أولاً : معية الله زاد وغاية .
ثانياً : المعية من الله عز وجل على نوعين .
ثالثاً : المعية لها صورها المُتعدِّدة في الدنيا والآخرة .
رابعاً : أمثلة لمعية الله لأوليائه .
خامساً : الأسباب الربانية للحصول على معية الله لعباده .
الموضوع
الحمد لله رب العالمين يسمع دعاء الخلائق ويجيب... يؤنس الوحيد ، ويَهدي الشريد ، ويُذهب الوحشة عن الغريب... يغفر لمن استغفره ، ويرحَم مَن استرحمه ، ويصلح المعيب... من أطاعه تولاه ، ومن غفل عنه لا ينساه ، وله من الرزق نصيب... يرزق بلا أسباب ، ويدخل الجنة بغير حساب ، فلا فضح ولا تنقيب...
نحمده تبارك وتعالى ونسأله التنظيم لأحوالنا والترتيب ... ونعوذ بنور وجهه الكريم من الفساد والإفساد والتخريب... ونرجوه الأمن والأمان والرضا والرضوان في يوم يسقط الجنين فيه والصغير فيه يشيب ...
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المهيمن والرقيب...
من تبع شرعه والاه ، ومن تقرب إليه فاز بالتقريب ... من أوى إليه آواه ، ومن استحيا منه فليس عليه تثريب...
من توكل عليه كفاه ، ومن التجأ إليه فالفرج قريب... من اعتصم به فهو مولاه ، ومن ارتجاه مخلصًا لا يخيب...
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ، المقرب والحبيب...
خلقه نعمة ، ومبعثه رحمة ، وشمس سنته لا تغيب ... نظره لحظ ، وكلامه وعظ ، واللفظ منه لا يريب...
من سلم عليه رد عليه السلام ، ومن صلى عليه فهو من الجنة قريب...
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه ، كلما أثنى عليه شاعر أو أديب ، وطالما عرف حقه عالم أو نجيب...
وعلى الصحب والآل وكل من انتسب إليه من بعيد أو قريب...
أما بعد :
أولاً : معية الله زاد وغاية . إن المواهب والقدرات ، مع القوة والمهارات ، إضافة إلي الذكاء والخبرات ،أمور لا غنى عنها لكل من يبحث عن التميز أو التفوق أو الكسب في دنيا الناس . ولكن : هل مواهبنا وقدراتنا ومهاراتنا وحدها تكفينا لكي نتميز أو نفوز أو نحقق ربحا كبيرا أو فوزا عريضا ؟ لا شك أن هذه المواهب وهذه القدرات المميزة لكل منا , ما هي إلا نعم أنعم الله بها علينا . وكل من أراد منا التميز أو التفوق في هذه الحياة فعليه الاهتمام البالغ بهذه المنح الربانية .. بل وعليه أن يسعى إلي تطويرها وتنميتها وتجديدها من حين لحين . فهي لا غنى عنها لكل من يسير في معترك هذه الحياة التي أصبحت لا تعترف بخامل أو كسول , ولا بمصر على السير سير الهوينى . إن الإنسان الايجابي في هذه الحياة هو ذلك الذي يملك موهبة أو مهارة أو حتى سمعة حسنة يشتهر بها في دنيا الناس ، و في المحيط الذي يعيش فيه ، ينفع بها ويصلح فيه ، هو الذي له دور في هذه الحياة ، وهو الذي يشارك في صنع الإحداث من حوله ، هو من لا يكتفي بالوقوف متفرجا على هذه الأحداث وهي تمر أمامه ، بل لا بد من أن يعمل كل منا و يسعي ويجد- بل ويكد - في تطوير مواهبه وقدراته وإتقانها إلي الحد الذي تجعله يتخطى حدود الدائرة التي يعيش فيها ليعمل مع العاملين على تغيير وجه التاريخ . فكما يقول الفيلسوف الفرنسي المشهور جان جاك روسو : ’’ نحن في حاجة إلى المزيد من فئة صانعي الأحداث ، لأنهم وحدهم دون غيرهم الذين يستطيعون إن يغيروا وجه التاريخ .
وكل من أراد أن يكون من هذه الفئة لابد أن يكون من أصحاب المواهب والقدرات والمهارات المتميزة . وعند النزول إلى معترك الحياة والعمل يجب ألا نعتمد على مواهبنا ، ولا على قدراتنا اعتمادا كليا ، كما يجب ألا نركن إليها مهما تعاظمت أو تكاملت . بل يجب علينا أن نتعلم كيف نمزج هذه القدرات ، وهذه المواهب بمعية الله الواهب، يجب على كل من أراد الكسب أو السبق أو الفوز أو النصر أن يتعلم كيف يستجلب تلك المعية الإلهية له في كل أعماله ، صغرت تلك الإعمال أو كبرت . فلا حول ولا طول ولا نصر ولا كسب ولا نجاح ولا فلاح إلا بالله العلي العظيم .
