرأس دائما، النبي
يُقسِم على هؤلاء الثلاث .
لا تنتصر لنفسك
ممن ظلمك بالدعاء عليه : والعفو عزٌّللمؤمن ، ليس ذُلاّ ، وليس ضعفا ، والمؤمن حتى
لايدعوعلى من ظلمه ، ففي سنن ابي داود ، من حديث عائشة ، أنها سُرِقَتْ ملحفة لها ،
فجعلت تدعو على من سرقها ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها : (ياعائشة لا تُسبِّخي
عنه) قال أبو داود: لا تسبخي ، يعني: لا تخففي عنه (والتسبيخ هو التخيف: سبّخ الله
عنه الحمّى إذا خففها)، قال أنتِ بهذه الطريقة تخففين عنه المؤاخذة يوم القيامة لأنك
تنالين بعض حقك بالدعاء عليه .
وخرجه الإمام [
أحمد في مسنده ] من وجه آخر ، عن عائشة قالت: وذكر هنا بمعناه ، سرقت لحفتـي ، فـدعوت
الله على صـاحبها ، فقـال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبخي عليه ، دعيه بذنبه
) والمراد: أن من ذهب له مال بسرقة ، ونحوها فإن ذهابه ، من جملة المصائب الدنيوية
، والمصـائب كلها كفارة للذنوب ، والصبر عليها : يُحَصِّل للصابر الأجر الجزيل . فإذا
دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا ، فقد استوفى منه بدعائه بعض حقه ، فخـف وزر الظالم
بذلك . فلهذا ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تصبر ، فلا تدعو عليه ، فإن
ذلك يخفف عنه . وخرج التـرمذي مـن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’
من دعا على من ظلمه فقد انتصر ’’ وروى ليث عن طلحة : أن رجلا لطم رجلا فقال: اللهم
إن كان ظلمني فاكفنيه فقال له مسروق : قد اسـتوفيت . وقـال مجـاهد : لا تسبن أحدا ،
فإن ذلك يخفف عنه ، ولكن أحـب لله بقلبك وأبغض لله بقلبك . وقال سالم بن أبي الجعد
: الدعاء قصاص .
بل إن هذا الدين
يُفهّمنا ماهو أعظم من هذا : وهنا لاتوجد فلسفة في العالم تَعدِل هذا الدين !!!!! ،
فأنت حين تدعو على من ظلمك ربما تجاوزت في الدعاء ، فتؤاخذ أنت يوم القيامة أيضا !
، يعني تخيلوا ان تكون مظلوما فتدعو على الظالم ، وفي القيامة تؤاخَذ بدعائك ، لأنه
هو ظلمك قيراطا مثلا، فدعوت عليه بجزاء من ظَلمَ أربعة قراريط ، فستؤاخذ انت بجزاء
ثلاثة قراريط . فقد شكا رجل إلى عمر بن عبد العزيز رجلاً ظلمه ، وجعل يقع فيه ، فقال
له عمر : إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي ، خير لك من أن تلقاه ، وقد استقضيتها ،
وقال أيضـاً : بلغنـي أن الـرجل ، ليـُظلم بمظلمة ، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه
، حتى يستوفي حقه ، ويكون للظالم الفضل عليه .
والمؤمن ليس سباباً
ولا لعاناً : ومن الناس من لا يسكت عنه الغضب ، فهو فى ثورة دائمة ، إذا مسه أحد ارتعش
كالمحموم ، وأنشأ يُرغى ويزبد ويلعن ويطعن والإسلام برىء من هذه الخلال الكدرة . قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء
" . ووفد أعرابى على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قلت : اعهد إلى ، قال
: ’’ لا تسبن أحدا ’’ قال الأعرابي ، فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة
قال : ’’ ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، إن ذلك
من المعروف .. ثم قال : وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك ، فلا تعيره بما تعلم فيه
، فإنما وبال ذلك عليه ’’ . إن الذين يستنزلون اللعنات على غيرهم لأتفه الأسباب يتعرضون
لبلاء جسيم ، بل إن المرء يجب أن يتنزه عن لعن غيره ، ولو أصابه منه الأذى الشديد
. وكلما ربا الإيمان فى القلب ربت معه السماحة وازداد الحلم ، ونفر المرء من طلب الهلاك
والغضب للمخطئين فى حقه . قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله على المشركين
والعنهم ! فقال: " إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا " وعلى قدر ما يضبط المسلم
نفسه ، ويكظم غيظه ويملك قوله ، ويتجاوز عن الهفوات ، ويرثى للعثرات ، تكون منزلته
عند الله ومن ثم استنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى بكر أن يلعن بعض رقيقه
وقال: ’’ ولا ينبغى لصديق أن يكون لعانا " . وفى رواية: "لا يجتمع أن تكونوا
لعانين وصديقين " فأعتق أبو بكر أولئك الرقيق كفارة عما بدر منه لهم ، وجاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يقول له : لا أعود !! وذلك أن اللعن قذيفة طائشة خطرة ، يدفع
إليها الغضب الأعمى أكثر مما يدفع إليها استحقاق العقاب ، واستهانة الناس بهذه الدعوات
الشداد لا تليق ، لأنه لا يفلت من وبالها أحد . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ’’ إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء ، فتغلق أبواب السماء دونها ، ثم
تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها ، ثم تأخذ يمينا وشمالا ، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى
الذى لعن ، فإن كان أهلا.. وإلا رجعت إلى قائلها ’’ .
ولله در الشافعي
حين قال : قالوا سَكتّ وقد خُوصِمْتَ قلتُ لهم ****** إنّ الجواب لِبَابِ الشّرّ مفتاحُ
فالعفو عن جاهل
أو أحمق أدبٌ ****** نعَم وفيه لِصوْن العِرض إصلاحُ
إنّ الأسُودَ لتُخشى
وهي صامِتة ****** والكلبُ يُحْثى ويُرْمَى وهو نبّاحُ
والقوي حقاً من
يبتلع غضبه فلا ينفجر : ولا شك أن الإنسان يحزنه أى تهجم على شخصه أو على من يحب ،
وإذا واتته أسباب الثأر سارع إلى مجازاة السيئة بمثلها ولا يقر له قرار إلا إذا أدخل
من الضيق على غريمه بقدر ما شعر به هو نفسه من ألم ، لكن هناك مسلكا أنبل من ذلك وأرضى
لله ، وأدل على العظمة والمروءة ، وهو أن يبتلع غضبه فلا ينفجر وأن يقبض يده فلا يقتص
، وأن يجعل عفوه عن المسىء من شكر الله الذى أقدره على أن يأخذ بحقه إذا شاء . عن ابن
مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’ ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذى لا
تصرعه الرجال . قال: ولكنة الذى يملك نفسه عند الغضب ’’ .
وما أجمل قول الشافعي
:
لما عفوت، ولم أحقد
على أحدٍ --- أرحت قلبي من غم العداوات
إني أحي عدوي عند
رؤيته --- لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان
أبغضه --- كأنما قد حشى قلبي محبات
رابعاً : العفْوُ
غير محمودٌ مع من يتمادى في الإساءة والحمق :
الهدفُ من العفوِ:
هو الإصلاحُ ، فإن لم يتحقَّقِ الإصلاحُ مع تَكْرارِ العفوِ ، وتمادى المُسيءُ في إساءتِه
، إلى درجةٍ تتسبَّبُ في الأذَى البالغِ للمُساء إليه ، فهنا وجبَ الأخذُ بالحقِّ ،
والمطالبة بعقوبة المسيء ؛ لذلك قال شيخُ الإسلامِ ابن تيمية : الإصلاحُ واجب، والعفوُ
مندوبٌ، فإذا كان في العفو فواتُ الإصلاحِ ، فمعنى ذلك أننا قدَّمْنَا مندوبًا على
واجبٍ ، وهذا لا تأتي به الشريعةُ وقد صدق رحمه الله . وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم: ((لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه))، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال:
((يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ)) رواه الترمذي ، وهو حديث حسن لغيره . أَيْ
: إ ن الإنسانَ لا ينبغي له أن يترُكَ نفسَه تتعرضُ للإساءة والإهانة باستمرار، مُتَّسمًا
بالعفو في موضعٍ لا يؤدِّي العفوُ لإصلاح ، زاعمًا أن الشرعَ حثَّ على العفْوِ، بل
ينبغي أن يكون المسلمُ عزيزًا بدينِه وتسامحِه ، وإذا تحوَّلتِ العزةُ بالعفوِ إلى
ذِلَّةٍ وإهانةٍ ، فهنا وجَبَ عليه أن يقف وقفةً حازمة ، فالله عز وجل عادلٌ لا يقبل
الإهانةَ والذلَّ ، وكما حث سبحانه على العفو ، فقد حث أيضًا على القِصاص ، والأخذِ
حينما يَستدْعي الأمر ذلك . وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يؤذون
المسلمين قائلاً : ((يا معشرَ مَن أسلمَ بلسانِه ، ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا
تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم ، ولا تتَّبعوا عَوراتِهم ؛ فإنه مَن تتبَّع عورةَ أخيهِ
المسلم، تتبَّع الله عورتَه ، ومَن تتبَّع اللهُ عورتَه، يفضَحه ولو في جَوفِ رَحْلِه))
، رواه الترمذي ، وهو حديث حسن . وقد رأينا رسول الله أكثر من مرة ، يقتص ويقيم الحدود
في بعض المسئين ردعاً ، وزجراً لأصحاب النفوس الضعيفة من التطاول والإساءة كما سنرى
في حادثة الإفك بعد قليل .
