الخطبة الأولى
أما بعد :
إخوة الإسلام نعيش في هذا اليوم الطيب الميمون مع المعية الربانية وأثرها في تحقيق الأمن والسلام النفسي للفرد
فالكون من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة يعيش في معيته سبحانه وتعالى
الناس يفتخرون بالمعيات
فهذا يفتخر ويقول أنا معي مالي
وهذا يفتخر ويقول أنا معي منصبي
وأخر يقول أنا معي نسبي وحسبي
كل هذه المعيات قد تجلب العناء والشقاء والخوف والهم والحزن يقول الله تعالى {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]
إلا معية الله فإنها تجلب السعادة والرضا وتجلب الروح والفرح وتجلب العز والنصر
سر سعادة قلبك بأن تشعر أن الله راض عنك
اصبر قليلا، فبعد العسر تيسير وكل وقت له أمر وتدبير
هل الحياة إلا معه؟؟
هل العيش إلا في رحابه؟
هل السعادة الحقيقية إلا بين يديه؟؟
هل النعيم إلا في طاعته والإقبال عليه؟؟
اذا كان أكثر الناس يتفاخرون بمعية العظماء والكبراء والمشاهير، يلوذون بهم ويحتمون، وقد شغلتهم دنياهم عن ربهم، وغرهم سلطان البشر بمعية الناس عن معية رب الناس، فإن أهل الإيمان العقلاء، يتعلقون بمعية ربهم ومولاهم، فهي عزهم وفخارهم، يعملون لنيلها، ويرجون ثمارها، لقلوبهم ونفوسهم وحياتهم، ليسعدوا بكونه سبحانه معهم في كل حال ومكان وزمان. فإن شعور المؤمن أنه في كنف الله، مصحوبا بمعيته وعنايته، يطرد عنه شبح الوحدة المخيف، ويجعله في أُنْسٍ دائم بربه، ونعيمٍ موصولٍ بقربه. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا، اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ” ([1])
اشـدُدْ يـديـك بحبـل الله معتصمــاً فإنـه الـرّكـنُ إن خـانـتْــك أركـــــانُ
من يتـقِ اللهَ يُـحمـدْ في عــواقبـه ويكْفِـه شـرّ من عَــزّوا ومن هانــوا
ومن استعـانَ بغيـر اللهِ في طلـب فـإنّ نـــاصــرَه عـجــــزٌ وخِــــــذلانُ
فمعية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع السلف، قال الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتَ» “. ([2]).
وقد أجمع السلف على إثبات معية الله تعالى لخلقه.
وهذه المعية أيها الإخوة حق على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق لقوله تعالى عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65] وقوله: ({وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] وكسائر صفاته الثابتة له حقيقة على وجه يليق به ولا تشبه صفات المخلوقين.
قال ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محدودة”. ا.هـ. ([3])
أنواع المعية
فالله – جل وعلا – فوق السماوات السبع، مُستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، ومعية الله لخلقه لا تُناقِضُ علُوَّه، وعلوُّهُ واستواؤه على عرشه لا يُنافِي معيَّتَهُ؛ لأن معيَّةَ الله لخلقه تكون على معنيين، هما:
النوع الأول: معيَّة عامة شاملة لجميع الخلق المؤمن والكافر: وهي بمعنى: أنه مع خلقه بعلمه، ومشيئته، وإحاطته، ونفوذ أمره، وقدرته، وقهره، وإحاطته، لا يغيب عنه شيءٌ، ولا يُعجِزُه.
كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
النوع الثاني: معيَّة خاصة: وهي معيَّته لرسله – تعالى، وأوليائه بالنصر، والتأييد، والمحبة، والتوفيق، والإلهام؛ كقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، وكقوله: {إِنَّ اللهَ مَعَ الذِيْنَ اتَّقَوْا وَالذِيْنَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، فالمراد بالمعيَّة هنا: معيَّة الحفظ، والنصر، والعصمة من الأعداء.