إن إحساس المؤمن بحفظ الله له، ويقينه أنَّ الله معه؛ يَسمعه إذا شكا، ويُجيبه إذا دعا، ويأخذ بيده إذا كبا، ويمدُّه إذا ضعُف، ويعينه إذا احتاج، ويلطف به إذا خاف، كلُّ ذلك من أسباب ارتياح النفس وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب وتيسير الأمر، وطيب العاقبة في العاجل والآجل ؛ فإنَّ ثقة العبد بربِّه ويقينه بأنه - سبحانه - المتولي لأموره ، وأنه - تعالى - سائقُ كلِّ خير، وكاشفُ كل ضر - لا تتركه نهبًا للوساوس والأوهام ، ولا تلقيه في بيداء اليأس من روح الله ، أو ظلمة القنوط من رحمة الله ؛ بل تجعله يضرع إلى الله - تعالى - عند كلِّ نازلة ، ويستجير به عند كل مصيبة ، ويشكره ويذكُره ، ويحمده عند كلِّ نعمة ورحمة ، فيتَّجه إلى الله في سائر أحواله ، داعيًا متضرعًا موقنًا بالإِجابة ، منتظرًا للفرج من الله ، لا يتَّجه إلى غيره ، ولا يُنزل حاجتَه بسواه: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: ٦٢]، فيتذكَّر ربَّه في كلِّ أحواله ذاكرًا وشاكرًا على السرَّاء، وصابرًا ضارعًا منتظرًا للفرج عند الضرَّاء، ويسأل الله أن يجود عليه بحفظ النعماء، والعافية من البلاء، واللطف في القضاء. عبادَ الله : ثقوا بمعية الله للمؤمنين ؛ فإنَّها لكلِّ مَن اتقى الله في سرِّه وعلنه ، وأحسن ابتغاء وجه الله في قوله وعمله ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: ١٢٨] ، وهي المعيَّة الخاصة التي مقتضاها العون والتسديد، والحفظ والتأييد، واللطف بالعبيد، ومَن كان الله معه فقد آوى إلى ركنٍ شديد.
وكان هذا هو هدي رسولنا صلي الله عليه وسلم وديدنه في الأمور كلها . فكان صلي الله عليه وسلم يتقن هذا الآمر أيما إتقان . فكان إذا ما انتهي من مرحلة استغلال الإمكانات المتاحة أمامه ،والمواهب والقدرات المتوافرة تحت يديه , حتى يبدأ في مرحلة استجلاب معية الله . ففي يوم بدر بذل المصطفى صلي الله عليه وسلم الوسع في الإعداد : فصف الجيش , وعبأ الجند , ورسم الخطط , و افترض الافتراضات , واحتمل الاحتمالات , حاور, وتشاور وغير وبدل ، وما أن انتهى من الاستفادة من كل هذه الإمكانات والقدرات المتاحة ، حتى تنحى صلي الله عليه وسلم يناجي ربه في دعاء عميق , ومناجاة حارة , وإلحاح شديد يستجلب بها معية الله . ابتهل صلي الله عليه وسلم " وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه , فرده عليه الصديق – رضي الله عنه - وقال : يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك . ولكن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان خير من يعلم انه إذا ما امتزجت معية الله القادر بمواهب العباد وقدراتهم – مهما كانت محدودة - فحتما سينتج عن ذلك مخرجات تفوق قدراتهم على استيعاب أثارها الايجابية اللامحدودة .
وقد كان جاء مدد السماء بطريقة فاقت عقول أهل الأرض وامتزج المدد الروحي بالمدد المادي . وجاء النصر وتحقق الفوز لفئة لم تتكل على قدراتها ولا على مواهبها دون الاتكال على الله . ولم تتكل على الله دون الاستفادة القصوى من قدراتها ومواهبها وخبراتها .( أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ; وأن تصبح دولة ; وأن يصبح لها قوة وسلطان 000 وأراد لها أن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة وليس بالمال والخيل والزاد إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد.) كما يقول صاحب الظلال .
إن مرحلة استجلاب معية الله هي الحلقة الأضعف في حياتنا . فكثيرا ما تنسينا القدرات والخبرات والمواهب الخاصة مرحلة استجلاب معية الله . كثيرا ما نعتمد على مواهبنا وننسي الواهب . كثيرا ما نعتمد على قدراتنا وننسى القادر . كثيرا ما نعتمد على قوتنا وننسى القوي . وهنا نخسر الكثير، بل نخسر كل شئ .
في يوم حنين بذل المسلمون الجهد في إعداد المدد المادي الهائل : العتاد , العدد ,العدة , الكثرة في عدد الجند حتى اكتمل الهيكل العام للجيش على صورته المبهرة . حتى دخل العجب لقلوب البعض فقالوا : "لن نهزم اليوم من قلة " . أنستهم القوة والعدة ، استجلاب معية الله !!، أنساهم العدد والعتاد الاتكال علي الله ! ، أنستهم قدراتهم البشرية استجلاب معية الله والاتكال عليه وحده لا على تلك الأسباب !، لقد أتقن المسلمون يوم حنين مرحلة الإعداد ولم يتقنوا مرحلة الاستجلاب فكانت الانكسارة !!، كانت الانكسارة التي كان لابد منها لتعي الأمة أن مرحلة استجلاب معية الله من المراحل التي لا غنى عنها في حياة الأمم والإفراد والجماعات ، كما وأنها سند كل إنسان في هذا الوجود مهما كانت قدراته ومواهبه . و رسولنا صلي الله عليه وسلم وهو صاحب المواهب والقدرات التي لا تحصى ولا تعد إضافة إلى كونه المؤيد بالمعجزات , والمزود بالكاملات, والمحلى بالمدد الرباني كان دائما ما يردد : " اللهم لا تكلني إلي نفسي طرفة عين ولا ادني من ذلك " . فالخذلان أن يكلك الله إلي نفسك ويخلي بينك وبينها . والتوفيق ألا يكلك الله إلي نفسك ولا يخلي بينك وبينها . كما يقول ابن القيم رحمه الله .
