الحمد لله الحي العليم السميع البصير القادر، المتكلم بكلام قديم أزليّ هو به ناه وآمر، زين قلوب العارفين بنور هدايته فأضاء منها السرائر ن من رضي بدونه فهو الخائن الغادر، الشقي من حرمه، والسعيد من رحمه، والطريد من حجبه، والقريب من جذبه، والنادم من أهانه، والسالم من أعانه، وقد علم الوليّ والعدو والرابح والخاسر.
واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحانه أوضح الدلالة وبين، وحبب الإيمان إلى المؤمنين وزيّن، وطبع على قلوب الجاحدين فهم يجادلون في الحق بعد ما تبين.
أنا خاطئ أنا مذنب أنا عاصي هو راحم هو غافر هو كافي
قابلتـهن ثـلاثـة بثـلاثـة ولتغلـبن أوصافه أوصافي
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
ملأت بنبوته الوجـود وأظهر الديـن الصحيـح فـأسـفرا
واستبشر فرحا ببعثته الورى ومحا الضلال كما بذالك خبرا
نص الكتـاب مفصلا تفصيلا فصلوا عليه وسلموا تسليـما
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
العناصر
أولا: الترغيب في بر الوالدين وثمراته
ثانيًا: نماذج على بر الوالدين
ثالثًا: كيف يكون بر الوالدين؟
رابعًا: الترهيب من عقوق الوالدين
خامسًا: أسباب العقوق ونماذج عليه
الموضوع
سُئل الحسن البصري رحمه الله: ما بر الوالدين؟ قال: (أن تبذل لهما ما ملكت، وأن تطيعهما فيما أمراك به، إلا أن يكون معصية).
قال الفيروز ابادي الإحسان إلى الوالدين والتّعطّف عليهما والرّفق بهما والرّعاية لأحوالهما وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما من بعدهما ([1])
أولا: الترغيب في بر الوالدين وثمراته
1-من صفات الأنبياء
قال تعالى" يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)" سورة مريم.
وقال تعالى" وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)" سورة مريم.
2-وصَّى الله ببر الوالدين والإحسان إليهما
قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ " العنكبوت
وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)" سورة لقمان
وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151].
وفي معنى الإحسان: قال القرطبي رحمه الله: (الإحسان إلى الوالدين برهما، وحفظهما، وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطان عليهما).
3-ميثاق أخذه الله على بني اسرائيل
قال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) البقرة 83 والإحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يحب من الرعاية والعناية.
4-قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته
التي هي توحيده والبراءة عن الشرك اهتماما به وتعظيما له
فقال تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) النساء 36
فأوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمها تنبيها على جلالة شأن الوالدين بنظمهما في سلكها بقوله
وقال تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) الإسراء 23-24
5-أقرب طريق إلى الجنة
عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ قَالَ: الصَّلاةُ عَلى وَقْتِها قَالَ: ثُمَّ أَيّ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ أَيّ قَالَ: الْجِهادُ في سَبيلِ اللهِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي"([2])
6-الفوز برضا الله تعالى
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد" ([3])
7-أقرب الأعمال إلى الله تعالى
عن ابن عباس، أنه أتاه رجل فقال: إنى خطبت امرأة، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيرى، فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت. [قال: عطاء بن يسار:] فذهبت، فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: "إنى لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة" ([4]).
8-الاجر الكبير
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَىٌّ». قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ «فَتَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» ([5]).
9-مغفرة الذنوب
عن طيسلة بن ميّاس قال: كنت مع النجدات، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر، فذكرت ذلك لابن عمر. قال: ما هى؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليست هذه من الكبائر، هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق، قال: لي ابن عمر: أتفرق النار، وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: إي، والله! قال: أحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أمى. قال: فوالله! لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر" ([6]).
ومعنى النجدات: أصحاب نجدة بن عامر الخارجي، وهم قومٌ من الحرورية، ويستسخر: الاستسخار من السخرية، أتفرق النار: الفَرَق؛ الخوف والفزع.
10-البركة في العمر والرزق
عن أنس بن مالكٍ، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن سَرَّه أن يبسط عليه رزقه، أو يُنسَأ في أثره، فليصِلْ رحمه)) ([7])
11-هم الذين يتقبل الله منهم أعمالهم
وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)" الأحقاف.
12-دعوة الوالدين مستجابة
عن أَبي هريرة -رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَات لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)) ([8]).
وعن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما تكلم مولود من الناس في مهد إلا عيسى بن مريم صلى الله عليه [وسلم] وصاحب جريج" قيل: يا نبي الله! وما صاحب جريج؟ قال: "فإن جريجا كان رجلاً راهباً في صومعة له، وكان راعي بقر يأوي إلى أسفل صومعته، وكانت امرأة من أهل القرية تختلف إلى الراعي، فأتت أمه يوما فقالت: يا جريج! وهو يصلى، فقال في نفسه -وهو يصلي -أمي وصلاتي؟ فرأى أن يؤثر صلاته، ثم صرخت به الثانية، فقال في نفسه: أمي وصلاتى؟ فرأى أن يؤثر صلاته. ثم صرخت به الثالثة فقال: أمي وصلاتى. فرأى أن يؤثر صلاته. فلما لم يجبها قالت: لا أماتك الله يا جريج! حتى تنظر في وجه المومسات. ثم انصرفت فأُتَيَ الملك بتلك المرأة ولدت (1). ولدت فقال: ممن؟ قالت: من جريج. قال: أصاحب الصومعة؟ قالت: نعم. قال: اهدموا صومعته وأتوني به، فضربوا صومعته بالفؤوس، حتى وقعت. فجعلوا يده إلى عنقه بحبل؛ ثم انطلق به، فمر به على المومسات، فرآهن فتبسم، وهن ينظرن إليه في الناس. فقال الملك: ما تزعم هذه؟ قال: ما تزعم؟ قال: تزعم أن ولدها منك. قال: أنت تزعمين؟ قالت: نعم. قال: أين هذا الصغير؟ قالوا: هذا في حجرها، فأقبل عليه. فقال: من أبوك؟ قال: راعي البقر. قال الملك: أنجعل صومعتك من ذهب؟ قال: لا. قال: من فضة؟ قال: لا. قال: فما نجعلها؟ قال: ردوها كما كانت. قال: فما الذي تبسمت؟ قال: أمراً عرفته، أدركتني دعوة أمي، ثم أخبرهم".