أثر المعية في تحقيق السلام النفسي
عندما يستشعر المؤمن و المؤمنة أنه يعيش في معية الله تبارك وتعالى يسير في هذه الحياة و هو يردد كلام العارفين إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك ؟ وإذا تخلى الله عنك تخلى عنك أقرب الناس إليك، وإذا كان معك سخر لك ألد أعدائك، إذا كان الله معك كل من في الأرض معك، ألقى محبتك في قلوب الخلق، وإذا كان الله عليك، ألقى البغض في قلوب الخلق، ومن هاب الله هابه كل شيء، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء ويردد بيقين الراسخين من نال معية الله ورضوانه فقد نال كل شيء، فإذا رضي الله عنه أرضى الناس وآمنه من شرهم،
أيها المسلم إن إحساس المسلم واستشعاره لمعية الله تعالى يجعله يعيش في راحة وطمأنينة وسكينة فهو لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا على الله ولا يسال غير الله
لأن الله هو القوي فمن كان الله معه فمعه القوة التي لا تقهر، والفئة التي لا تغلب ولا تهزم، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل
معية الله تعالى لأنبيائه وأوليائه وأثرها على السلام والأمن النفسي
معية الله تعالى لخليله إبراهيم عليه السلام: إخوة العقيدة: إن الذي يقرأ قصة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام – ليرى حقيقة المعية معية النصر والتمكين معية الأمان والسلام النفسي فإبراهيم عليه السلام كان يواجه أهل الكفر على اختلاف معتقداتهم فهو يواجه عبدة الأصنام والأوثان ويواجه عبدة الكواكب والنجوم وكل ثقة ويقين بمعية رب العالمين و لنأخذ مثالا على ذلك
قصة تكسير الأصنام و معية الله تعالى : عندما قام الخليل عليه السلام بتكسير تلك الأصنام ليلقن الكفار دراسا عمليا أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر فهي لا تنفع ولا تدفع قرر أهل البغي و الطغيان أن يجعلوا إبراهيم عليه السلام عبرة لكل معتبر لذا قرروا قتله بأبشع أنواع القتل ألا وهو الإحراق في النار فجمعوا له نار عظيمة بلغت عنان السماء و جاء وقت التنفيذ وقد بدأ الاستعداد بإحراق إبراهيم عليه السلام وحفروا حفرة عظيمة ملأوها بالحطب والخشب والأشجار وأشعلوا فيها النار وأحضروا المنجنيق ليقذفوا إبراهيم فيها فقيدوا يداه وقدماه واشتعلت النار وتصاعد اللهب إلى السماء , وصدر أمرهم بإلقائه في النار وفي تلك اللحظة جاء جبريل عليه السلام ووقف عند رأس إبراهيم عليه السلام وسأله : يا إبراهيم .. ألك حاجة؟
قال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا , لكنه فوض أمره من قلبه لخالقه الذي يراه فهو عالم به , صابرا ثابتا واثقا أن الله هو الحق وأن ما دونه هو الباطل فما إن نطق بتلك الكلمات وقال حسبي الله ونعم الوكيل إذ صعدت كالبرق قبل نزوله في تلك النار فكانت قدرة القادر الذي يقول كن فيكون ..
فأمر سبحانه النار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم فلم تمارس وظيفتها في الإحراق، بل أحرقت قيوده فقط ، وجلس إبراهيم وسطها وكأنه يجلس وسط حديقة غناء , يسبح بحمد ربه .
ولما انطفأت فوجئوا بإبراهيم يخرج سليما كما دخل ووجهه يتلألأ بالنور وثيابه كما هي لم تحترق وليس عليه أي أثر للحريق ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فالخسارة للظالم المستبد والهلاك له، وهو قوله تعالى {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } [الأنبياء: 70]
الله لا يضيع أوليائه
في عصر الاضطراب النفسي وفي عصر كثرة في الأمراض النفسية الاكتئاب والقلق والأرق والضغط وغيرها من أمراض نفسية مصدرها الخوف من المستقبل والخوف على المستقبل يحتاج المسلم إلى معية الله تعالى وان الله لا يضيع أوليائه وأهل طاعته
يا ابن ادم إذا ضاقت عليك الدنيا فقل يا الله.
يا ابن ادم إذا تخلي الناس عنك فقل يا الله.
يا ابن ادم إذا نزلت بك شدة فقل يا الله.
يا ابن ادم إذا مرضت فقل يا الله.
يا ابن ادم إذا نمت على فراش الموت فقل يا الله.
يا ابن ادم إذا دخل عليك ملك الموت فقل يا الله.
يا ابن ادم إذا سألت فسأل الله.
يا ابن ادم إذا توكلت فتوكل علي الله.