ما يجب على المسلم
بعد ردع المسيئ وأخذ الحق : الأمر هنا يعتمد على مدى الإساءةِ ، وهل كان الأخذ سبباً
لردع المسيء أم لا ؟ فإن تحقق الإصلاحُ ، وتم ردع المسيء ، فينبغي على المُسَاءِ إليه
أن يعفوَ، ويصفحَ ويسامحَ ، أما إن لم يتحقَّقِ الإصلاح ، واستمر المسيء في قناعاتِه
بأنه غيرُ مُخطئٍ ، واستمر في إساءتِه ، فهنا وجَبَ تجنبُه ؛ اتِّقاءً لشره وأذاه ،
وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم من يتجنَّبه الناس اتِّقاءَ شرِّه وفُحْشِه من
شِرارِ الناس منزلةً عندَ اللهِ يومَ القيامة، فقال: ((إن شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً
يومَ القيامةِ: مَن تركَه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه)) ، رواه البخاري . كم هو مُحزنٌ أن
يصلَ حالُ المسلمين إلى هذا الحالِ من السوء، ويطغَوْا على المظلومِ تحت شعار العفو
والسماح ، ويتمادَوْا في الإساءةِ ، ناسين أن الإسلامَ دينُ وسطيَّة ، راعى حقوق الجميعِ
، وأن الله عز وجل عادلٌ ، ووضَعَ موازينَ وضوابطَ لكلِّ شيء وما أجمل قول من قال
: ميِّزوا بينَ الذل والتواضع ، فما من فضيلة إلا وهي بين رذيلتَيْنِ ، والتواضعُ منزلةٌ
بينَ الكِبْرِ والذل ، لِنْ في الجانب للمسلمين ولا تترفَّع على أحد ، وفي المقابل
لا تسْتَكِن لأحد وترفعه فوق المنزلة التي يستحق " .
خامساً : نبينا
هو القدوة في العفو عن الناس : أمر الله تعالى نبينا محمدًا بالعفو عن الناس فامتثل
أمره ، وكان نبينا هو القدوة في العفو عن الناس بقوله وفعله ، ومن ذلك :
ما روي عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم غَزْوَةَ نَجْدٍ ، فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ وَهُوَ فِي وَادٍ
كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ بِهَا ، وَعَلَّقَ سَيْفَهُ
؛ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ ، وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ
إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ فَجِئْنَا فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ : «إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي فَاسْتَيْقَظْتُ
وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ سيفي صَلْتًا))، قَالَ : " مَنْ يَمْنَعُكَ
مِنِّي ؟ " قُلْتُ : «اللَّهُ»، فَشَامَهُ ثُمَّ قَعَدَ ، فَهُوَ هَذَا قَالَ
وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ»البخاري)(
وعن عُرْوَةَ بن
الزبير أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ
لِلنَّبِيِّ: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟"
قَالَ: « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ
مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ
بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ؛ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا
مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ
، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا
فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي ، فَقَالَ : "إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ
قَوْمِكَ لَكَ ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ
لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ " فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ
عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ
لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي
بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ
" ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا » ،البخاري، ومسلم .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ
نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ
جذب جَبْذَةً شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ
وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
"يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ،
فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"، البخاري مسلم .
عفو رسول الله عن
زعيم المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول : ومن قصص العفو التى لا مثيل لها بين الناس
? عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبى ? فإن عبد الله
هذا كان عدّوا لدودا للمسلمين يتربص بهم الدوائر ? ويحالف عليهم الشيطان ويحيك لهم
المؤامرات ? ولا يجد فرصة للطعن عليهم والنيل من نبيهم إلا انتهزها وهو الذى أشاع قالة
السوء في أم المؤمنين عائشة ? وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها ، ويهزٌّون أركان
المجتمع الإسلامى هزا بهذا الاتهام الدنىء ? وتقاليد الشرق من قديم تجعل عرض المرأة
فى الذروة من القداسة وتربط به كرامتها وكرامة أهلها الأبعدين والأقربين . ولذلك كان
حز الألم قاسيا فى نفس الرسول وأصحابه ? وكانت الغضاضة من هذا التلفيق الجرىء تملأ
نفوسهم كآبة وغما ? حتى نزلت الآيات أخر الأمر تكشف مكر المنافقين وتفضح ما اجترحوا
وتشهد بطهر أم المؤمنين ونقاء صفحتها : "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه
شرا لكم بل هو خير لكم لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب
عظيم" . ولقد أقيم الحد على من كانوا مخالب القط فى هذه المأساة ، أما جرثومة
الشر الذي نشر الإشاعة همساً وتعريضاً ، فإنه نجا.. ليستأنف كيده للمسلمين وسوق الأذى
لهم ما استطاع !! وكتب الله الفوز لرسوله وجنده واكتسح الإسلام مخلفات القرون المخرفة
، وانحصر أعداؤه فى حدود أنفسهم بل لقد دخلت عليهم من أقطارها وانكمش ابن أبى ثم مرض
ومات ، بعد ما ملأت رائحة نفاقه كل فج ، وجاء ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يطلب منه الصفح عن أبيه فصفح ، ثم طلب منه أن يكفن فى قميصه فمنحه إياه ? ثم طلب منه
أن يصلى عليه ويستغفر له ، فلم يرد له الرسول الرقيق العفو هذا السؤال ، بل وقف أمام
جثمان الطاعن فى عرضه بالأمس يستدر له المغفرة . لكن العدالة العليا حسمت الأمر كله
فنزل قوله تعالى : ’’ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ،
عفو الرسول عن المرأة
اليهودية : روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً
أَتَتْ النَّبِيَّ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ
: " أَلاَ نَقْتُلُهَا ؟ " قَالَ: « لاَ، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ
رَسُولِ اللَّهِ » البخاري .
عفو الرسول عن أهل
مكة : لما فتح الرسول مكة ، اجتمع له أهلها عند الكعبة ، ثُمّ قَالَ : « يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ » قَالُوا : "خَيْراً، أَخٌ كَرِيمٌ
وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ " قَالَ : « اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ » ، سيرة
ابن هشام .
سادساً : صور من
عفو الصحابه والتابعين :
أبو بكر الصديق
رضي الله عنه: ومما يتصل بحادثة الإفك أن أبا بكرالصديق كان ينفق على مِسْطح بن أثاثة
لفقره وقرابته منه ، وكان مِسْطح من الذين خاضوا في حادث الإفك ، وتكلم في عِرض عائشة
، فلما عَلِمَ أبو بكر بذلك ، أقسم ألا ينفق عليه بعد ذلك ، فأنزل الله تعالى : {وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] فقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: "بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا،
وَعَادَ لمسطح بِمَا كَانَ يَصْنَعُ" البخاري
عمر بن الخطاب رضي
الله عنه : روى البخاري عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ
بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ،
وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ
مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا؛ فَقَالَ عُيَيْنَةُ
لابْنِ أَخِيهِ: "يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ
لِي عَلَيْهِ" قَالَ: "سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ"، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَيْهِ قَالَ: "هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ،
وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ"، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ
بِهِ؛ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تعالى
قَالَ لِنَبِيِّهِ: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}
[الأعراف:199] وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ
حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ؛ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ . البخاري . وإنما
غضب عمر لتطاول الأعرابى عليه ، وهم بردعه ، لأنه لم يدخل عليه ناصحا بخير أو طالبا
لحق ، وإنما دخل على حاكم فى سلطانه ليشتمه دون مبرر وليسأله عطاء جزلا على غير عمل
!! فلما ذكِّر بأن الرجل من الجهال أعرض عنه وتركه ينصرف سالماً .
عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه : جلس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في السوق يشتري طعاماً ، فابتاع
ثم طلب الدراهم ، وكانت في عمامته فوجدها قد سُرقت؛ فقال: "لقد جلست وإنها لمعي"،
فجعلوا يدعون على مَن أخذها، ويقولون: "اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم
افعل به كذا"، فقال عبد الله: "اللهم إن كان حَمَلَه على أَخْذِها حاجةٌ
فبارك له فيها، وإن كان حَمَلتْهُ جَرَاءَةٌ على الذنْب فاجعلها آخر ذنوبه" ،
إحياء علوم الدين للغزالي .
أبو ذر الغفاري
رضي الله عنه : قال أبو ذر لغلامه : "لم أرسلت الشاة على علفِ الفرس أي تأكل من
طعام الفرس؟" قال: "أردت أن أغيظك" قال أبو ذر: "لأجمعن مع الغيظ
أجرًا، أنت حَرٌ لوجه الله تعالى" ، المستطرف للأبشيهي .
معاوية بن أبي سفيان
رضي الله عنهما : كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرض وكان له فيها عبيد يعملون
فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية بن أبي سفيان ، وفيها أيضًا عبيد يعملون فيها ، فدخل
عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير، فكتب عبد الله كتابًا إلى معاوية يقول له فيه
: "أما بعد ، يا معاوية، إن عبيدك قد دخلوا في أرضي ، فانههم عن ذلك ، وإلا كان
لي ولك شأن ، والسلام " ، فلما وقف معاوية على كتابه وقرأه ، دفعه إلى وَلَدِه
يزيد ، فلما قرأه قال له معاوية : "يا بني ما ترى؟" قال: " أرى أن تبعث
إليه جيشاً يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه " ، فقال: " بل غير ذلك
خير منه يا بني " ، ثم أخذ ورقة ، وكتب فيها كتاب إلى عبد الله بن الزبير، يقول
فيه : " أما بعد ، فقد وقفت على كتاب وَلَدِ حَوَاري رسول الله ، وساءني ما ساءه
، والدنيا بأسرها هَيِّنةَ عندي في جنب رضاه ، نزلت عن أرضي لك ، فأضفها إلى أرضك بما
فيها من العبيد والأموال والسلام ’’ . فلما وقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
على كتاب معاوية رضي الله عنه ، كتب إليه : " قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين
أطال الله بقاءه ، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل ، والسلام " ،
فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير، وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد ، فلما قرأه
تهلل وجهه ، وأسفر، فقال له أبوه : " يا بني من عفا ساد ، ومن حَلِمَ عَظُمَ ،
ومن تجاوز استمال إليه القلوب ، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء ، فَدَاوِهِ بمثل
هذا الدواء " ، المستطرف للأبشيهي .
عبد الملك بن مروان
: طلب الخليفة عبد الملك بن مروان رجلاً أمر بالقبض عليه ، فأعجزه ، ثم ظفر به ، فقال
رجاء بن حَيْوَة : "يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببتَ من ظفرك به ، فاصنع
ما أحبَّ الله من عفوك عنه " ، فعفا عنه (بهجة المجالس لابن عبد البر
الخليفة المأمون
: أُحضرَ إلي المأمون رَجُلٌ أذنب ذنباً ، فقال له : " أنت الذي فعلت كذا وكذا
؟ " قال : " نعم يا أمير المؤمنين ، أنا ذاك الذي أسرف على نفسه ، واتكل
على عفوك "، فعفا عنه وخلى سبيله ، المستطرف للأبشيهي .
ميمون بن مهران
: جاءت جارية ميمون بن مهران ذات يوم بصَفْحة وعاء فيها مرقة حارة وعنده أضياف ، فعثرت
، فصبت المرقة عليه فأراد ميمون أن يضربها ، فقالت الجارية : " يا مولاي تذكر
قول الله تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } ، قال لها : " قد فعلت
" ، فقالت : اعمل بما بعده { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } ، فقال : قد عفوت
عنكِ ، فقالت الجارية : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، قال ميمون : " قد
أحسنت إليكِ ، فأنت حرة لوجه الله تعالى " ، تفسير القرطبي .
سابعاً : من ثمرات
العفو :
1- أنه يستوجب محبة
الله تعالى : فإذا كنت من العافين عن الناس فإن الله تعالى سيحبك، ويجعلك من أهل الإحسان
الذين هم أعلى الناس إيمانًا .. كما في قوله تعالى : {.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ، آل عمران: 134
.
2- من عفا ، عُفِى
عنه يوم القيامة : إذ الجزاء من جنس العمل ، يقول تعالىٰ: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه ) . وقال تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) ، 149 النساء
.
3- العفو يُورث
التقوى : يقول الله تعالى {.. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ..} ، البقرة:
237 ، فالعفو عن الناس من الأسباب التي تجعل العبد تقيًّا نقيَّاً .
4- العفو يقتضى
غفران الله تعالى للذنب : فالعبد إذا عفا وصفح ، كان ذلك سبباً في مغفرة الله تعالى
له ، قال تعالى :’’ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ
رَحِيمٌ ’’ وقال وتعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) المائد
:45 . و قال عليه افضل الصلاة والسلام : " لا يُجرَحُ عبدٌ جُرْحاً فيعفو، إلا
كانت كفّارة لهُ من يوم وُلِدَ الى يومِ جُرِح " . رواه أحمد وأخرج جرير ، وابن
مردويه ، عن عدي بن ثابت ، أن رجلا هشم فم رجل على عهد معاوية ، فأعطي دية ، فأبى إلا
أن يقتص، فأعطي ديتين فأبى ، فأعطي ثلاثا ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من
يوم ولد إلى يوم يموت ) .
5- العفو يزيد الإنسان
عزًّا : فالنبي يقول ".. وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا
" ، صحيح مسلم ، فكلما عفوت ، ازددت عزًّا عند الله تعالى . وقد أخرج الإمام أحمَد
في مسنده قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه
دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء ) .
6- الأجر العظيم
عند الله تعالى : لقوله تعالى {.. فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
..} ، الشورى: 40 . وهذا ما أكده قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما خاطب صحابته رضوان
الله عليهم ، قال : " ألا أنبئكم بما يشرف البنيان ويرفع الدرجات ؟ قالوا نعم
يا رسول الله ، قال : تحلم عمن جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك
7- العفو يُثْمِر
محبة الناس بل وتنقلب العداوة إلى صداقة : إنّ مجتمع المؤمنين لا ينبغي أن تقوم فيه
المعاملة بين أفراده على المؤاخذة والمحاسبة والانتصار للذات ، والانتصاف لها في كل
صغيرة وكبيرة ؛ وإنما ينبغي أن تقوم فيه المعاملة بين الأفراد على المسامحة والتغاضي
والصفح والصبر، وهذا ما دعت إليه نصوص الشرع ، وحثّ عليه رب العالمين : ﴿ وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾، فصلت: 34. قال ابن كثير: إذا
أحسنتَ إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك ، والحنوّ عليك ، حتى
يصير كأنه وليّ لك حميم أي : قريب إليك . لنعلم أن العنف يهدم ولا يبني ، والشدة تفسد
ولا تصلح ، وأن الرفق والإحسان إلى الناس هو الذي يحول البغض في القلوب إلى محبة صادقة
فياضة .
ولستُ معاتبا خِلا
لأني ..... رأيت العَتبَ يُغري بالعقوق
ولو أني أوقف لي
صديقاً ..... على ذنب بَقيت بلا صديق
8- العفو مظهر من
مظاهر حُسن الخلق : ودليل على سعة الصدر وحُسن الظن ، سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن
خلُق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا
صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ’’. رواه أحمد والترمذي
. وقال تعالى : {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ،الشورى:36، 37 .
فتعافَوا بينكم
عبادَ الله ، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم ؛ اجعلوا العفو والصَّفح شعاركم ، وخلقا
لكم في بيوتكم ، وشوارعكم ونواديكم ، وأسواقكم ، اخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فسحةِ
المُسامحة ، ومن مَشقة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة ، واطوُوا بساطَ التقاطُع
والوحشة ، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة ، ورُوموا أسبابَ المودّة ، واقبَلوا المعذِرة ؛
فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم ، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه
شُكرًا لله للقدرة عليه .