13-دخول الجنة
عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت: من هذا؟ قيل: هذا حارثة بن النعمان كذاكم البر كذاكم البر) ([9])
14-وجوب إرضائهما
عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: "ارجع إليهما، وأضحكهما كما أبكيتهما"([10]).
15-فيهما فجاهد
عن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ. فَقَالَ: «أَحَيُّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ». ([11]).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني -تعليقًا على هذا الحديث -: يحرُمُ الجهادُ إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمينِ؛ لأن برَّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهادُ فلا إذنَ" ([12])
وعن طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله "قال أمك حية قلت نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم الزم رجلها فثم الجنة" ([13])
16-بر الوالدين حتى لو كانا مشركين
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم آصلها؟ قال (نعم). قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} ([14])
ومعنى: (لا ينهاكم الله.) لم يمنعكم من الإكرام وحسن الصلة لغير المسلمين طالما أنهم لم يناصبوكم العداء ولم يسعوا في إيذائكم ولم يقاتلوكم بسبب دينكم لا سيما إن كانوا أقرباء وذوي رحم.
17-بر الوالدين عند الكبر
أخي المسلم: لا شك أنك إذا كبرت؛ تحب أن تجد من يقوم بخدمتك، ويحسن إليك، ويجبر ضعفك، وأحق من قام بهذه المهمة؛ هم الأبناء؛ فهم الذخر للوالدين، تعبا من أجل هذا اليوم.
فما ظنك أخي بوالد كبرت سنة، ورق عظمه، وضعفت قوته، فتركه أبناؤه ؟!
ألا تذكر أيها الابن: يوم أن كان والداك يسهران لمرضك؟ ألا تذكر: يوم أن كانا يكدحان، ويتعبان؛ لتشبع أنت، وتنام مظمئنًا ؟! ألا تذكر: يوم أن كانا يقومان بمصالحك، وأنت لا تستطيع أن تدفع عن نفسك ضرًا، ولا تجلب لها نفعًا ؟! أيليق بك إن كنت عاقلاً؛ أن تنسى هذا الإحسان كله ؟!
إن من حقهما اليوم أيها الابن: أن تقف بجانبهما وتشملهما ببرك، وعطفك؛ كما وقفا بجانبك، وأفاضا عليك من عطفهما وبرهما، فلا تتضايق من خدمتهما؛ كما لم يتضايقا من خدمتك.
قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
وخصّ ربّ العزّة حالة الكبر؛ لأنّها الحالة الّتي يحتاجان فيها إلى البرّ لتغيّر الحال عليهما بالضّعف والكبر، فألزم في هذه الحالة مراعاة أحوالهما أكثر ممّا ألزمها من قبل؛ لأنّهما في هذه الحالة قد صارا كلّا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج إليه في صغره أن يليا منه، فلذلك خصّ هذه الحالة بالذّكر.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-«رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ». قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» ([15]).
18-الأم أولى بالبر من غيرها
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-فَقَالَ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صحابتي قَالَ «أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ «ثُمَّ أَبُوكَ» ([16]).
وَفِى حَدِيثِ قُتَيْبَةَ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِى وَلَمْ يَذْكُرِ النَّاسَ.
وعن معاوية بن حيدة-رضي الله عنه-قال: قلت يا رسول الله! من أبرّ؟ قال: «أمّك». قال: قلت: ثمّ من؟، قال: «أمّك». قال: قلت: ثمّ من؟ قال: «أمّك»، قال: قلت: ثمّ من؟ قال: «ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب» ([17])
وعن المقدام بن معدي كرب؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"([18])
لأمِّكَ حقٌّ لو علِمْتَ كبيرُ
|
**
|
كثيرُك يا هذا لديه يسيرُ
|
فكم ليلةٍ باتَتْ بثقلِكَ تشتكي
|
**
|
لها مِن جَوَاها أنَّةٌ وزفيرُ
|
وفي الوَضْع لو تدري عليها مشقَّةٌ
|
**
|
فمِن غُصَصٍ منها الفؤادُ يطيرُ
|
وكم غسَلَتْ عنكَ الأذى بيمينِها
|
**
|
وما حَجْرُها إلا لديكَ سَريرُ
|
وتَفْديك ممَّا تشتكيه بنفسِها
|
**
|
ومِن ثَدْيِها شربٌ لديكَ نَمِيرُ (الماء العذب)
|
وكم مرَّةٍ جاعَتْ وأعطَتْكَ قُوتَها
|
**
|
حنوًّا وإشفاقًا وأنت صغيرُ
|
فآهًا لذي عقلٍ ويتَّبِعُ الهوى
|
**
|
وآهًا لأعمى القلبِ وَهْوَ بصيرُ
|
فدونَكَ فارغَبْ في عَميمِ دعائِها
|
**
|
فأنتَ لِما تَدْعو إليه فقيرُ
|
19-هل وفيتها حقها
عن أبى بردة؛ أنه شهد ابن عمر، ورجلٌ يمانيٌ يطوف بالبيت -حمل أمه وراء ظهره -يقول: إني لها بعيرها المذلل……إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر! أترانى جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة، واحدة ثم طاف ابن عمر، فأتى المقام، فصلى ركعتين. ثم قال: يا ابن أبى موسى! إن كل ركعتين تكفران ما أمامهما ([19]).