إذا أوصدت الأبواب أمام الطلاب وأسدلت الستور في وجه السائلين صاحوا يا الله
إذا بارت الحيل وضاقت السبل وانتهت الآمال وتقطعت الحبال نادوا يا الله
إذا ضاقت عليك الأرض بما رحبت وضاقت عليك نفسك بما حملت فاهتف يا الله
ولقد ذكرتك والخطوب كوالح سود ووجه الدهر اغبر قاتم
فهتفت في الأسحار باسمك صارخا فإذا محيا كل فجر باسم
قال ابن القيم رحمه الله (إذا أصبح العبد و أمسى و ليس همه إلا الله وحده تحمل الله حوائجه كلها و حمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته و لسانه لذكره و جوارحه لطاعته ,و إن أصبح و أمسي و الدنيا همه حمله الله همومها و غمومها و أنكادها ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبه الخلق و لسانه عن ذكره بذكرهم و جوارحه عن طاعته بخدمتهم و أشغالهم ,فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه و يعصر أضلاعه في نفع غيره ,فكل من أعرض عن عبودية الله و طاعته و محبته بلىّ بعبودية المخلوق و طاعته و محبته )
فيامن تخاف على الحياة كن مع واهب الحياة
ويامن تخاف على مستقبلك ومستقبل أولادك كن مع الله واتق الله
ويامن تخاف الفقر والعيلة كن مع الرزاق تأتيك الأرزاق
هاجر عليها السلام واستشعارها لمعية الرزاق
إخوة الإسلام: من أروع صور استشعار معية الله التي تورث الأمن النفسي والأمن الروحي مشهد هاجر عليها السلام –عندما وضعها إبراهيم عليه السلام وسط صحراء قحلاء جرداء لا زرع فيها ولا ماء بل لا أنيس ولا جليس وضعها وترك له حفنة من تمر ستنفذ بعد أيام وجرعات من ماء لا تكفيها أياما
تركها وهو يعلم أن الله تعالى معها وأن الله تعالى لن يضيعها …… ترك المشهد ليحدثنا عن نفسه
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا اتَّخَذَتِ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ، لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]، حَتَّى {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ، عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، – أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ – فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ، رَفَعَتْ طَرْفَ دِرْعِهَا، وَسَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانَ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ، فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا» فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهْ، تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ فَإِذَا بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ يَبْحَثُ بِعَقِبِهِ ـ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ ـ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ هَكَذَا، وَتَقُولُ بِيَدِهَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهِيَ تَغُورُ بِقَدْرِ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أَوْ قَالَ لَمْ تَغْرِفَ مِنَ الْمَاءِ كَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْتُ اللَّهِ يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ،
معية الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام
أما قصة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام فهي تقص على الأمة و ترسخ في قلوب المؤمنين و المؤمنات أن الله تعالى لا يضيع أوليائه و أن معيته حصن حصين و ركن شديد فموسى عليه السلام يواجه أكبر طاغية عرفته البشرية
عرفته البشرية بظلمه وعتوه
عرفته البشرية بكبره وبكفره
عرفته البشرية بإفساده واضطهاده
لذا لما أمر الله كلميه موسى –عليه السلام أن يذهب إلى فرعون طمأن قلبه و سكن فؤاده فقال سبحانه {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه: 45، 46]
إنني معكما …. إنه القوي الجبار الكبير المتعال.
إنه الله القاهر فوق عباده. إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقولة: كن إنني معكما. … إنه القوي الجبار الكبير المتعال.
إنه الله القاهر فوق عباده.
إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقوله: كن
ومشهد أخر ففي أحلك الظروف و أصعب المواقف يقف موسى عليه السلام وكأنه جبل فوق الجبل و بحر فوق البحر لا يخور و لا يتزعزع ولا يقلق عندما يخرج فرعون بحده و حديده ليستأصل موسى ومن معه و كأني انظر إلى الرعب و الرهبة التي أصابت ضعفاء الإيمان من بني إسرائيل عندما شاهدوا البحر أمامهم و فرعون من خلفهم ترتعد فرائصهم يصور الله لنا مشهد الرعب و مشهد المعية و الثقة في آن واحد {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 61 – 68]
يقول موسى عليه السلام :{ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}
لكن كيف يقول موسى عليه السلام هذه الكلمة ( كلا ) بملء فِيهِ ، والأمر بقانون الماديات أنه عُرْضة لأنْ يُدْرَك قبل أن يكملها؟
والإجابة في بقية الآية : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] فلم يقُلْ موسى : كَلاّ اعتماداً على قوته واحتياطه للأمر ، إنما قالها اعتماداً على ربه الذي يكلؤه بعينه ، ويحرسه بعنايته .