وإذا كانت مرحلة استجلاب معية الله هي الحلقة الأضعف في حياتنا كما قلنا . فيجب على علماء الأمة ودعاتها وأهل الخير فيها أن يسعوا جميعا - كل في مجاله - إلي معالجة هذا الداء وتضميده ، وترميمه عند أبناء المسلمين . وليبذل كل غيور من أبناء هذه الأمة الجهد إلى أن تبصير الأمة بكيفية إتقان فن استجلاب معية الله حتي لا نندم . حتى لا نندم على أمر عظيم كندم يوم حنين . ولا على أمر صغير كندم جحا الذي قرر ذات يوم شراء حمار، واخذ يخبر كل من يقابله عن نيته في الذهاب إلي السوق غدا في الصباح الباكر لشراء حمار ، فنصحه احدهم : يا جحا قل : إن شاء الله . قل إن شاء الله غدا سأشتري حمارا . فرد عليه جحا بثقة الواثق من قدراته ، والمعتمد على مواهبه : ولماذا أقول إن شاء الله ؟! دنانيري في جيبي وما أكثر الحمير في الأسواق . وفي اليوم التالي ذهب جحا وعاد من السوق مطأطئ الرأس , خالي الوفاض ، بدون حمار. فسألوه : أين حمارك يا جحا ؟!!!!! فقال : إن شاء الله سرقت كل دنانيري !!!! .
ثانياً : المعية من الله عز وجل على نوعين .
1- معية عامة لجميع الخلائق ، قال تعالى : ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ﴾ [المجادلة: 7]، فالله عز وجل مع جميع الخلق بسمعه وبصره وقدرته وإحاطته ؛ فهذه معية عامة لجميع الخلق ، تستوجب من العبد الحذر والخوف من الله عز وجل ، وتقوى الله عز وجل ، ومراقبة الله عز وجل .
وتعني معية الله العامة بأن الله سبحانه وتعالى على علم بجميع أحوال عباده, ويطلع على جميع أحوالهم وتصرفاتهم الظاهرة منها والخفية , وهذه الصفة هي صفة إلهية ذاتية , فالمعية العامة تستلزم ، الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسمعا وبصرا, وتظهر معية الله العامة في قولة سبحانه وتعالى في قوله تعالى (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير.
2- والمعية الثانية عباد الله: هي معية النصرة والتأييد والتوفيق والتسديد ، وهي لعباده المؤمنين الصادقين ، كما قال عز وجل حاكيًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر في رحلة الهجرة: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]؛ أي: معنا بسمعه، ومعنا بتوفيقه ، ومعنا بتسديده ، وكما قال عز وجل لهارون وموسى : ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46] ؛ أي: أسمع ما يُراد بكما، وأرى ما يحاك لكما، وأعلم ما تحتاجان إليه : ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]
ومعية الله الخاصة هي صفة من الصفات التي تتضمن الإحاطة بنصرة الله وتأييده , فهذه الصفة تعني أن الله يحيط بالمؤمنين في كل مكان وينصرهم ويؤيدهم بنصره . ويظهر ذلك في قولة تعالى مخاطبا نبي الله موسى وهارون : (إنني معكما أسمع وأرى).
قال قتادة : " من كان مع الله عز وجل كان الله معه ، ومن كان الله عز وجل معه كان معه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل".
فإذا كنت مع الله عز وجل كان الله معك ، معيته لأنبيائه وأوليائه معية التأييد ، ومعية النصرة ، ومعية التسديد .
إِذَا كُنْتَ بِاللَّهِ مُسْتَعْصِمًا ♦♦♦ فَمَاذَا يَضِيرُكَ كَيْدُ العَبِيد
ثالثاً : المعية لها صورها المُتعدِّدة في الدنيا والآخرة .
مِن صور المعية بالدنيا :
1- أن يهديك الله عز وجل إلى الحق وطريقه قال الله عز وجل : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص:56] ، فيهديك هداية الدلالة إلى الحق أولًا ، وهداية التزام هذا الحق ثانيًا فيصير القول مُطابقًا للعمل ، والاثنان مطابقان لِما في الجَنان .
2- أن يهديك الله عز وجل إلى الطائفة المتمسكة بالطريق { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف:28] ، فلا يكفي أن تهتدي إلى الطريق فحسب ؛ بل لازم من الطريق أن تجد من يعينك عليه ، لأن الله قال : {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
3- وبعد أن يهدي الله هذه الطائفة المؤمنة للطريق والعمل به.. يهديهم إلى الدعوة إليه والتواصي ، كما قال عز وجل: { وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] ، وهذه صورة ثالثة من صور المعية أن يُسيِّر الله هذه الطائفة لخدمة الحق والتمسك به والدعوة إليه .
4- ومن صور هذه المعية بعد التمسك بالحق والدعوة إليه ؛ أنه لازم من الابتلاء ، وأنه من نتائج هذا الابتلاء تمايز الصفوف ، لكي يكون الصف الإسلامي حامل راية التوحيد والمنهج الإسلامي ، كالذهب بعد تنقيته بالنار، فيُخرِج من كان في قلبه مرض {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت:2] ، وهذا التمايز في الصفوف لا بد منه .. بل هو من أنصع صور المعية لله ، فماذا يحدث لو احتدم الصراع بين المؤمنون وغيرهم ، وكان في الصف من هو بعيد عن المنهج ، وكان في قلبه مرض فكان لازم هذا التمايز ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب .
5- ومن صور هذه المعية وليست آخرها بل إحداها.. هي النصر إن هم ثبتوا على الطريق ، فهذا النصر ليس من ذكاء المؤمنين أو حسن تخطيطهم وتدبيرهم أو قوة عِدَّتهم وكثرة عَتادهم بل من عند الله { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًاۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال:17].
هذه بعض صور المعية للطائفة المؤمنة المتمسكة بمنهج ربها ، نقول هذه صور من صورها.. وليست كل صورها - فصورها عديدة على الحصر ، فأن يثبت الطائفة المؤمنة ولم ينهزموا فهذه معية ، وإن ينتصر الباطل فهذه معية ، وإن ينشأ جيل جديد بعد سنوات التيه فهذه معية ، وأن يصطفي الله الشهداء هذه معية ، وأن يصقل الرجال ويربيهم للأمة هذه معية ، والمُتأمِّل في سير المشروع الإسلامي والدعوة الإسلامية منذ نزول الوحي من ربِّ العِزَّة على سيد الخلق يلحظ هذا الأمر جيدًا في سير التاريخ .