معنى" ولا بزفرة واحدة": بفتح الزاي وسكون الفاء: المرة من الزفير وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
وعن أَبي هريرة -رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً إلاَّ أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً، فَيَشْتَرِيهُ فَيُعْتِقَهُ)) ([20]).
20-بعض الذي يعين على بر الوالدين
(1) الاستعانة بالله تعالى: وذلك بإحسان الصلة به سبحانه؛ عبادةً ودعاءً والتزامًا بما شرع؛ لكي يوفِّق اللهُ العبدَ ويعينه على بر والديه.
(2) استحضار فضائل بر الوالدين وعواقب العقوق: فإن معرفة ثمرات البر واستحضار حُسن عواقبه مِن أكبر الدواعي إلى فعله.
وكذلك النظر في عواقب العقوق، وما يجلبه من غمٍّ وحسرةٍ وندامةٍ، كل ذلك مما يعين على البِر، ويُبعد العبد عن عقوق والديه.
(3) استحضار فضل الوالدين على الإنسان: فهما سبب وجوده في هذه الدنيا، وهما اللذان تعِبا من أجله، وأولَيَاه خالص الحنان والمودة، وربَّيَاه حتى كبِرَ؛ فمهما فعل الولد معهما فلن يستطيع أن يوفِّيَهما حقهما؛ فاستحضار هذا الأمر مدعاةٌ للبر.
(4) صلاح الآباء: فصلاحهم سبب لصلاح أبنائهم وبرهم بهم.
(5) التواصي ببرِّ الوالدين: وذلك بتشجيع البررة، وتذكيرهم بفضائل البر، ونصح العاقِّين، وتذكيرهم
عواقب عقوق الوالدين.
(6) يضع الولد نفسه موضع الوالدين: فهل يسرُّك -أيها الولد -غدًا إذا أصابك الكِبَر ووَهن العظم منك، واشتعل الرأس شيبًا، وعجزت عن الحركة -أن تلقى مِن أولادك المعاملة السيئة؟!
(7) قراءة سِيَر البارِّين بآبائهم والعاقين لهم: فسِيَر البارين مما يساعد على البر، وقراءة سِيَر العاقين وما نالهم من سوء المصير تُنَفِّرُ عن العقوق، وتبغِّضُ فيه، وتدعو إلى البر وترغِّب فيه.
21-أيها المسلمون
في هذه الأيام يحتفل أعداء الله الضالون بما يسمونه عيد الأم، وفي هذه المناسبة يتذكر الواحد منهم أمه بأن يزورها في مأوى العجزة، أو يقدم لها باقة من الورد، أو حتى يتصل بها بالهاتف، أو يرسل لها رسالة تهنئة من جواله. وهذا العيد بدأ وللأسف يغزو مجتمعاتنا، وتعلقت به نفوس بعض ضعاف الإيمان من أبنائنا، انشغلوا به، وتهيؤوا له، واتخذ بعضهم مناسبته -في بعض البلدان-عطلةً وعيدًا؛ وما ذلك إلا بسبب الانبهار والإعجاب بحضارة الغرب المادية الزائفة، والانخداع ببريقها المخدر، وبسبب الغزو الفكري والثقافي والترويج الإعلامي المسموع والمرئي والمقروء الذي يحرض على هذه الضلالات، ويلفت إليها أنظارَ الناس وأسماعَهم، ويحرك قلوبهم لها.
أيها المسلمون، لقد كان رسولكم يحرصُ كلَّ الحرصِ على أن تخالف أمتُه اليهود والنصارى في كلِ شيء، حتى قال عنه اليهودُ أنفسهم كما يرويه أنسٌ رضي الله عنه: ما يريدُ هذا الرجلُ أن يدعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه ([21]).
وإذا كان اليهود والنصارى يتجاهلون أعيادنا ولا يحتفلون بها بل يستهزئون ويسخرون منا فما بالُ البعضِ يحتفل بمناسباتهم ويحييها على سنتهم ابتغاءً وطلبًا لرضاهم؟! وتناسى أولئكَ قوله سبحانه:﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾[البقرة: 120].
إنما كل يوم هو عيد للوالدين حينما تتقي الله فيهما وتحسن صحبتهما وتبرهما، فلا يليق أبدا أن يكون برهما بهدية مرة كل عام وينتهي الأمر، فليس هذا ما علمنا إياه النبي r .
ثانيًا: نماذج على بر الوالدين
1-النبي r
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ زَارَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى فِى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِى أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِى فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» ([22]).
2-سيدنا إبراهيم عليه السلام
خاطب خليل الرّحمن إبراهيم عليه السّلام أباه بلطف شديد، وإشفاق واضح، وحرص عليه، ورغبة في الهداية والنّجاة، والخوف من غوايته وهلاكه، فيقول كما أخبر الله عنه:" وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا "، مريم/41 - 455. فقد خاطب والده بكلمات مؤثّرة تلمس القلوب والأعماق، وعبارات مشفقة على حاله، لولا أنّ قلب والده كان قاسياً أغلف، لتأثّر بها، وكانت سبباً في نجاته واهتدائه إلى الطريق المستقيم.
3-سيدنا إسماعيل عليه السلام
ضرب سيّدنا إسماعيل عليه السّلام أروع الامثلة في برّ الوالدين، عندما قال له أبوه:" يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ "، الصافات/102، فكان ردّه كما أخبرنا الله تعالى:" يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ "، الصافات/102.