سامح صديقك إن زلّت
به قدمٌ ,,,,,, فليسَ يسلمُ إنسانٌ من الزَّللِ
وصلي
اللهم وسلم وبارك على محمد وآلهالعـــــــــــــفـو
خـــــــــير لنـــــــــا
العناصر:
أولاً : من أسماء
الله تعالى { العفو } : ثانياً : بم ينال المؤمن عفو ربه :
ثالثاً : اعفُ عن
الناس يَعْفُ الله عنك : رابعاً : العفْوُ غير محمودٌ مع من يتمادى في الإساءة والحمق
:
خامساً : نبينا
هو القدوة في العفو عن الناس : سادساً : صور من عفو الصحابه والتابعين :
سابعاً : من ثمرات
العفو :
الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
الحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات ، الحمد لله الذي خلق الأرض والسموات ، الحمد لله الذي علم العثرات،
فسترها على أهلها وأنزل الرحمات ، ثم غفرها لهم ومحا السيئات ، فله الحمد ملء خزائن
البركات ، وله الحمد ما تتابعت بالقلب النبضات ، وله الحمد ما تعاقبت الخطوات ، وله
الحمد عدد حبات الرمال في الفلوات ، وعدد ذرات الهواء في الأرض والسماوات ، وعدد الحركات
والسكنات .
وأشهد أن لا إله
إلا الله : لا مفرّج للكربات إلا هو ، ولا مقيل للعثرات إلا هو ، ولا مدبر للملكوت
إلا هو، ولا سامع للأصوات إلا هو ، ما نزل غيث إلا بمداد حكمته ، وما انتصر دين إلا
بمداد عزته ، وما اقشعرت القلوب إلا مِن عظمته ، وما سقط حجرٌ من جبل إلا من خشيته
.
وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله قام في خدمته ، وقضى نحبه في الدعوة لعبادته ، وأقام اعوجاج الخلق بشريعته
، وعاش للتوحيد ففاز بخلته ، وصبر على دعوته فارتوى من نهر محبته ..... صلى الله وسلم
عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه ، واستن بسنته ، وسلم تسليمًا كثيرا إلى
يوم الدين .
أما بعــــــــــــــــــــــــد
:
أولاً : من أسماء
الله تعالى { العفو } :
العفو مصدر : عَفَا
يَعْفُو عَفْوًا، فهو عافٍ وعَفُوٌّ، والعَفْوُ هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه،
وأصله المـحو والطمس وعفوت عن الحق: أسقطته ، كأنك محوته عن الذي عليه .
وقال الخليل: (وكلُّ
مَن استحقَّ عُقوبةً فتركْتَه فقد عفوتَ عنه. وقد يكون أن يعفُوَ الإنسان عن الشَّيء
بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق) و العفو اصطلاحاً : (هو التجاوز عن الذنب وترك
العقاب) ، وقال الراغب : (العفو هو التجافي عن الذنب) .
والعفوُّ : هو اسم
من أسماء الله الحسنى ، على وزن فعول بصيغة المبالغة ,
فالله هو العفوُّ
سبحانه ، وهو الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها ويستر العيوب
ولا يحب الجهر بها يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلاً وإنعامًا
، حتى يزول اليأس من القلوب وتتعلق في رجائها بمقلب القلوب . ومن حِكمة الله عزَّ وجلَّ
: تعريفه عبده أنه لا سبيل له إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته، وأنه رهينٌ بحقه فإن لم
يتغمده بعفوه ومغفرته وإلا فهو من الهالكين لا محالة .. فليس أحدٌ من خلقه إلا وهو
محتاجٌ إلى عفوه ومغفرته ، كما هو محتاجٌ إلى فضله ورحمته .
وأَما المُعافاةُ
: فأَنْ يُعافِيَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ ويُعافِيَهم منكَ ، أي : يُغْنيك عَنْهُمْ
وَيُغْنِيَهِمْ عنك ويصرف أَذاهم عَنْكَ وأَذاك عَنْهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ مُفاعَلَة
مِنَ العفوِ، وَهُوَ أَن يَعْفُوَ عَنِ النَّاسِ ويَعْفُوا هُمْ عَنْهُ. لسان العرب
.
وقد ورد اسم الله
{ العفو} في القرآن الكريم خمس مرات : في قوله تعالى : ﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّاً غَفُوراً ﴾ سورة النساء:43 . وفي قوله
تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّاً
غَفُوراً ﴾ سورة النساء:99 . وفي قوله تعالى : ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ سورة النساء:149
. وفي قوله تعالى : ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ
عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ سورة الحج :60
. وفي قوله تعالى : ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ سورة المجادلة :2
أما في السنة النبوية
: فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «قلت: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟، قَالَ : تَقُولِينَ: «اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ
الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رواه ابن ماجة وصححه الألباني . وعن عبد الله بن عمر رضي
الله عنه قال : « لم يكن رسول الله يَدَعْ هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح ، اللهم
إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني
ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن
يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي » ، رواه ابن ماجة وصححه الألباني
. قال ابن جريرالطبري في تفسيره : «﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا﴾ سورة النساء:43
، أي: إن الله لم يزل عفوًا عن ذنوب عباده، وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا
به . وقال السعدي في تفسيره : «العَفْوُّ، الغَفور، الغَفَّار الذي لم يزل، ولا يزال
بالعفو معروفًا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا، كل أحدٍ مضطرٌ إلى عفوه ومغفرته،
كما هو مضطرٌ إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها، قال تعالى:
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ سورة
طه:82 . وقال الزجاج [ في كتابه : تفسير الأسماء ]: والله تعالى عفوٌّ عن الذنوب، تاركٌ
العقوبة عليها . وقال الخطابي [في كتابه : شأن الدعاء]: «العَفْوُّ: الصَّفحُ عن الذنوب،
وتركُ مُجازاة المسيء . وقال الحليمي [ في : المنهاج ]: «العَفْوُّ، معناه: الواضعُ
عن عباده تَبِعَات خطاياهم وآثارهم، فلا يستوفيها منهم، وذلك إذا تابوا واستغفروا،
أو تركوا لوجهه أعظم مما فعلوا، فيُكفِّر عنهم ما فعلوا بما تركوا، أو بشفاعة من يشفع
لهم، أو يجعل ذلك كرامة لذي حرمة لهم به، وجزاء له بعمله . وقال ابن القيم في النونية
: وَهْوَ العَفُوُّ فعَفْوُهُ وَسِعَ الوَرَى *** لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بالسُّكَّانِ
والعفو أبلغ من
المغفرة :
قال الغزالي :
’’ العَفْوُّ: هو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي وهو قريب من الغَفور ولكنه
أبلغ منه، فإن الغفران ينبيء عن الستر والعفو ينبيء عن المحو والمحو أبلغ من الستر
’’ .»
وقال محمد منير
الدمشقي في الإتحافات السنية : ’’ العفو في حق الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب
بالكلية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من
قلوبهم، لئلا يخجلوا عند تذكيرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، والعفو أبلغ من المغفرة،
لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر ’’ .
ثانياً : بم ينال
المؤمن عفو ربه :
هناك كثير من الأسباب
تجعل المسلم ينال عفو الله ومنها :
1- كثرة الدعـــاء
باسم الله العَفْوُّ وسؤال الله العفو والعافية :
وقد ورد الدعاء
بالاسم المطلق في حديث عائشة أنها قالت: قلت: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟، قَالَ " تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ
تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" ، رواه ابن ماجه وصححه الألباني . وعن أبي
بكر قال : قام رسول الله على المنبر ثم بكى ، فقال " سلوا الله العفو والعافية
، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية " رواه الترمذي وصححه الألباني،
مشكاة المصابيح . وعن ابن عمر قال : لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين
يصبح " اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو
والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين
يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي " , رواه
ابن ماجه وصححه الألباني .
2- عدم المجاهرة
بالذنــب :
فعَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ
، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ
يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ
كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ
عَنْهُ " متفق عليه .
3- سرعة الاستغفار
والتوبة بعد الذنب :
فمن كمال عفوه سبحانه
أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثمَّ تاب إليه ورجع ، غفر له جميع جُرْمِهِ .. كما قال
تعالى :{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ }،الزمر: 53 .
وليعجل بالتوبة
والاستغفار ، وعدم الانتظار ، فلعله أورث النسيان ، ففي حديث أبي أمامة عن النبي صلى
الله عليه وسلم : «إِن صاحب الشِّمال ليرفع القلم سِتَّ ساعات عن العبد المسلم المخطئ
أو المسيء، فإِن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كُتِبت واحدة» ، صحيح الجامع
. وهذا بخلاف الحسنة التي يكتبها ملك الحسنات على الفور، ويكتبها عشرًا لا واحدة ،
ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة .
ثالثاً : اعفُ عن
الناس يَعْفُ الله عنك :
تتفاوت درجات الناس
فى الثبات أمام المثيرات ، فمنهم من تستخفه التوافه فيستحمق على عجل ، ومنهم من تستفزه
الشدائد فيبقى على وقعها الأليم محتفظا برجاحة فكرة وحسن خلقه . ومع أن للطباع الأصيلة
فى النفس دخلا كبيرا فى أنصبة الناس من الحدة والهدوء ، والعجلة والأناة ، والكدر والنقاء،إلا
أن هناك ارتباطا مؤكدا بين ثقة المرء بنفسه وحسن تدينه ، وبين أناته مع الآخرين ، وتجاوزه
عن خطئهم ، فالرجل العظيم حقا كلما حلق فى آفاق الكمال اتسع صدره ، وامتد حلمه ، وعذر
الناس من أنفسهم ، والتمس المبررات لأغلاطهم ! فإذا عدا عليه غرٌّ جهول يريد تجريحه
، نظر إليه من قمته كما ينظر الفيلسوف إلى صبيان يعبثون فى الطريق ،وقد يرمونه بالأحجار
.
وهذا المعنى يفسر
لنا حلم هود وهو يستمع إلى إجابة قومه بعد ما دعاهم إلى توحيد الله ، قالوا:
" إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ، قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني
رسول من رب العالمين ، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين". إن شتائم هؤلاء
الجهال لم يطش لها ، حلم هود ، لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا فهو فى الذؤابة
من الخير والبر ، وبين قوم سفهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأحجار يحسبونها لغبائهم
تضر وتنفع ! كيف يضيق المعلم الكبير بخرف هذه القطعان .
: وقد فصل النبي
صلى الله عليه وسلم صنوف الخلق ومنازلهم فى الفضل عند ربهم ، وعلى المؤمن يضع نفسه
حيث يجب ففي الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم ، خطب فى الناس عصر يوم من الأيام
فكان مما قاله لهم : ’’ إن بنى آدم خلقوا على طبقات شتى : ألا وإن منهم البطيء الغضب
سريع الفيء ، والسريع الغضب سريع الفيء ، والبطيء الغضب بطيء الفيء ، فتلك بتلك ، ألا
وإن منهم سريع الفيء سريع الغضب ، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء ، وشرهم سريع الغضب
بطيء الفيء ، ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ، ومنهم سيئ القضاء حسن الطلب ، ومنهم
سيئ الطلب حسن القضاء ، فتلك بتلك ، ألا وإن منهم سيئ القضاء سيئ الطلب ، ألا وخيرهم
الحسن القضاء الحسن الطلب ، وشرهم سيئ القضاء سيئ الطلب ، ألا وإن الغضب جمرة فى قلب
ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ،فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض
,, أى فليبق مكانه وليجلس ، فإنه إذا استطير وراء لهب الغيظ ، أفسد الأمور فى غيبة
وعيه , وغلبة عاطفته فلم يدع لإصلاحها مكاناً .
لقد جاء النبي بهذا
الدين ومبادئه ليعالج سيئ أخلاق الجاهلية : وإن الجاهلية التى عالجها رسول الله صلى
الله عليه وسلم كانت تقوم على ضربين من الجهالة ، جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم .
فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد ، وأما الأخرى فكف ظلمها
يعتمد على كبح الهوى ومنع الفساد ، وقد كان العرب الأولون يفخرون بأنهم يلقون الجهل
بجهل أشد ، حتى قال شاعرهم : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فجاء
الإسلام يكفكف من هذا النزوان ، ويقيم أركان المجتمع على الفضل فإن تعذر فالعدل ، ولن
تتحقق هذه الغاية إلا إذا هيمن العقل الراشد على غرائزه .
وقد جعل الله العفو
عن الناس هو طريق الفلاح : وإن مما يدل على عظمة هذا الدين أن الله تعالى جعل العفو
عن الناس هو طريق الفلاح التى يسرع بصاحبه إلى جنات العلا ، قال تعالى : ’’ وسارعوا
إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء
والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين’’ .
وفى الحديث :
" من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى
يخيره فى أى الحور شاء " وعن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات ؟ قالوا : نعم يا رسول
الله ، قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك . وتعطى من حرمك ? وتصل من قطعك
" . ’
إن الله تبارك وتعالى
قد وضعنا أمام معادلة لاتتغير : معادلة ثابتة بثبات الألوهية والربوبية ، فهو يعفو
عنك ، بمقــدار ماتعفو أنت عن عباده ، فهو يجازيك من جنس عملك. ان كنتَ رجلاً صفحاً
متسامحاً عفوَّاً مغفاراً كريماً .. جزاك بالمعنى نفسه ، قال تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } ، الشورى: 40 . فاعْفُ عن الظالمين، وأَعْرِض عن الجاهلين،
ويَسِّر علي المعسرين طلباً لعفو الله عند لقائه . وقال تعالى ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا
أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)
149 النساء . تأمل في هذه الكلمة ’’ ... تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ... ’’ أي شيء يسوءك من
فعال أو أقوال بالإيجاب أو بالسلب ، أي سوء تعفو عنه فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا
قَدِيرًا. كما تعفو انت ، يعفو الله عنك .
اعفُ عند القدرة
على الإنتصار وأيضا عند عدم القدرة : وانتبه لكلمة عَفُوًّا قَدِيرًا ، فالله يعفو
مع قدرته على عباده ، أما أنت فقد تعفو وأنت مقتدر ، و قد تعفو وأنت غير مقتدر !، ومن
الفلسفة الخاطئةُ التي شاعت بين المسلمين أن : (العفو عند المقدرة فقط ) ، وهذا خطأ
، فالعفو عند المقدرة نعم ، والعفوأيضاً عند غير المقدرة.. نظرية قرآنية عجيبة ، فهناك
عفو العاجز أيضا.. حتى العاجز يعفو ..العاجز في ظنك في وهمك في وهمي يستطيع أن يعفو
، لآن هذا العاجز ،غير عاجز وهو قادر على ان يدعو على ظالمه ؛ فهذه اعظم مصيبة تحلّ
بالظالم أيا كان ، ان يُبتلى بأن يدعوا عليه مظلوم ، مسكين هو.. لأن الله موجود ، ومن
يؤمن ان الله الذي لا اله الا هو موجود يؤمن ويدرك ان هذه أعظم كارثة يوعد بها الظّلمة
، ان يدعوا عليه من لايجد ناصراً الا الله قال تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون الشعراء 227 ، لكن المؤمن الحق العفو، لايدعوا، يفوّض
امره الى الله ، وربما يقول : اللهم لاتؤاخذه ، اللهم لاتجعلني سبباً في عذابه.. هذا
المؤمن الذي يحبه الله . وكما يعفو هو.. سيعفو الله عنه ، لايمكن ان تُباري الله في
صفاته ، نعم أُمِرنا ان نتخلق بأخلاق الرّب ، وهذه في مُقدّم أخلاق الله التي ينبغي
ان نتخلق بها ، هو عفو ، ونحن نعفو، هو غفور ونحن مدعوون الى المغفرة ، وتأكيدا على
هذا المعنى الجليـــل يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ثــلاث انا حالف بالله
عليهن، (يقول حالف وليس سيحلف ليؤكد للمترددين والذين يظنون) لاينقص مال من صدقة فتصدقوا
، (يريد ان يبعث امّة كريمة مِعطاءة باذلة ، أمور كثيرة لاتتم الا بالعطاء والبذل أيها
الاخوة ،لا بالبخل والشح ) ، ولا يُظلَمُ عبد فيعفو، إلا زاده الله عِزّاً يوم القيامة
(وأيضا في الدنيا ،له العزة في الدنيا أيضا لكن في الاخرة يظهر هذا العز على رؤس الخلائق
جمعاء) ، ومافتحَ عبدٌ باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه به باب فقر " ، هذا الدين
يربّي اتباعه أبناؤه على ان يكونوا اعفّة كرماء اعِزّاء مرفوعي الرأس دائما، النبي
يُقسِم على هؤلاء الثلاث .