صور المعية بالآخرة :
دائمًا أبدًا يلفتنا ربنا في كل خطاب أن الفوز الحقيقي ليس هنا بالدنيا بل هناك بالآخرة ، يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسود وجوه.. يوم تتطاير الصحف فيأخذ من يأخذ الكتاب بيمينه ، ومنهم من يتلقفه بشماله ، فَفِه هذه اللحظة يصدق قول ربنا في سورة القارعة : { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ . وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ . فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [القارعة:6-9].
وفي هذه اللحظة يكون المؤمنون جميعًا في أشد الحاجة إلى المعية الربانية ، فتأتي هذه المعية كسفينة النجاة للمستغيث في البحر، لتُرسِله إلى شط النجاة على باب الجنة ، وقد ذكر ربنا صورتين فقط لهذه المعية :
أولًا: تكفير السيئات قال تعالى : {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ }.
ولِمَ لا ! وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم .. عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها ، وخالق الناس بخُلقٍ حَسن » (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن").
ثانيًا: دخول الجنة { وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }.
ولم يقُل ربنا عز وجل جنة واحدة ، وإن كانت واحدة تكفي ؛ بل قال جل جلاله {جَنَّاتٍ} وجاء بكلمةٍ جنات نَكِرة ولم يُعرِّفها ، فلم يذكر ما فيها إلَّا نعيم واحد أنها تجري من تحتها الأنهار أي تنبع منها الأنهار.
رابعاً : أمثلة لمعية الله لأوليائه .
معية الله لنبيه محمد وصاحبه في الغار :
عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا ، فَقَالَ: ((مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)) رواه البخاري (3380) ومسلم (4389).
ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا ومؤيدنا، ومعيننا وحافظنا، وهذه ما يطلق عليها العلماء: المعية الخاصة، التي تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، وهذه النصرة والمعية للعبد تكون بحسب قربه من الله، فمن كان لله أكثر تقوى وعبادة كانت معية الله أقرب منه ، لذا فقد أدركت معية الله الخاصة إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار، وأدركت محمداً صلى الله عليه وسلم حين كان مختبئاً في الغار، وأدركت يونس عليه السلام حين كان في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر.
وهذه المعية هي مصداق قوله تعالى: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }(غافر:51)
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
وسر هذه الكلمة هو في مدلولها، وعظمتها هي في معناها؛ يوم تذكر معية الله عز وجل ، الذي بيده مقاليد الحكم، ورقاب العباد، ومقادير الخلق، وأرزاق الكائنات.
ولقد كان لهذه الكلمة في زمنها الذي قيلت فيه ، وجوها المخيف المرعب، ومكانها المزلزل المذهل ؛ طعم آخر، وقصة أخرى ، لقد جاءت في لحظة طُوِّق فيها المعصوم وصاحبه في الغار، وأُغلق الباب، وأحاط الأعداء بهما من كل جانب، فسلُّوا سيوف الموت يريدون أشرف مهجة خلقت ، وأزكى نفس وجدت ، وأطهر روح خلقت؛ فما الحيلة ؟
الحيلة رفع ملف القضية ، وأوراق الفاجعة ، وسجل الكارثة ؛ إلى من على العرش استوى ليقضي فيها بما يشاء، ومع هذا أرسل صاحب الرسالة ذو القلب المشرق الفياض لصاحبه أبي بكر رضي الله عنه رسالة رقيقة ، هادئة باسمة ، حانية نصها : "لا تحزن إن الله معنا"، فانقلب الحزن سروراً ، والهم فرحاً ، والغم راحة ، والكرب فرجاً ، والهزيمة نصراً عزيزاً.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خيــر البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت من مضــاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
معيّة الله لسيدنا موسى في البحر:
سيدنا موسى عليه السلام كان يؤمن إيماناً جازماً بحتمية النصر من الله سبحانه وتعالى له ؛ لأنه وفّى ما استحق عليه من قبل الله تعالى ، ووفى ما استحقته المعية عليه كالصبر والإحسان والتقوى. وقد وصف الله سبحانه وتعالى لنا مشهد معيته لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام فقال:[ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ] (61) سورة الشعراء [ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ] (62) سورة الشعراء. فقد تراءى جمع الإيمان بقيادة سيدنا موسى عليه السلام، وجمع الكفر بقيادة فرعون ومعه زبانيته وأعوانه، وعندما بدأ أصحاب اليقين المتشكِّك يحاولون إضعاف موقف سيدنا موسى عليه السلام وينصحونه ألا يقع في صراع مع فرعون قالوا له :[...إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] سورة الشعراء (61). فكان كلام سيدنا موسى عليه السلام كأنه كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار؛ فيه ثقة ، وثبات ، ويقين، وإيمان راسخ وعقيدة ثابتة ، فهو يستخدم أسلوب الإضراب والزجر "كلاّ" عندما قال:[ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ] سورة الشعراء (62). فلو تأملنا حق التأمل في هذه الآية لوجدنا أن سيدنا موسى عليه السلام لم يقبل هذا النقاش من أصحابه ؛ لأنه كان مدركاً لحتمية النصر من ربه سبحانه وتعالى ، وأن نصره من قِبل الله تعالى حقيقة لا مراء ولا جدال فيها. فسيدنا موسى عبّر في تلك اللحظة عن قوة إيمانه بالله، وشدة ثقته به سبحانه. وهذا ما جاء عملياً في قوله سبحانه وتعالى:[ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ] سورة الشعراء (63). لقد ضرب سيدُنا موسى عليه السلام البحرَ بعصاه بأمر من الله تعالى ، فانفصل البحر قسمين ، ومشى سيدنا موسى حتى وصل إلى الشاطئ ، وأغرق الله فرعون وجنوده ، ولا تزال جثة فرعون - التي تُعرف اليوم بالمومياء - شاهدةً إلى عصرنا هذا على قدرة الله وحفظه ورعايته لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام. وقد عبّر الله تعالى عن ذلك بقوله:[ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67)] سورة الشعراء.