4-أبو هريرة
عن أبي مرة؛ مولى أم هانئ ابنة أبي طالب أخبره "أنه ركب مع أبى هريرة إلى أرضه بـ(العقيق) فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أمتاه! تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. يقول: رحمك الله كما ربيتنى صغيراً. فتقول: يا بنى! وأنت. فجزاك الله خيراً ورضى عنك، كما بررتني كبيراً" قال: موسى: كان اسم أبى هريرة: عبد الله بن عمرو ([23]).
5-أُوَيْسُ بْنُ عَامِر
عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ قَالَ نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ «يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَاسْتَغْفِرْ لِى. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَةَ. قَالَ أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا قَالَ أَكُونُ فِى غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَىَّ. قَالَ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَوَافَقَ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ قَالَ تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ «يَأْتِى عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ اسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِى. قَالَ لَقِيتَ عُمَرَ قَالَ نَعَمْ. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ أُسَيْرٌ وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ" ([24])
6-ثلاثة نفر أُغلق عليهم الغار
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-أَنَّهُ قَالَ «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِى جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمُ اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِى وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَامْرَأَتِى وَلِىَ صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِىَّ وَأَنَّهُ نَأَى بِى ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِىَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَىَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِى وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ..........." ([25])
ومعنى: الحلاب: الإناء الذي يحلب فيه اللبن، ويتضاغون: يبكون ويصيحون
7-الهذيل بن حفصة بنت سيرين:
قالت حفصة بنت سيرين: "بلغ من برِّ الهذيل ابني بي، أنه كان يكسر القصب في الصيف فيوقد لي في الشتاء، قال: لئلا يكون له دخان، وكان يحلب ناقته بالغداة، فيأتيني به، فيقول: اشربي يا أم الهذيل؛ فإن أطيب اللبن ما بات في الضرع قالت: فمات، فرزق الله عليَّ من الصبر ما شاء أن يرزق، وكنت أجد مع ذلك حرارةً في صدري لا تكاد تسكن، قالت: فأتيت ليلةً من الليالي على هذه الآية: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ
اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]،فذهب عني ما كنت أجد"([26])
8-قال محمد بن المنكدر رحمه الله: بت أغمز رجل أمي، وبات أخي عمر يصلي، وما يسرني أن ليلتي بليلته
9-كان ظبيان بن علي
من أبر الناس بأمه؛ فباتت ليلة وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه قائمًا؛ يكره أن يوقظها، ويكره أن يقعد؛ حتى إذا ضعف جاء غلامان من غلمانه، فما زال معتمدًا عليهما حتى استيقظت من قبل نفسها!
10-محمد بن سيرين
ودخل رجل عليه وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد، أيشتكي شيئًا ؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه!
11-زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما
كان غاية في بره بأمه، فقيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة ؟! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها !!
12-ذر بن عمر بن ذر
كان من أبر الناس بأبيه، فما مشي معه في ليل، إلا وكان أمامه، وما مشي معه في نهار؛ إلا كان وراءه، وما ارتقى على سقف تحته أبوه! .
13-الفضل بن يحيى البرمكي
كان شديد البر بأبيه، وكان أبوه يحيى؛ لا يتوضأ إلا بماء ساخن، ولما سجنوا؛ منعهم السجان ذات ليلة من إدخال الحطب، فلما أخذ يحيى مضجعه، قام الفضل إلى قمقم نحاس، فملأه ماء، ثم أدناه من المصباح، فلم يزل قائمًا، وهو في يده إلى الصباح! ففطن السجان لذلك، وفي الليلة التي تليها منعهم من إنارة المصباح، فقام الفضل إلى إناء وجعل فيه ماء ثم ألصقه بأحشائه حتى الصباح، ففترت برودة الماء، فقدمه لأبيه؛ ليتوضأ به!
14-حجر بن عدي بن الأدبر
يلتمس فراش أمه بيده؛ فيتهم غلظ يده فينقلب عليه على ظهره، فإذا أمن أن يكون عليه شيء أضجعها!
15-أخي المسلم:
كان تلك بعض الصور الصادقة لأبناء بارين. فلا تعجزن أن تكون من أولئك الأبناء الذين صدقوا في برهم بوالديهم. فإن برك بأبويك طريقك إلى رضا الله تعالى. وتأييده في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: كيف يكون بر الوالدين؟
أ-في حياتهما
1-طاعتهما فيما يأمران به:
طاعة الوالدين واجبة على الولد؛ إذا أمراه أن يسمع لقولهما، ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى.
قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
بل إن العلماء أفتوا: أن الوالد إذا منع ابنه من صوم التطوع، فله أن يطيع والده.
سئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل يصوم التطوع، فسأله أبواه أو أحدهما؛ أن يفطر، قال: (يروى عن الحسن أنه قال: يفطر وله أجر البر، وأجر الصوم إذا أفطر).
2-خفض الصوت عندهما ومخاطبتهما بلين وعدم زجرهما:
إن مما يؤسف له أن الكثيرين؛ إذا خاطب أحدهم أحد والديه؛ تجده يرفع صوته، ولا يراعي الأدب معهما! وهذا لا شك من العقوق؛ الذي حذر منه الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
فلا يقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم، وأفّ للأبوين أردأ شيء لأنّه رفضهما رفض كفر النّعمة، وجحد التّربية وردّ الوصيّة الإلهيّة.
3-توقيرهما والتذلل لهما:
وهذا من لوازم البر؛ فإن كثيرًا من الأبناء؛ تجده يتعالون على الوالدين؛ فإذا أمره أحدهما بشيء، فكأنما في ذلك إهانة له! وخاصة إذا كان الولد كبير المنصب.