فالواقع أنني لا أعرف ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف، لكن الشيء الذي أثق منه { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] لذلك يأتي الفرج والخلاص من هذا المأزق مباشرة : { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }([5])
معية الله لنبيه محمد-صلى الله عليه وسلم
إخوة الإسلام أم عن السكينة والراحة والأمن الذي كان يعيشه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-والذي كان منبعه الثقة بمعية الله تعالى له فقد ذكر الله تعالى لنا ذلك في غير ما آية من القران الكريم
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } [الطور: 48، 49]
يقول السعدي –رحمه الله -ولما بين تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذبين، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبأ بهم شيئا، وأن يصبر لحكم ربه القدري والشرعي بلزومه والاستقامة عليه، ووعده الله بالكفاية بقوله: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي: بمرأى منا وحفظ، واعتناء بأمرك، وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة، فقال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي: من الليل.([6])
ومن أروع صور المعية الربانية ما حدث لخير البرية في الغار ليلة الهجرة يقول سبحانه {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 40]
يقول الشيخ الشعراوي-رحمه الله-فسبحانه يقول: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أي: أننا أمام ثلاثة أزمنة: زمن الإخراج ، وزمن الغار ، والزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } ، وقد جاء النصر في هذه الأزمنة الثلاثة؛ ساعة الإخراج من مكة ، وساعة دخل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار ، وساعة حديثه مع أبي بكر .
«فحين قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا ، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد في ثقة بربه : » ما ظنك باثنين الله ثالثهما « .
هذا الرد ينسجم مع سؤال أبي بكر؛ لأن أبا بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ في الغار ، وكان الرد الطبيعي أن يقال : » لن يرونا « ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى اللازم الأعلى ، فقال : » ما ظنك باثنين الله ثالثهما « ، لأنه ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في معية الله ، والله لا تدركه الأبصار؛ فمن في معيته لا تدركه الأبصار .
الخطبة الثانية
أما بعد:
ومن صور المعية اللقاء الرعب في قلوب الأعداء
فالله تعالى يقول {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12]
فمن ثمرات معية الله لأوليائه أن يلقي في قلوب الأعداء الرعب و الخوف و المهابة وهذا ما حدث لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ نَجْدٍ فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ، وَهُوَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَاسْتَظَلَّ بِهَا، وَعَلَّقَ سَيْفَهُ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْنَا، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ هذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، مُخْتَرِطٌ صَلْتًا قَالَ: مَنْ يَمْنَعكَ مِنِّي قُلْتُ: اللهُ فَشَامَهُ، ثُمَّ قَعَدَ فَهُوَ هذَا قَالَ: وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم([7])
صور من معية الله لأوليائه
إن الإيمان بالله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه ولا سند يتولد منه استشعار العبد يقرب الرب جل جلاله ومعيته له معية خاصة نصر وتأييد وعناية ورعاية والذي يقرأ سير الصالحين من هذه الأمة ليجد مواقف وصور مشرقة لعناية الله تعالى بأوليائه وأهل طاعته نذكركم بصورة منها:
الحسن البصري والحجاج وحصن المعية
لما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ ، وطغى في ولايته وتجبَّر ، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه ، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله ، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه ، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام ، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه ، وهو يتميَّز من الغيظ ، وقال لجلاَّسه : تبًّا لكم ، سُحقا ، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ، و يقول فينا ما شاء أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يردُّه ، أو ينكر عليه ، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء ، ثم أمر بالسيف والنطع – إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع ، والنطع قطعة قماش كبيرة ، أو قطعة جلد ، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه ، لا يلوِّث الدمُ الأثاث ، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر ، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفا بين يديه ، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده ، وأمرهم أن يأتوا به ، ويقطعوا رأسه ، وانتهى الأمرُ ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ ، ووجفت عليه القلوبُ ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه ، ثم أقبل على الحجاج ، وعليه جلالُ المؤمن ، وعزة المسلم ، ووقارُ الداعية إلى الله ، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة ، وقال له : ها هنا يا أبا سعيد ، تعالَ اجلس هنا ، فما زال يوسع له و يقول : ها هنا ، والناس لا يصدَّقون ما يرون ، طبعا طُلب ليقتل ، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز ، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه ، فكيف يستقبله الحجَّاج ، ويقول له : تعال إلى هنا يا أبا سعيد ، حتى أجلسَه على فراشه ، ووضَعَه جنبه ، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين ، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت ، وبيان ساحر ، وعلم واسع ، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد ، ثم دعا بغالية – نوع من أنواع الطيب – وطيَّب له بها لحيته ، وودَّعه ، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج ، وقال له : يا أبا سعيد ، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك ، دعاك ليقتلك ، والذي حدث أنه أكرمك ، وإني رأيتك عندما أقبلت ، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك ، فماذا قلت ؟ فقال الحسن : لقد قلت : يا وليَ نعمتي ، وملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته بردا و سلاما عليَّ ، كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم)
الدعاء …………………………………………….
.
[2]– أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (1/60) ، وأبو نعيم في الحلية (6/124) قال الشيخ الألباني : ( ضعيف ) انظر حديث رقم : 1002 في ضعيف الجامع
[3] – نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص87 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن قاسم.
تعليقات: (0) إضافة تعليق