معية الله للسيدة هاجر وولدها إسماعيل في وادٍ غيرِ ذي زرع :
وهذه السيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل عليه السلام ، والتي كانت بموقفها من أعظم من عاش بمعية الله سبحانه وتعالى ، فعندما أمر الله تعالى سيدنا إبراهيم أن يأخذ هاجر وولدها إسماعيل إلى جوار بيت الله حيث لا زرع ، ولا ماء ، ولا نبات ، ولا إنسان ليتركهم ، ثم يعود إلى مهمته ، ووضع الأمتعة التي كان يحملها لهاجر وإسماعيل ثم مشى ، نادته السيدة هاجر: يا إبراهيم ! فلم يردّ عليها ولم يلتفت. فقالت له : آالله أمرك بهذا ؟ قال: نعم . قالت: إذن لن يضيَّعنا.
هذه الثقة وهذا القلب المطمئنّ بالله تعالى هو الذي جعل السيدة هاجر تحيى وتعيش بمعية الله ، فكانت خير معيشة ، وكان خيرَ زمن أقامت فيه تلك المرأة الصالحة مع مولودها الصغير، وهيأ الله تعالى لهما حياة صالحة فيها الخير والنماء والعطاء، وأرشد إليها الخلق ليعيشوا في جوارها، ثم عَمَرَ الله ذلك المكان عند خير بقعة في الأرض (الكعبة المشرَّفة). ولأن نعيش بمعية الله خير من أن نعيش بمعية أي مخلوق على وجه الأرض.
معية الله للصديقة بنت الصديق :
- لما اتهم المنافقون عائشة رضي الله عنها البريئة الطاهرة قالت : "فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، والنبي صلى الله عليه وسلم يمكث شهراً لا يوحى إليه ويقول: ((فإن كنت بريئة فسيبرئك الله)) وهكذا تستعين بقول الله : ’’فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ’’ سورة يوسف: 18 ، وما كان الله ليترك الصديقة على ما هي عليه من الحزن والكآبة ؛ لأن معيته لهذه المؤمنة تقتضي أن ينصرها ولو بعد حين ، فأنزل الله تعالى قوله: ’’ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ’’ سورة النور:11، فرفعها الله بهذه الآيات التي تتلى إلى قيام الساعة ، شاهدة على براءة الصديقة بنت الصديق، وأن الله كان معها .
حصان رزان ما تُزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً *** نبي الهدى والمكرمات الفواضل
مهذبة قد طيَّب الله خيمها *** وطهَّرها من كل سوء وباطل
معية الله وزيد بن أرقم :
- وقد كان الله مع الصبي زيد بن أرقم حين سمع عبد الله بن أبي يقول: " لئن رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، وبلغ الكلمة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذه الكلمة الخطيرة لا بد أن تُنقل، لكن لم يكن معه من يشهد له، وظن قومه أنه غفل ونقل ما لم يحصل؛ فلم يصدقوه، فخفق برأسه من الهم ما ذكره بقوله: "فأصابني همٌّ لم يصبني مثله قط" فأنزل الله عز وجل: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ سورة المنافقون:7 إلى قوله: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ سورة المنافقون:8، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليَّ ثم قال: ((إن الله قد صدقك يا زيد)) ، فكان الله مع الصبي الذي كان حريصاً على مصلحة أهل الإسلام.
معية الله لكعب بن مالك :
- ولما اشتدت المحنة على كعب بن مالك ، وقوطع خمسين يوماً ، وتركته زوجته بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين تخلف عن الجهاد دون عذر، لكن الله مع المؤمنين، وهذا الرجل كان صادقاً ، واعترف ، وصارت العقوبة بهذه المقاطعة الشديدة الوقع على نفسه ، لم يكن الله عز وجل ليتخلى عن هذا الرجل وصاحبيه ، فأنزل: ’’ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ - أي: اعتقدوا - أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ’’ سورة التوبة:118، نزل الفرج ،وقال النبي عليه الصلاة والسلام لكعب: ((أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك)) .
خامساً : الأسباب الربانية للحصول على معية الله لعباده .
الأسباب الربانية للحصول على المعية الخاصة ، يقصها ربنا القدير في القرآن الكريم عن بني إسرائيل ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ) ، وعدهم المولى بمعيتة ( وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ) ، ولكن علقها سبحانه على شرط ( لَئِنْ ) إن تحقق تحققت لهم المعية وإلا فلا ، لخصها المولى هنا في أربع ، ( أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ ) ، ( وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ ) ، ( وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ) ، ( وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ) .
ثم أنه في آيات أخرى فصل المولى سبحانه وتعالى بنود الميثاق الذي فرضه على بني إسرائيل ليرزقهم الله نصره وعونه لهم ، ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ، أمرهم المولى تعالى بإخلاص العبادة له وحده ، والبر والإحسان إلى الوالدين ، والأقربين ، واليتامى ، والمساكين ، وعدم التحدث للناس إلا بأطيب الكلام .. كل ذلك مع تكرار بندى الصلاة والزكاة للتأكيد على أهميتهما في الميثاق .