ولكن هذا الجاهل، غاب عنه؛ أن بر الوالدين ليس فيه إهانة ولا مذلة؛ بل إن المذلة في عدم طاعتهما! قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].
قال عروة رحمه الله: هو ألا يمنعهما من شيء أراداه.
وقال طاووس رحمه الله: (إن من السنة أن نوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد).
وأبصر أبو هريرة رضى الله عنه رجلين، فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي. فقال: لا تسمه باسمه، ولا تمش أمامه، ولا تجلس قبله ([27]).
4-استئذانهما إذا نوى السفر الطويل؛ لطلب علم أو غيره:
فإن رضا الوالدين من الأمور الضرورية في مثل هذه الحالة. ولك أن تعتبر أن إذن الوالدين واجب؛ حتى في حق الذي يريد الخروج إلى الجهاد.
وعن طلحة بن معاوية السلمي رضى الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: «أمك حية؟» قلت: نعم، قال النبى صلى الله عليه وسلم: «الزم رجلها فثم الجنة!» ([28])
5-الإنفاق عليهما وسد حاجتهما:
وهذا من لوازم البر الأكيدة؛ أن يطعم الابن والديه ويكسوهما، ويقوم على حاجتهما.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: «أنت ومالك لأبيك!» ([29])
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي مالا وإن والدي يحتاج إلى مالي قال: " أنت ومالك لوالدك إن أولادكم من أطيب كسبكم كلوا من كسب أولادكم ([30])
6-الدعاء لهما:
إن من البر؛ أن يدعو الابن لوالديه بالرحمة؛ حتى وإن كانا أحياء وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على
الدعاء لكل من صنع إلينا معروفًا، فكيف بالوالدين؟! ومعروفهما فوق كل معروف.
وفي الدعاء لهما: أداء لبعض حقوقهما عليك، وليس ذلك بالصعب.
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء.
وقال تعالى: " رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ " إبراهيم.
وقال تعالى في ذكره لدعاء نوح:" رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا "، نوح/288،
قال بعض التابعين: (من دعا لأبويه في كل يوم خمس مرات، فقد أدى حقهما، لأن الله تعالى قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فشكر الله تعالى أن يصلي في كل يوم خمس مرات، وكذلك شكر الوالدين؛ أن يدعو لهما في كل يوم خمس مرات).
وقال بعض الصحابة رضى الله عنهم: (ترك الدعاء للوالدين؛ يضيق العيش على الولد).
ب-بعد موتهما
عن أبى هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
وعن أبي أسيد السّاعديّ -رضي الله عنه -، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم -إذ جَاءهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيء أبرُّهُما بِهِ بَعْدَ مَوتِهمَا؟ فَقَالَ: ((نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، والاسْتغْفَارُ لَهُمَا، وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلاَّ بِهِمَا، وَإكرامُ صَدِيقهمَا)) ([31])
1-الاستغفار لهما
عن أبى هريرة قال: " ترفع للميت بعد موته درجته. فيقول: أي رب! أي شيء هذه؟ فيقال: "ولدك استغفر لك"([32]).
2-الدعاء لهما
وعن محمد بن سيرين قال: كنا عند أبى هريرة ليلة، فقال: "اللهم اغفر لأبى هريرة، ولأمي، ولمن استغفر لهما" قال لي محمد: فنحن نستغفر لهما؛ حتى ندخل في دعوة أبى هريرة" ([33]).
3-الصدقة عنهما
عن ابن عباس، أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أمي توفيت ولم توص، فينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: "نعم" ([34]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال (نعم). قال فإني أشهدك أن حائطي المخراق صدقة عليها" ([35])
ومعنى (حائطي) هو البستان من النخل إذا كان له جدار. و(المخراف) اسم لحائطه والمخراف الشجرة وقيل ثمرها.
4-إكرام صديقهما
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ
يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» ([36]).
وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده) وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك" ([37])
وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم -مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَة رضي الله عنها، وَمَا رَأيْتُهَا قَطُّ، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يقَطِّعُهَا أعْضَاء، ثُمَّ يَبْعثُهَا في صَدَائِقِ خَديجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأنْ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا إلاَّ خَديجَةَ ! فَيَقُولُ: ((إنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لي مِنْهَا وَلَدٌ)) ([38]).
5-الصوم والحج عنهما وقضاء نذرهما:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -رضى الله عنه -قَالَ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّى تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ -قَالَ -فَقَالَ «وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ». قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ «صُومِى عَنْهَا»، قَالَتْ إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ «حُجِّى عَنْهَا» ([39]).
وعَنْ عَائِشَةَ -رضى الله عنها -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» ([40]).
عليك ببرّ الوالدين كليهما
|
***
|
وبرّ ذوي القربى وبرّ الأباعد
|
ولا تصحبن إلّا تقيّا مهذّبا
|
***
|
عفيفا ذكيّا منجزا للمواعد
|
رابعًا: الترهيب من عقوق الوالدين
العقوق في اللغة: مشتق مِن العَقِّ، وهو القطع.
عقوق الوالدين: صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قولٍ أو فعلٍ، إلا في شركٍ أو معصية ([41])
قال الإمام ابن الجوزي (رحمه الله): عقوق الوالدين: مخالفة الوالدينِ فيما يأمرانِ به من المباح، وسوء الأدب في القول والفعل ([42]).