لا تنتصر لنفسك
ممن ظلمك بالدعاء عليه : والعفو عزٌّللمؤمن ، ليس ذُلاّ ، وليس ضعفا ، والمؤمن حتى
لايدعوعلى من ظلمه ، ففي سنن ابي داود ، من حديث عائشة ، أنها سُرِقَتْ ملحفة لها ،
فجعلت تدعو على من سرقها ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها : (ياعائشة لا تُسبِّخي
عنه) قال أبو داود: لا تسبخي ، يعني: لا تخففي عنه (والتسبيخ هو التخيف: سبّخ الله
عنه الحمّى إذا خففها)، قال أنتِ بهذه الطريقة تخففين عنه المؤاخذة يوم القيامة لأنك
تنالين بعض حقك بالدعاء عليه .
وخرجه الإمام [
أحمد في مسنده ] من وجه آخر ، عن عائشة قالت: وذكر هنا بمعناه ، سرقت لحفتـي ، فـدعوت
الله على صـاحبها ، فقـال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبخي عليه ، دعيه بذنبه
) والمراد: أن من ذهب له مال بسرقة ، ونحوها فإن ذهابه ، من جملة المصائب الدنيوية
، والمصـائب كلها كفارة للذنوب ، والصبر عليها : يُحَصِّل للصابر الأجر الجزيل . فإذا
دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا ، فقد استوفى منه بدعائه بعض حقه ، فخـف وزر الظالم
بذلك . فلهذا ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تصبر ، فلا تدعو عليه ، فإن
ذلك يخفف عنه . وخرج التـرمذي مـن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’
من دعا على من ظلمه فقد انتصر ’’ وروى ليث عن طلحة : أن رجلا لطم رجلا فقال: اللهم
إن كان ظلمني فاكفنيه فقال له مسروق : قد اسـتوفيت . وقـال مجـاهد : لا تسبن أحدا ،
فإن ذلك يخفف عنه ، ولكن أحـب لله بقلبك وأبغض لله بقلبك . وقال سالم بن أبي الجعد
: الدعاء قصاص .
بل إن هذا الدين
يُفهّمنا ماهو أعظم من هذا : وهنا لاتوجد فلسفة في العالم تَعدِل هذا الدين !!!!! ،
فأنت حين تدعو على من ظلمك ربما تجاوزت في الدعاء ، فتؤاخذ أنت يوم القيامة أيضا !
، يعني تخيلوا ان تكون مظلوما فتدعو على الظالم ، وفي القيامة تؤاخَذ بدعائك ، لأنه
هو ظلمك قيراطا مثلا، فدعوت عليه بجزاء من ظَلمَ أربعة قراريط ، فستؤاخذ انت بجزاء
ثلاثة قراريط . فقد شكا رجل إلى عمر بن عبد العزيز رجلاً ظلمه ، وجعل يقع فيه ، فقال
له عمر : إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي ، خير لك من أن تلقاه ، وقد استقضيتها ،
وقال أيضـاً : بلغنـي أن الـرجل ، ليـُظلم بمظلمة ، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه
، حتى يستوفي حقه ، ويكون للظالم الفضل عليه .
والمؤمن ليس سباباً
ولا لعاناً : ومن الناس من لا يسكت عنه الغضب ، فهو فى ثورة دائمة ، إذا مسه أحد ارتعش
كالمحموم ، وأنشأ يُرغى ويزبد ويلعن ويطعن والإسلام برىء من هذه الخلال الكدرة . قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء
" . ووفد أعرابى على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قلت : اعهد إلى ، قال
: ’’ لا تسبن أحدا ’’ قال الأعرابي ، فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة
قال : ’’ ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، إن ذلك
من المعروف .. ثم قال : وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك ، فلا تعيره بما تعلم فيه
، فإنما وبال ذلك عليه ’’ . إن الذين يستنزلون اللعنات على غيرهم لأتفه الأسباب يتعرضون
لبلاء جسيم ، بل إن المرء يجب أن يتنزه عن لعن غيره ، ولو أصابه منه الأذى الشديد
. وكلما ربا الإيمان فى القلب ربت معه السماحة وازداد الحلم ، ونفر المرء من طلب الهلاك
والغضب للمخطئين فى حقه . قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله على المشركين
والعنهم ! فقال: " إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا " وعلى قدر ما يضبط المسلم
نفسه ، ويكظم غيظه ويملك قوله ، ويتجاوز عن الهفوات ، ويرثى للعثرات ، تكون منزلته
عند الله ومن ثم استنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى بكر أن يلعن بعض رقيقه
وقال: ’’ ولا ينبغى لصديق أن يكون لعانا " . وفى رواية: "لا يجتمع أن تكونوا
لعانين وصديقين " فأعتق أبو بكر أولئك الرقيق كفارة عما بدر منه لهم ، وجاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يقول له : لا أعود !! وذلك أن اللعن قذيفة طائشة خطرة ، يدفع
إليها الغضب الأعمى أكثر مما يدفع إليها استحقاق العقاب ، واستهانة الناس بهذه الدعوات
الشداد لا تليق ، لأنه لا يفلت من وبالها أحد . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ’’ إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء ، فتغلق أبواب السماء دونها ، ثم
تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها ، ثم تأخذ يمينا وشمالا ، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى
الذى لعن ، فإن كان أهلا.. وإلا رجعت إلى قائلها ’’ .
ولله در الشافعي
حين قال : قالوا سَكتّ وقد خُوصِمْتَ قلتُ لهم ****** إنّ الجواب لِبَابِ الشّرّ مفتاحُ
فالعفو عن جاهل
أو أحمق أدبٌ ****** نعَم وفيه لِصوْن العِرض إصلاحُ
إنّ الأسُودَ لتُخشى
وهي صامِتة ****** والكلبُ يُحْثى ويُرْمَى وهو نبّاحُ
والقوي حقاً من
يبتلع غضبه فلا ينفجر : ولا شك أن الإنسان يحزنه أى تهجم على شخصه أو على من يحب ،
وإذا واتته أسباب الثأر سارع إلى مجازاة السيئة بمثلها ولا يقر له قرار إلا إذا أدخل
من الضيق على غريمه بقدر ما شعر به هو نفسه من ألم ، لكن هناك مسلكا أنبل من ذلك وأرضى
لله ، وأدل على العظمة والمروءة ، وهو أن يبتلع غضبه فلا ينفجر وأن يقبض يده فلا يقتص
، وأن يجعل عفوه عن المسىء من شكر الله الذى أقدره على أن يأخذ بحقه إذا شاء . عن ابن
مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’ ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذى لا
تصرعه الرجال . قال: ولكنة الذى يملك نفسه عند الغضب ’’ .
وما أجمل قول الشافعي
:
لما عفوت، ولم أحقد
على أحدٍ --- أرحت قلبي من غم العداوات
إني أحي عدوي عند
رؤيته --- لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان
أبغضه --- كأنما قد حشى قلبي محبات
رابعاً : العفْوُ
غير محمودٌ مع من يتمادى في الإساءة والحمق :
الهدفُ من العفوِ:
هو الإصلاحُ ، فإن لم يتحقَّقِ الإصلاحُ مع تَكْرارِ العفوِ ، وتمادى المُسيءُ في إساءتِه
، إلى درجةٍ تتسبَّبُ في الأذَى البالغِ للمُساء إليه ، فهنا وجبَ الأخذُ بالحقِّ ،
والمطالبة بعقوبة المسيء ؛ لذلك قال شيخُ الإسلامِ ابن تيمية : الإصلاحُ واجب، والعفوُ
مندوبٌ، فإذا كان في العفو فواتُ الإصلاحِ ، فمعنى ذلك أننا قدَّمْنَا مندوبًا على
واجبٍ ، وهذا لا تأتي به الشريعةُ وقد صدق رحمه الله . وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم: ((لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه))، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال:
((يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ)) رواه الترمذي ، وهو حديث حسن لغيره . أَيْ
: إ ن الإنسانَ لا ينبغي له أن يترُكَ نفسَه تتعرضُ للإساءة والإهانة باستمرار، مُتَّسمًا
بالعفو في موضعٍ لا يؤدِّي العفوُ لإصلاح ، زاعمًا أن الشرعَ حثَّ على العفْوِ، بل
ينبغي أن يكون المسلمُ عزيزًا بدينِه وتسامحِه ، وإذا تحوَّلتِ العزةُ بالعفوِ إلى
ذِلَّةٍ وإهانةٍ ، فهنا وجَبَ عليه أن يقف وقفةً حازمة ، فالله عز وجل عادلٌ لا يقبل
الإهانةَ والذلَّ ، وكما حث سبحانه على العفو ، فقد حث أيضًا على القِصاص ، والأخذِ
حينما يَستدْعي الأمر ذلك . وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يؤذون
المسلمين قائلاً : ((يا معشرَ مَن أسلمَ بلسانِه ، ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا
تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم ، ولا تتَّبعوا عَوراتِهم ؛ فإنه مَن تتبَّع عورةَ أخيهِ
المسلم، تتبَّع الله عورتَه ، ومَن تتبَّع اللهُ عورتَه، يفضَحه ولو في جَوفِ رَحْلِه))
، رواه الترمذي ، وهو حديث حسن . وقد رأينا رسول الله أكثر من مرة ، يقتص ويقيم الحدود
في بعض المسئين ردعاً ، وزجراً لأصحاب النفوس الضعيفة من التطاول والإساءة كما سنرى
في حادثة الإفك بعد قليل .