ولو تلمسنا آيات الله في كتابه الكريم لوجدنا كثير من الإشارات إلى صفات قرنها سبحانه وتعالى بمعيته لعبادة المؤمنين ، كأنما يريد سبحانه أن يلفت الأنظار إلى أنه لا ينصر ويؤيد ويرعى إلا من كان متصفاً بذاك ، نذكر منها بعض الأمثلة ومن أراد الاستزادة فكتاب الله ليس منا ببعيد :
• الإيمان ( وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ )
المؤمنون عزهم وفخارهم بمعية الله لهم ، فمن كان معه الله سبحانه تعالى فهل يضره العالم بأسره ولو اجتمع عليه ، قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم معلما بها الأمة : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف )) ] مسلم (4797) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه. الكون بأسره خلق من خلق الله يسيّره كيف يشاء ، يأخذ بناصيته حيث شاء ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
فمَنْ عرف أن الأمر بيد الله ، فانقطع عن الخلق إلى الحق، وتعلق قلبه بالله عز وجل ؛ لا يرجو إلا الله ، ولا يخاف إلا من الله، يحافظ على حدود الله ، ويسأل الله عز وجل ، ويستعين بالله عز وجل .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
وهذه كناية من أعظم الكنايات، علامة على تقدم المقادير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) [14] أبو داود (4078) بنحوه، وصححه الألباني في "المشكاة" (94) . قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كتب الله عز وجل متى تولد ، وكم تعيش في الدنيا ، وكم ترزق في الدنيا، وعملك في الدنيا ، وسعيك في الدنيا ، وكم توفق إلى طاعة الله ، وكم تعمل بمعصية الله عز وجل ، كان ذلك في اللوح المحفوظ عباد الله قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما سيكون إلى يوم القيامة )) .
لأن علم الله عز وجل أحاط بالماضي ، وأحاط بالحاضر، وأحاط بالمستقبل ؛ فعلِم ما كان ، وما سيكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون ، فالله عز وجل علِم كل شيء ، وقدَّر كل شيء، وكتب كل شيء من أزمنة متطاولة ، فرفعت الأقلام ؛ أي التي كتبت بها مقادير الخلائق ، ومن طول المدة جفت الصحف .
فكيف يرجو العبد غير الله ؟! وكيف يأمل في غير الله ؟! وكيف يخاف من غير الله عز وجل ؟!
مَنْ علِم ذلك عباد الله انقطع إلى الله عز وجل ، وعمل بطاعة الله عز وجل ، وكان مع الله عز وجل ؛ يقول - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((إحفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فاستعنت بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))، مسلم (4797) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه.
• الإحسان يقول تعالى:[...وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ] سورة العنكبوت (69). ، ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ )
فعلينا أن نكون من المحسنين؛ خُلُقاً وسلوكاً، عبادة وعملاً، مادةً ومعنى. ويجب أن يظهر أثر هذا الإحسان على سلوكنا في معاملاتنا مع جميع الخلائق.
• التقوى ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ، ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) سورة النحل (128) لا بد أن يكون الإنسان تقياً، وتقوى الله: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وهي أن يفقدك الله حيث نهاك، وأن يجدك حيث أمرك. وهي ألا يكون الله سبحانه أهون الناظرين إلينا؛ فنفعلَ ما نشاء، ونرتكب ما نريد، ولا نعتقد بأن الله تعالى مطّلع على أحوالنا ويرى فِعالنا.
• الصبر ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ، ( وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )
ليس للمصائب حدٌّ تقف عنده ، ولا للبلايا نهاية في هذه الحياة ، ولا للفجائع التي تحدُث في الزمن لونٌ خاص ؛ فكلُّ مصيبة أو بليَّة أو محنة يجب اتقاء أسبابها قدر المستطاع ، فإذا وقعتْ تعيّن الصبر عليها ، وانتظار حُسن عاقبتها ، والخلف منها، واحتِساب أجرها عند مُقدِّرها ومُجرِيها - تبارك وتعالى -: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: ١١].
وكم في الصبر على المكارة من جميل العواقب ، وكريم العوائد ، التي أعظمُها تجريد التوحيد بالإخلاص لله وحده ، وصرْف القلوب عن التعلُّق بالعبد ، ومنها زيادة الهدى والإيمان، وعظم الأجر في الميزان ، وتكفير الخطايا ، ورفعة الدرجات ، ومضاعفة الحسنات: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: ١٥٥-١٥٧]، ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: ١٠].
فالصبر ذخر وضياء، وخير ما تحلَّى به العبدُ عند البلاء ، وحال البأساء والضراء ، كيف لا وقد وعَدَه الله بنصره وتأييده وبشره؟ ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا ))، ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وما أعطي أحدٌ عطاء خيرًا وأوسع من الصبر، ومن يتصبَّر يصبِّره الله)) .