1-حرم الله العقوق
عن أَبي عيسى المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه -، عن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأمَّهَاتِ، وَمَنْعاً وهاتِ، وَوَأْد البَنَاتِ، وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ)) ([43])
وعن المغيرةِ بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اللهَ حرَّم عليكم عقوقَ الأمهاتِ)) ([44])
قال الإمام ابن حجَر العسقلاني (رحمه الله): قيل: خصَّ الأمهاتِ بالذِّكر؛ لأن العقوق إليهن أسرعُ من الآباء؛ لضعف النساء، ولينبِّهَ على أن برَّ الأم مقدَّم على برِّ الأبِ، في التلطف، والحُنوِّ، ونحو ذلك" ([45])
2-من أكبر الكبائر
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ!))، قالوا: يَا رَسُول الله، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟! قَالَ: ((نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ
أبَاه، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ)) ([46])
وفي رواية: ((إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ!))، قِيلَ: يَا رَسُول الله، كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ ؟! قَالَ: ((يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ)) ([47]).
وعن أَبي بكرة نُفَيع بن الحارث -رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ؟)) - ثلاثاً -قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ: ((الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ))، وكان مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، فَقَالَ: ((ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ)) فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. ([48])
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْس، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ)) ([49])
3-لعن الله من لعن والديه
عن أبى الطفيل قال: سئل علي: هل خصّكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس كافة؟ قال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس؛ إلا ما في قراب سيفي، ثم أخرج صحيفة، فإذا فيها مكتوب: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من سرق منار الأرض، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا"([50]).
ومعنى آوى محدثا: أجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. ويروى بالفتح وهو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها، ولم ينكرها عليه أحد، فقد آواه.
4-خاب وخسر من أدرك والديه فلم يغفر له
عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه". قالوا: يا رسول الله! من؟ قال: "من أدرك والديه عنده الكبر، أو أحدهما، فدخل النار"([51]). معنى رغم انفه: ألصقه بالتراب وأذله
5-تعجيل العقوبة في الدنيا
عن أبى بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له؛ من البغى وقطيعة الرحم"([52]).
6-سبب غضب الله تعالى
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رضا الربِّ في رضا الوالد، وسَخَط الربِّ في سَخَط الوالد)) ([53])
7-لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا
عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاثة لا يقبَل الله منهم صَرْفًا (فرضًا)، ولا عدلًا (تطوعًا): عاقٌّ، ومنَّانٌ، ومكذِّبٌ بالقدر)) ([54])
8-هم الخاسرون الذين حق عليهم القول
قال تعالى: "وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)" الاحقاف
أي: دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة([55]).
9-دخول النار
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأة المترجِّلة، والدَّيُّوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه، والمدمِن على الخمر، والمنَّان بما أعطى)) ([56])
قال السندي (رحمه الله): قوله: (لا ينظر الله إليه)؛ أي: نظر رحمة أولًا، وإلا فلا يغيب أحد عن نظره، والمؤمن مرحوم بالآخرة قطعًا، (العاقُّ لوالديه): المقصر في أداء الحقوق إليهما، (المترجِّلة): التي تتشبَّه بالرجال في زيِّهم وهيئاتهم، فأما في العلم والرأي فمحمود، (والدَّيُّوث) وهو الذي لا غيرةَ له على أهله، (لا يدخلون الجنة): لا يستحقُّون الدخولَ ابتداءً. ([57])
10-الجزاء من جنس العمل:
أ-قال الأصمعي (رحمه الله): حدثني رجل من الأعراب قال: خرجتُ من الحي أطلب أعَقَّ الناس، وأبرَّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة، والحر شديد، وخلفه شاب في يده رِشاء (الحبل) من قِدٍّ (جلد مدبوغ) ملويٍّ يضربه به، قد شق ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيرًا، قال: اسكت، فهكذا كان هو يصنَع بأبيه، وهكذا كان يصنَع أبوه بجده، فقلت: هذا أعَقُّ الناس. ([58])
ب-وهذا رجل الذي كبر أبوه. اخذ أباه على دابة (جمل) أخذه إلى وسط الصحراء. فقال أبوه: يا بني أين تريد أن تأخذني. فقال الابن: لقد مللتك وقد أسأمتك. قال الأب: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أذبحك لقد مللتك يا أبى. فقال الأب: إن كنت ولابد فاعلا فذبحني عند تلك الصخرة. فقال الابن: ولما يا ابي. قال الأب: فأني قد قتلت ابي عند تلك الصخرة فقتلني عندها فسوف ترى من أبنائك من سوف يقتلك عند تلك الصخرة
11-عمَى القلوب:
قال عبد العزيز السلمان (رحمه الله): مِن أقبحِ مظاهر عقوق الوالدينِ: أن يتبرأ الولد من والديه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما؛ كأن يكون فلَّاحين، أو يكون الوالد نجارًا، أو صاحب مهنة متواضعة، في حين يعيش الولد في تَرَف، ويَشغَل وظيفة كبيرة، فيخجَل من وجودهما في بيته عند زملائه بزيهما البسيط، وربما سأله مَن لا يعرف والده: مَن هذا؟ فيقول: هذا خادم عندنا مستأجَر لشؤون البيت؛ وذلك لأن هذا الولد يتوهم أن هذه الهيئة تتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير، وهذا بلا شك برهانٌ على سخافة عقله، وقلة دِينه، والنفس العظيمة الشريفة تفتخر وتعتزُّ بمنبتِها وأصلها، أبيها وأمها، مهما كانت حياتُهما ونشأتهما، وبيئتهما وهيئتهما، ولا يستبعد أن يوجد من النساء اللاتي يقال لهن: متعلمات، إذا سألها مَن لا يعرف أمَّها: من هذه؟ فتقول: هذه خادمة عندنا ([59]).
وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل:﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾.
خامسًا: أسباب العقوق ونماذج عليه
أ-أسباب عقوق الوالدين:
يمكن أن نوجز الأسباب التي تؤدي إلى عقوق الوالدين فيما يلي:
(1) الجهل: فالجهل داءٌ قاتل، والجاهل عدوٌّ لنفسه، فإذا جهل الإنسان عواقب العقوق في الدنيا والآخرة، وجهل ثمرات البر، قاده ذلك إلى العقوق، وصرَفه عن البر.