ما يجب على المسلم
بعد ردع المسيئ وأخذ الحق : الأمر هنا يعتمد على مدى الإساءةِ ، وهل كان الأخذ سبباً
لردع المسيء أم لا ؟ فإن تحقق الإصلاحُ ، وتم ردع المسيء ، فينبغي على المُسَاءِ إليه
أن يعفوَ، ويصفحَ ويسامحَ ، أما إن لم يتحقَّقِ الإصلاح ، واستمر المسيء في قناعاتِه
بأنه غيرُ مُخطئٍ ، واستمر في إساءتِه ، فهنا وجَبَ تجنبُه ؛ اتِّقاءً لشره وأذاه ،
وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم من يتجنَّبه الناس اتِّقاءَ شرِّه وفُحْشِه من
شِرارِ الناس منزلةً عندَ اللهِ يومَ القيامة، فقال: ((إن شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً
يومَ القيامةِ: مَن تركَه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه)) ، رواه البخاري . كم هو مُحزنٌ أن
يصلَ حالُ المسلمين إلى هذا الحالِ من السوء، ويطغَوْا على المظلومِ تحت شعار العفو
والسماح ، ويتمادَوْا في الإساءةِ ، ناسين أن الإسلامَ دينُ وسطيَّة ، راعى حقوق الجميعِ
، وأن الله عز وجل عادلٌ ، ووضَعَ موازينَ وضوابطَ لكلِّ شيء وما أجمل قول من قال
: ميِّزوا بينَ الذل والتواضع ، فما من فضيلة إلا وهي بين رذيلتَيْنِ ، والتواضعُ منزلةٌ
بينَ الكِبْرِ والذل ، لِنْ في الجانب للمسلمين ولا تترفَّع على أحد ، وفي المقابل
لا تسْتَكِن لأحد وترفعه فوق المنزلة التي يستحق " .
خامساً : نبينا
هو القدوة في العفو عن الناس : أمر الله تعالى نبينا محمدًا بالعفو عن الناس فامتثل
أمره ، وكان نبينا هو القدوة في العفو عن الناس بقوله وفعله ، ومن ذلك :
ما روي عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم غَزْوَةَ نَجْدٍ ، فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ وَهُوَ فِي وَادٍ
كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ بِهَا ، وَعَلَّقَ سَيْفَهُ
؛ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ ، وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ
إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ فَجِئْنَا فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ : «إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي فَاسْتَيْقَظْتُ
وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ سيفي صَلْتًا))، قَالَ : " مَنْ يَمْنَعُكَ
مِنِّي ؟ " قُلْتُ : «اللَّهُ»، فَشَامَهُ ثُمَّ قَعَدَ ، فَهُوَ هَذَا قَالَ
وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ»البخاري)(
وعن عُرْوَةَ بن
الزبير أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ
لِلنَّبِيِّ: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟"
قَالَ: « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ
مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ
بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ؛ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا
مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ
، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا
فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي ، فَقَالَ : "إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ
قَوْمِكَ لَكَ ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ
لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ " فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ
عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ
لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي
بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ
" ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا » ،البخاري، ومسلم .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ
نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ
جذب جَبْذَةً شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ
وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
"يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ،
فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"، البخاري مسلم .
عفو رسول الله عن
زعيم المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول : ومن قصص العفو التى لا مثيل لها بين الناس
? عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبى ? فإن عبد الله
هذا كان عدّوا لدودا للمسلمين يتربص بهم الدوائر ? ويحالف عليهم الشيطان ويحيك لهم
المؤامرات ? ولا يجد فرصة للطعن عليهم والنيل من نبيهم إلا انتهزها وهو الذى أشاع قالة
السوء في أم المؤمنين عائشة ? وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها ، ويهزٌّون أركان
المجتمع الإسلامى هزا بهذا الاتهام الدنىء ? وتقاليد الشرق من قديم تجعل عرض المرأة
فى الذروة من القداسة وتربط به كرامتها وكرامة أهلها الأبعدين والأقربين . ولذلك كان
حز الألم قاسيا فى نفس الرسول وأصحابه ? وكانت الغضاضة من هذا التلفيق الجرىء تملأ
نفوسهم كآبة وغما ? حتى نزلت الآيات أخر الأمر تكشف مكر المنافقين وتفضح ما اجترحوا
وتشهد بطهر أم المؤمنين ونقاء صفحتها : "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه
شرا لكم بل هو خير لكم لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب
عظيم" . ولقد أقيم الحد على من كانوا مخالب القط فى هذه المأساة ، أما جرثومة
الشر الذي نشر الإشاعة همساً وتعريضاً ، فإنه نجا.. ليستأنف كيده للمسلمين وسوق الأذى
لهم ما استطاع !! وكتب الله الفوز لرسوله وجنده واكتسح الإسلام مخلفات القرون المخرفة
، وانحصر أعداؤه فى حدود أنفسهم بل لقد دخلت عليهم من أقطارها وانكمش ابن أبى ثم مرض
ومات ، بعد ما ملأت رائحة نفاقه كل فج ، وجاء ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يطلب منه الصفح عن أبيه فصفح ، ثم طلب منه أن يكفن فى قميصه فمنحه إياه ? ثم طلب منه
أن يصلى عليه ويستغفر له ، فلم يرد له الرسول الرقيق العفو هذا السؤال ، بل وقف أمام
جثمان الطاعن فى عرضه بالأمس يستدر له المغفرة . لكن العدالة العليا حسمت الأمر كله
فنزل قوله تعالى : ’’ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ،
عفو الرسول عن المرأة
اليهودية : روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً
أَتَتْ النَّبِيَّ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ
: " أَلاَ نَقْتُلُهَا ؟ " قَالَ: « لاَ، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ
رَسُولِ اللَّهِ » البخاري .
عفو الرسول عن أهل
مكة : لما فتح الرسول مكة ، اجتمع له أهلها عند الكعبة ، ثُمّ قَالَ : « يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ » قَالُوا : "خَيْراً، أَخٌ كَرِيمٌ
وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ " قَالَ : « اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ » ، سيرة
ابن هشام .
سادساً : صور من
عفو الصحابه والتابعين :
أبو بكر الصديق
رضي الله عنه: ومما يتصل بحادثة الإفك أن أبا بكرالصديق كان ينفق على مِسْطح بن أثاثة
لفقره وقرابته منه ، وكان مِسْطح من الذين خاضوا في حادث الإفك ، وتكلم في عِرض عائشة
، فلما عَلِمَ أبو بكر بذلك ، أقسم ألا ينفق عليه بعد ذلك ، فأنزل الله تعالى : {وَلا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] فقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: "بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا،
وَعَادَ لمسطح بِمَا كَانَ يَصْنَعُ" البخاري
عمر بن الخطاب رضي
الله عنه : روى البخاري عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ
بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ،
وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ
مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا؛ فَقَالَ عُيَيْنَةُ
لابْنِ أَخِيهِ: "يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ
لِي عَلَيْهِ" قَالَ: "سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ"، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَيْهِ قَالَ: "هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ،
وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ"، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ
بِهِ؛ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تعالى
قَالَ لِنَبِيِّهِ: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}
[الأعراف:199] وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ
حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ؛ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ . البخاري . وإنما
غضب عمر لتطاول الأعرابى عليه ، وهم بردعه ، لأنه لم يدخل عليه ناصحا بخير أو طالبا
لحق ، وإنما دخل على حاكم فى سلطانه ليشتمه دون مبرر وليسأله عطاء جزلا على غير عمل
!! فلما ذكِّر بأن الرجل من الجهال أعرض عنه وتركه ينصرف سالماً .
عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه : جلس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في السوق يشتري طعاماً ، فابتاع
ثم طلب الدراهم ، وكانت في عمامته فوجدها قد سُرقت؛ فقال: "لقد جلست وإنها لمعي"،
فجعلوا يدعون على مَن أخذها، ويقولون: "اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم
افعل به كذا"، فقال عبد الله: "اللهم إن كان حَمَلَه على أَخْذِها حاجةٌ
فبارك له فيها، وإن كان حَمَلتْهُ جَرَاءَةٌ على الذنْب فاجعلها آخر ذنوبه" ،
إحياء علوم الدين للغزالي .
أبو ذر الغفاري
رضي الله عنه : قال أبو ذر لغلامه : "لم أرسلت الشاة على علفِ الفرس أي تأكل من
طعام الفرس؟" قال: "أردت أن أغيظك" قال أبو ذر: "لأجمعن مع الغيظ
أجرًا، أنت حَرٌ لوجه الله تعالى" ، المستطرف للأبشيهي .
معاوية بن أبي سفيان
رضي الله عنهما : كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرض وكان له فيها عبيد يعملون
فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية بن أبي سفيان ، وفيها أيضًا عبيد يعملون فيها ، فدخل
عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير، فكتب عبد الله كتابًا إلى معاوية يقول له فيه
: "أما بعد ، يا معاوية، إن عبيدك قد دخلوا في أرضي ، فانههم عن ذلك ، وإلا كان
لي ولك شأن ، والسلام " ، فلما وقف معاوية على كتابه وقرأه ، دفعه إلى وَلَدِه
يزيد ، فلما قرأه قال له معاوية : "يا بني ما ترى؟" قال: " أرى أن تبعث
إليه جيشاً يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه " ، فقال: " بل غير ذلك
خير منه يا بني " ، ثم أخذ ورقة ، وكتب فيها كتاب إلى عبد الله بن الزبير، يقول
فيه : " أما بعد ، فقد وقفت على كتاب وَلَدِ حَوَاري رسول الله ، وساءني ما ساءه
، والدنيا بأسرها هَيِّنةَ عندي في جنب رضاه ، نزلت عن أرضي لك ، فأضفها إلى أرضك بما
فيها من العبيد والأموال والسلام ’’ . فلما وقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
على كتاب معاوية رضي الله عنه ، كتب إليه : " قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين
أطال الله بقاءه ، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل ، والسلام " ،
فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير، وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد ، فلما قرأه
تهلل وجهه ، وأسفر، فقال له أبوه : " يا بني من عفا ساد ، ومن حَلِمَ عَظُمَ ،
ومن تجاوز استمال إليه القلوب ، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء ، فَدَاوِهِ بمثل
هذا الدواء " ، المستطرف للأبشيهي .
عبد الملك بن مروان
: طلب الخليفة عبد الملك بن مروان رجلاً أمر بالقبض عليه ، فأعجزه ، ثم ظفر به ، فقال
رجاء بن حَيْوَة : "يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببتَ من ظفرك به ، فاصنع
ما أحبَّ الله من عفوك عنه " ، فعفا عنه (بهجة المجالس لابن عبد البر
الخليفة المأمون
: أُحضرَ إلي المأمون رَجُلٌ أذنب ذنباً ، فقال له : " أنت الذي فعلت كذا وكذا
؟ " قال : " نعم يا أمير المؤمنين ، أنا ذاك الذي أسرف على نفسه ، واتكل
على عفوك "، فعفا عنه وخلى سبيله ، المستطرف للأبشيهي .
ميمون بن مهران
: جاءت جارية ميمون بن مهران ذات يوم بصَفْحة وعاء فيها مرقة حارة وعنده أضياف ، فعثرت
، فصبت المرقة عليه فأراد ميمون أن يضربها ، فقالت الجارية : " يا مولاي تذكر
قول الله تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } ، قال لها : " قد فعلت
" ، فقالت : اعمل بما بعده { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } ، فقال : قد عفوت
عنكِ ، فقالت الجارية : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، قال ميمون : " قد
أحسنت إليكِ ، فأنت حرة لوجه الله تعالى " ، تفسير القرطبي .
سابعاً : من ثمرات
العفو :
1- أنه يستوجب محبة
الله تعالى : فإذا كنت من العافين عن الناس فإن الله تعالى سيحبك، ويجعلك من أهل الإحسان
الذين هم أعلى الناس إيمانًا .. كما في قوله تعالى : {.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ، آل عمران: 134
.
2- من عفا ، عُفِى
عنه يوم القيامة : إذ الجزاء من جنس العمل ، يقول تعالىٰ: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه ) . وقال تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) ، 149 النساء
.
3- العفو يُورث
التقوى : يقول الله تعالى {.. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ..} ، البقرة:
237 ، فالعفو عن الناس من الأسباب التي تجعل العبد تقيًّا نقيَّاً .
4- العفو يقتضى
غفران الله تعالى للذنب : فالعبد إذا عفا وصفح ، كان ذلك سبباً في مغفرة الله تعالى
له ، قال تعالى :’’ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ
رَحِيمٌ ’’ وقال وتعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) المائد
:45 . و قال عليه افضل الصلاة والسلام : " لا يُجرَحُ عبدٌ جُرْحاً فيعفو، إلا
كانت كفّارة لهُ من يوم وُلِدَ الى يومِ جُرِح " . رواه أحمد وأخرج جرير ، وابن
مردويه ، عن عدي بن ثابت ، أن رجلا هشم فم رجل على عهد معاوية ، فأعطي دية ، فأبى إلا
أن يقتص، فأعطي ديتين فأبى ، فأعطي ثلاثا ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من
يوم ولد إلى يوم يموت ) .
5- العفو يزيد الإنسان
عزًّا : فالنبي يقول ".. وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا
" ، صحيح مسلم ، فكلما عفوت ، ازددت عزًّا عند الله تعالى . وقد أخرج الإمام أحمَد
في مسنده قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه
دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء ) .
6- الأجر العظيم
عند الله تعالى : لقوله تعالى {.. فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
..} ، الشورى: 40 . وهذا ما أكده قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما خاطب صحابته رضوان
الله عليهم ، قال : " ألا أنبئكم بما يشرف البنيان ويرفع الدرجات ؟ قالوا نعم
يا رسول الله ، قال : تحلم عمن جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك
7- العفو يُثْمِر
محبة الناس بل وتنقلب العداوة إلى صداقة : إنّ مجتمع المؤمنين لا ينبغي أن تقوم فيه
المعاملة بين أفراده على المؤاخذة والمحاسبة والانتصار للذات ، والانتصاف لها في كل
صغيرة وكبيرة ؛ وإنما ينبغي أن تقوم فيه المعاملة بين الأفراد على المسامحة والتغاضي
والصفح والصبر، وهذا ما دعت إليه نصوص الشرع ، وحثّ عليه رب العالمين : ﴿ وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾، فصلت: 34. قال ابن كثير: إذا
أحسنتَ إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك ، والحنوّ عليك ، حتى
يصير كأنه وليّ لك حميم أي : قريب إليك . لنعلم أن العنف يهدم ولا يبني ، والشدة تفسد
ولا تصلح ، وأن الرفق والإحسان إلى الناس هو الذي يحول البغض في القلوب إلى محبة صادقة
فياضة .
ولستُ معاتبا خِلا
لأني ..... رأيت العَتبَ يُغري بالعقوق
ولو أني أوقف لي
صديقاً ..... على ذنب بَقيت بلا صديق
8- العفو مظهر من
مظاهر حُسن الخلق : ودليل على سعة الصدر وحُسن الظن ، سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن
خلُق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا
صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ’’. رواه أحمد والترمذي
. وقال تعالى : {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ،الشورى:36، 37 .
فتعافَوا بينكم
عبادَ الله ، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم ؛ اجعلوا العفو والصَّفح شعاركم ، وخلقا
لكم في بيوتكم ، وشوارعكم ونواديكم ، وأسواقكم ، اخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فسحةِ
المُسامحة ، ومن مَشقة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة ، واطوُوا بساطَ التقاطُع
والوحشة ، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة ، ورُوموا أسبابَ المودّة ، واقبَلوا المعذِرة ؛
فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم ، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه
شُكرًا لله للقدرة عليه .
سامح صديقك إن زلّت
به قدمٌ ,,,,,, فليسَ يسلمُ إنسانٌ من الزَّللِ
وصلي
اللهم وسلم وبارك على محمد وآله
تعليقات: (0) إضافة تعليق