• التوكلُ على الله ومن عُدَّة المؤمن في سيْره إلى ربه التوكلُ على الله ؛ الذي حقيقته الاعتماد على الله في حصول ما ينفع العبدَ في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره ، مع تفويض الأمر إليه تعالى ، وانجِذاب القلب إليه محبَّة له ، وثقة به ، واعتمادًا عليه ، وتكميل ذلك بمباشرة ما شرعه الله - تعالى - من أسباب توصِّل إلى المقاصد ، وتُحمد بها العوائد ، فإنَّ التوكل للمؤمن من خير الخصال ، وجليل الأعمال : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: ٢]. وجزاؤهم من الله الكفاية ، فمَن توكَّل على الله كفاه : ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: ٣]؛ أي: كافيه : ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: ٣٦]. ومَن توكل على الله ووثق بكفايته حقيقةً ، فلن يتمكَّن منه عدوٌّ، ولن يخيب له مطلوبٌ ، ولن يفوته مرغوب : ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: ١٣٧]. أمَّا التوكُّل المزعوم الذي هو مجرَّد دعوى باللسان ، مع فقْد الثقةِ بالله من القلب وتعطيلِ طاعته من اللسان والأركان ، وترْك مباشرة الأسباب التي جعلها أسبابًا يُنال بها المحبوب ، ويُتَّقى بها المرهوب ، أو الاعتماد على الأسباب والإِعراض عن مسبِّبها - تبارك وتعالى - فهذا توكل ادِّعائي لا يفيد أهلَه شيئًا ؛ بل يكون من أسباب شقائهم في العاجل والآجل ومن مظاهِرِه أنَّك ترى أهله يتصرَّفون عند وجود ما يقتضيه ، تصرُّفَ فاقدي الإِيمان !، ومَن لا يؤمن بكفاية الرحمن !، ويظنون بالله ظنَّ السَّوء ، فمثلاً عندما تحدث حوادثُ مثيرةٌ للقلق، وتنشب حرب في جهة ، ينسَوْن لُطف الله ورحمتَه بعباده ، يذهب أحدُهم إلى الأسواق ليشتري من السلع فوق حاجته ولو بأثمان مضاعفة ، ليدخرها لليوم المشئوم أو الأسود في زعمه ؛ فيتسبب ذلك التصرف في ارتفاع أثمان الأرزاق ، واضطراب الأسواق ، وإغراء ضعفاء النفوس في احتكار الأرزاق ، وإرجاف البسطاء من النساء والسفهاء ، ويذهب ضحيَّة ذلك الفقيرُ والمسكين والأرملة ، والأجير الذي لا يجد غير أجره اليومي ، وتلك نظرةٌ مادية تقدح في التوكل ، فتؤثِّر فيه أو تضعفه وليستْ من الأسباب المشروعة ، ولا من باب : ((اعقلها وتوكَّل)) ، ولكنها من باب الاعتماد على الأسباب ، والإِعراض عن ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب .
• إقامة الصلاة . ( وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ ) .
الأمر هنا ليس شرطه فحسب ؛ أداء تلك الحركات والأقوال التي يؤديها الناس ولا يعقلوها، فرُب مصلٍ ليس له من صلاته إلا التعب، ولكن الصلاة كالشركة المساهمة التي يؤدي كل شريك فيها بسهمه، فكل منهم له عمل فيها.. فالجسد له حظ والروح والقلب له حظ والنفس بسلوكها لها حظ موزَّعة على مقامات ثلاث العمل والمجاهدة والمرابطة .
1- أما الجسد فعمله أن يتم فيها أعمال الجوارح بالوضوء والقيام والركوع والسجود وسائر الأعمال الظاهرة ، مُقتديًا بالحبيب.. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صلُّوا كما رأيتموني أُصلّي ، وإذا حضرت الصلاة فليُؤذِّن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم » (متفقٌ عليه)، وهذا مقام عمل الجوارح.
2- وأما الروح فَسِرّ الصلاة فيها الإقبال على الله، فليستشعر أنها حديث بينه وبين الله.. قال أبو هريرة رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ’’ قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ » (رواه البُخاري). وهنا يكون مقام المجاهدة وتكون الإقامة من التقويم المستمر أي تبصر كم أخذ الشيطان منك، ومتى نفذ إلى قلبك وكم انتصر عليك وكم انتصرت عليه.
3- وأما النفس وسلوكها وهي بعد التحوُّل القلبي أن تُحوِّلك الصلاة نفسيًا وسلوكيًا فتخرج منها بحالٍ غير ذاك الحال الذي دخلت به قبلها التزامًا بالحق وبُعدًا عن الباطل على مدار يومك، فيكون هذا الرباط عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟»، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء على المكارة، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط » ، (رواه مسلم). فإذا استطاع الإنسان أن ينتصر على نفسه وشيطانه وهواه في معركة الصلاة استطاع أن يَهزم عدوه بمعية ربه ، وهذه هي أول طرق تقويم الجماعة المؤمنة.
• إيتاء الزكاة . ( وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ ).
والشرط الثاني للحصول على هذه المعية هي إيتاء الزكاة ، فبعد أن عوَّد الله عز وجل المؤمنين على إقامة الصلاة والمجاهدة فيها والرباط عليها ؛ أكد لهم معنى التضحية فكانت التضحية أولًا بأوقات يسيرة هي أوقات الصلاة.. وهذا يتجلَّى بالتضحية بالوقت ، ثم فتح لهم هنا منفذ ثانٍ للتضحية وهي التضحية بالمال ، وهذا جزء من مالك قد افترضه الله عليك لا لِيَحرمك ولكن ليُطهِّرك.. فالزكاة من التزكية والتزكية نماءٌ وتطهير كما قال المُفسِّرون في قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }.
• الإيمان بالرسل ( وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ) .
ولكن السؤال هنا: ما المقصود بالإيمان بالرسل، هل الإيمان بوجود الله عز وجل وتحكمه بالكون؟ وإذا كان كذلك ، فَلِمَ أتى الله عز وجل بهذه الصفة بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والمفروض أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تابعين للإيمان وليس العكس ؟ ، والمعروف أن الإيمان أولًا فإذا استتب بالنفس واستقرّ جاءت الفروض الشعائرية ؟ قد يكون من مُراد الله - ولله الحكمة في قوله ولا يعلم مراد الله إلا هو وما علَّمه رسوله صلى الله عليه وسلم. المقصود بالإيمان هاهنا بالرسل ، هاهنا جانبين :
الجانب الأول هو الإيمان بالمنهج ؛ فالكافرون – بعضهم - وأهل الأهواء – أحياناً - لا يكون عندهم مشكلة في الإيمان بوجود الله ، وليس عندهم مشكلة في إقامة حركات والتمتمة بكلماتٍ خالية من أي معنى أو روح ، طالما أن هذا لا يمس مناهجهم وتشريعاتهم المستقرة بمجتمعاتهم ، والأهم من هذا لا يمس مراكزهم الاجتماعية في قومهم أو مطالبتهم بالعدل والمساواة والحرية ، تلك القيم التي تُسوي بين الغني والفقير وبين الوزير والغفير فإذا مسّت هذه الدعوة هذين الأمرين - التشريعات والمناهج أولًا ، والمكانات الاجتماعية لأصحاب النفوذ ثانيًا.. بدأ التفلت من الدين والإيمان بالرسل انقلب لعِداء فأهل الأهواء مع الإسلام طالما بقي ساكنًا عن حركة التغير المجتمعية ، أما إذا انطلق أصحاب المشروع الإسلامي ودعاته إلى حركة التغير والإصلاح كانت الخصومة والعِناد معه من قبل الآخرين .