(2) سوء التربية: فالوالدان إذا لم يربِّيَا أولادهما على التقوى، والبر والصلة، فإن ذلك سيقودهم إلى التمرُّد والعقوق.
(3) الصحبة السيئة للأولاد: فهي مما يفسِد الأولاد، ومما يجرِّئهم على العقوق، كما أنها تُرهق الوالدينِ، وتضعف أثرهما في تربية الأولاد.
(4) عقوق الوالدين لوالدَيْهما: فهذا من جملة الأسباب الموجبة للعقوق، فإذا كان الوالدانِ عاقَّينِ لوالدَيْهما عُوقِبا بعقوق أولادهما.
(5) التفرقة في المعاملة بين الأولاد: فهذا العمل يورث لدى الأولاد الشحناءَ والبَغْضاء، فتسُودُ بينهم روحُ الكراهيَة، ويقودهم ذلك إلى بُغْض الوالدَينِ وقطيعتهما.
(6) عدم إعانة الوالدينِ لأولادهما على البر: فبعض الوالدين لا يعين أولاده على البر، ولا يشجِّعهم على الإحسان إذا أحسنوا.
(7) قلة تقوى الله تعالى في حالة الطلاق: فبعض الوالدين إذا حصل بينهما طلاق لا يتقيان الله في ذلك، ولا يحصل الطلاق بينهما بإحسان.
فترى الأولاد إذا ذهبوا للأم قامت بذكر عيوب والدهم، وبدأت توصيهم بالتمرد عليه وهجره، وهكذا إذا ذهبوا إلى الوالد فعَل كفعل الوالدة، والنتيجة أن الأولاد سيعقُّون الوالدين جميعًا.
(8) سوء خُلُق الزوجة: فقد يُبتلى الإنسان بزوجة سيئة الخلق، لا تخاف الله، ولا ترعى الحقوق، فتكون شوكة في حَلْق زوجها، فتجدها تجعل الزوج يتمرد على والديه، أو يخرجهما من المنزل، أو يقطع إحسانه عنهما؛ لتخلوَ بزوجِها، وتستأثرَ به دون غيره؛
ب-نماذج على العقوق
1-يروي أحد الأشخاص: كنت على شاطئ البحر فرأيت امرأة كبيرة في السن جالسة على ذلك الشاطئ تجاوزت الساعة 12 مساءً فقربت منها مع أسرتي ونزلت من سيارتي ... أتيت عند هذه المرأة، فقلت لها: يا والدة من تنتظرين؟
قالت: انتظر ابني ذهب وسيأتي بعد قليل ... يقول الراوي: شككت في أمر هذه المرأة. وأصابني ريب في بقائها في هذا المكان. الوقت متأخر ولا أظن أن أحد سيأتي بعد هذا الوقت ...
يقول: انتظرت ساعة كاملة ولم يأت أحد ... فأتيت لها مره أخرى فقالت: يا ولدي. ولدي ذهب وسيأتي الآن، يقول: فنظرت فإذا بورقه بجانب هذه المرأة، فقلت: لو سمحت أريد أن اقرأ هذه الورقة، قالت: إن هذه الورقة وضعها ابني وقال: أي واحد يأتي فأعطيه هذه الورقة، يقول الراوي: قرأت هذه الورقة ... فماذا مكتوب فيها؟ مكتوب فيها: (إلى من يجد هذه المرأة الرجاء أن أخذها إلى دار العجزة).
عجباً لحال هؤلاء.
2-يروي أحد بائعي الجواهر قصة غريبة فيها صورة من صور العقوق.
يقول: دخل علي رجل ومعه زوجته، ومعهم عجوز تحمل ابنَهما الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات يشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات، دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً، وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتما فأعجبها لكي تلبسه في العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريالا؟ قال: لهذه المرأة؛ قد أخذت خاتماً، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة: لماذا أغضبت أمك، فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟ ذهب الابن إلى أمه، وعرض عليها الخاتم فقالت: والله ما ألبس الذهب حتى أموت، ولك يا بني مثله، ولك يا بني مثله.
فيا أخي المسلم من أحق بالبر: المرأة التي هي سبب وجودك، والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها، وسهرت لتنام، وتألمت لألمك، وسهرت لراحتك، وحمَلت أذاك وهي راضية، فإذا عقلتَ ورجت منك البر عققتَها، وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهراً أو شهرين.
3-هذا رجل أصابه الكبر الشديد وتجاوز التسعين من العمر فأصبح في بعض الأحيان يفقد وعيه ويفقد الذاكرة حتى يصبح كالمجنون تذهب الذاكرة وتعود، ولقد قام بتزويج أبنائه الثلاثة وأسكنهم في نفس البيت ولكن كانت زوجات أبناءه قد تضايقوا من وجود هذا الأب. فوضع البنات خطة لطرد هذا الأب وأقنعا الأزواج بالذهاب به إلى دار العجزة وفعلاً استجاب هؤلاء الأبناء، عليهم من الله ما يستحقون وذهبوا بوالدهم إلى دار العجزة، وقالوا للمسؤولين: إن هذا الرجل وجدناه في الطريق ونريد أن نكسب الأجر فوضعناه عندكم دار العجزة.