وأما الجانب الثاني وهو الإيمان العملي فالإيمان قائم على ثلاثة أركان رئيسية: الاعتقاد القلبي ، والنطق القولي - إلا بحالات الضرورة- والعمل ، فإذا لزم المسلم وصاحب المنهج جانب واحد وأهمل الركنين الآَخرَين كان إيمانه منقوص إلا من أُكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان.
• نُصرة الرسل . ( وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ).
لا يكفي كما قلنا - آنفًا- وكما قال علمائنا أن يكون الإيمان باللسان فحسب ، أو بالقلب فحسب ؛ بل لازم أن يكون الإيمان قائم على الأركان الثلاثة.. لذا كان الإيمان الحقيقي لكل مسلم على مرِّ العصور ، هو الذي يسير المؤمن فيه مع الرسل والمصلحين والمُجدِّدين جنبًا إلى جنب إصلاحًا في نفسه ، ودعوة إلى غيره ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم). وهذا الشق الأول من نُصرة الرسل وهو حمل لوائهم في كل وقتٍ وحين، وكل عصر وزمان تهذيبًا للنفس وسيرًا في حركة الحياة بالدعوة إلى هديهم. وهناك شِقٌ آخر في نُصرة الرسل.. ألا وهو أن تُمنَع الرسل مما يمنع الشخص نفسه وماله وأهله وولده، وكذا نُصرة المظلوم والوقوف في وجه الظالمين فالمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص .
• إقراض الله . ( وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ) .
في بداية الأمر قال ربنا عز وجل {وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} وقد حدَّد العلماء الزكاة بمقادير محدودة وأنصبة معلومة في أزمنة محدَّدة، أما هنا قال ربنا {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقد فتح الله هنا باب خامس النُّصرة لمنهجه وهو قرض الله عز وجل والمُتأمِّل في كلمة "قرض" هنا يجدها نكرة.. والمعروف أن النكرة باللغة تُفيد العموم والشمول فالله عز وجل لم يُحدِّد.
أولًا: ماهية ما يخرجه الإنسان فمِن المؤمنين من يُضحِّي في سبيل دعوته بماله وثانٍ بوقته ، وثالث بعِلمه يُعلِّم الناس ، ورابع بجهده يسعى في الإصلاح للناس والعمل للأرامل ، وقضاء حوائج الناس وخامس بولده يحفظه القرآن ويُقدِّمه إلى ميدان الدعوة أو الجهاد ، وسادس من نفسه ودمه.. وهكذا فتح الله لكل نفس وإمكاناتها لكي تصل بها إلى ربها فلم يغلقه فأبواب الجنة كثيرة ، وكلٌ يدخل من الباب الذي كرَّس نفسه لخدمة دينه فيه ، ومنهم من هِمَّته صديقيه كأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه حفر اسمه على كل أبواب الجنة وثانيًا : لم يُحدِّد الله لنا مِقدار ما يُقرِضه المؤمن ، ولم يفرِض عليه قدرًا مُعينًا من الوقت أو المال أو العلم لكي يصل به إلى الجنة.. فهذا أبو بكر رضي الله عنه تبرَّع بماله كله ، وهذا عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وذاك عثمان رضي الله عنه جهَّز جيش العُسرة. فمن حملة اللواء من يستطيع أن يكفل يتيمًا، ومنهم من يقوم على جمعية على مستوى القُطر أو أقطارٍ مُتعدِّدة لرعاية الأيتام ، ومنهم من عِلمه يبلغ به نفسه فحسب ، ومنهم من عِلمه يُوقِظ به أُمة ، ومنهم من عِمله يقف ثوابه على حدِّ يومه ، ومنهم من تنهمِرُ عليه سحاب الحسنات بقطراتها وهو في قبره . {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} وشعار المؤمن الذي رسمه له ربه في هذا وسارِعوا كما في سورة آل عمران
• إذا كانت هذه هي المعية الإلهية وصورها بالدنيا والآخرة ، وتلك هي الشروط اللازمة للمعية الإلهية فتخيَّر أين تكون ، مع حملة اللواء مُوفيًّا بعهد الله واثِقًا بموعود الله لك.. أما من الممكن أن تتحوَّل إلى طريقٍ آخر أمام المِحن والابتلاءات التي يُواجِهها المشروع الإسلامي فتنقلِب إلى الجهة الأخرى { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. فاعلم أن الله عز وجل بهذه الأوقات يَميز الخبيث من الطيب ، فثِق بمعية الله ونصره لديننا ودعوتنا وأُمَّتنا وشمِّر الجهد للعمل وأنشِد قول الشاعر:
جدِّد العهدَ وجنِّبِ الكلام *** إِنَّما الإسلام دينُ العامِلين
وانشر الحقَّ ولا تخشَ الطُغام *** فَبِصدقِ العزمِ يعلو كل دين
نسأل الله أن يُسكِن قلوبَنا محبَّتَه ومعيّته، وأن نحيا ونعيش بمعيّته وحفظه ورعايته. اللهم اكلأنا بعينك التي لا تنام، واحرسنا في كل أوقاتنا وأيامنا، ويقظتنا ومنامنا، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،،،،،،،،،،،،،،،
تعليقات: (0) إضافة تعليق