رحبت دار العجزة بهذا الأمر على أنه فعلا رجلا في الطريق ليس له أحد إلا هؤلاء جاءوا به إلى هذا المكان وقالوا للبواب المسئول: إذا مات هذا الرجل فهذا رقم البيت ورقم الجوال فاتصل علينا، ما هي إلا لحظات وتعود الذاكرة إلى هذا الأب وينادي أبناه يا فلان يا فلانة احظروا لي ماء أريد أن أتوضأ، جاء المسئول والممرضين عند هذا الأب الكبير قالوا: أنت في دار العجزة، قال: متى أتيت إلى هنا؟ قالوا: أتيت في يوم كذا وكذا وذكروا أوصاف الأبناء الذين جاءوا به، قال هؤلاء أبنائي ورفع يديه ودعاء عليهم. اللهم كما فعلو بي هذا الفعل اللهم فأرني وجوههم تلتهب ناراً يوم القيامة.
اللهم أحرمهم من الجنة يا رب العالمين وينادي المدير المسئول ويكتب جميع عقاراته وأملاكه وقفاً لهذه الدار ولم يتحمل هذه الصدمة وتوفي مباشره. فرح الأبناء بعدما أتصل عليهم هذا البواب وأعطوه مبلغ من المال فجاءوا فرحين ولكن تفاجؤوا إذا برجال الأمن يوقفونهم عند المحكمة ليخبروهم أن هذه الأملاك كلها أصبحت ملك لدار العجزة ويجب عليهم أن يخرجوا من هذه الشقق التي كانوا يسكنون فيها هذا في الدنيا قبل الآخرة
4-مات والدي وأنا صغير فأشرفت أمي على رعايتي، عملت خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تصرف علي، فقد كنت وحيدها، أدخلتني المدرسة وتعلمت حتى أنهيت الدراسة الجامعية كنت باراً بها وجاءت بعثتي إلى الخارج فودعتني بالدموع وهي تقول لي: -انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك، أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك.
أكملت تعليمي بعد مضى زمن طويل ورجعت شخصاً آخر قد أثرت فيه الحضارة الغربية، رأيت في الدين تخلفاً ورجعيه !!!وأصبحت لا أؤمن إلا بالحياة المادية والعياذ بالله.
حصلت على وظيفة عالية وبدأت أبحث عن الزوجة حتى حصلت عليها، وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة ولكني أبيت إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة لأنني كنت أحلم بالحياة الارستقراطية !!!
وخلال ستة أشهر من زواجي كانت زوجتي تكيد لأمي حتى كرهت أمى، وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجتي تبكي فسألتها عن السبب فقالت: -اختر أحد الأمرين إما أنا وإما أمك في هذا البيت لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك.
جن جنوني وطردت أمي من البيت في لحظة غضب فخرجت وهي تبكي وتقول: -أسعدك الله يا ولدي.
انظروا كم هو قلب الأم كبير وحنون وعطوف فرغم أن ولدها وحيدها طردها من البيت ظلماً وعدواناً إلا أنها تدعو له بالسعادة في الحياة.
يكمل صاحب القصة قائلاً: -وبعد ذلك بساعات خرجت ولكن لا فأئده، رجعت إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة !!!
انقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن أصب خلالها بمرض خبيث دخلت على إثره المستشفى، وعلمت أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي وقبل أن تدخل علي طردتها زوجتي وقالت لها: -ابنك ليس هنا. ماذا تريدين منا. اذهبي عنا.
رجعت أمي من حيث أتت وخرجت من المستشفى بعد وقت طويل انتكست فيه حالتي النفسية وفقدت
الوظيفة والبيت وتراكمت على الديون وكل ذلك بسبب زوجتي فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة، وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميلة وقالت ما دمت قد فقدت وظيفتك ومالك ولم يعد لك مكان في المجتمع فأنني أعلنها لك صريحة: -أنا لا أريدك. لا أريدك. طلقني.
كان هذا الكلام الذي سمعته بمثابة صاعقة على رأسي طلتها بالفعل، وعندها استيقظت من السبات الذي كنت فيه وخرجت أهيم على وجهي أبحث عن أمي، وفي النهاية وجدتها، ولكن أين وجدتها ؟!
كانت تقبع في أحد " الأربطة " والرباط مكان يجتمع فيه الذين لا مأوى لهم وليس لهم من يعولهم ويأكلون ويشربون من الصدقات، دخلت عليها وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة، وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها وبكيت بكاء مراً، وما كان منها إلا أن شاركتني البكاء، بينا على هذه الحال حوالي ساعة كاملة بعدها أخذتها إلى البيت وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله مجتنباً لنواهيه.
5-قال أحد الآباء الذين ذاقوا عقوق الأولاد لابن له:
غذَوْتُك مولودًا وعُلتُك يافعًا
|
**
|
تعلُّ بما أحني عليك وتنهَلُ
|
إذا ليلةٌ نابَتْك بالشَّكْوِ لم أبِتْ
|
**
|
لشكواكَ إلا ساهرًا أتملمَلُ
|
كأني أنا المطروقُ دونَك بالذي
|
**
|
طُرِقْتَ به دوني، فعَيْنيَ تهمُلُ
|
تخافُ الردى نفسي عليك وإنها
|
**
|
لتعلَمُ أن الموتَ ضيفٌ سينزِلُ
|
فلمَّا بلغتَ السنَّ والغايةَ التي
|
**
|
إليها مدى ما كنتُ فيكَ أؤمِّلُ
|
جعَلْتَ جزائي غِلظةً وفظاظةً
|
**
|
كأنَّك أنتَ المنعِمُ المتفضِّلُ
|
فليتَك إذ لم تَرْعَ حقَّ أبوَّتي
|
**
|
فعَلْتَ كما الجارُ المجاورُ يفعَلُ
|
فأوليتَني حقَّ الجوارِ ولم تكُنْ
|
**
|
علَيَّ بمالي دون مالِكَ تبخَلُ
|
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
تعليقات: (0) إضافة تعليق