الحمد لله المتفرد بالعزة
والجبروت والبقاء، أذل أصناف الخلق بما كتب عليهم من الفناء، فإذا هم مردودون في
الحافرة، أحمده سبحانه جعل الموت مخلصا للأتقياء، وسوء منقلب للأشقياء، إذا ذكر
الموت فإذا قلوبهم نافرة، وأشكره وأثني عليه فله الإنعام بالنعم الخفية والظاهرة،
وله الانتقام بالنقم القاهرة،
وأشهد ألا إله إلا الله وحدة
لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة،
**
|
مقـــر بالذي قـــد
كان منــي
|
|
ومالي حيلة إلا
رجائي
|
**
|
وعفوك إن عفوت وحسن
ظني
|
فكم من زلة لي في
البرايا
|
**
|
وأنت علي ذو فضل ومن
|
إذا فكرت في ندمي
عليها
|
**
|
عضضت أناملي وقرعت
سني
|
يظن الناس بي خيراً
وإني
|
**
|
لشر الناس إن لم تعف
عني([1])
|
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده
ورسوله، أرسله لإنفاذ أمره، وإنهاء عذره، وتقديم نذره، فأيده بالحجج الباهرة، صلى
الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
العناصر
أولًا: تعريف السنَّة
النبويَّة المطهَّرة وأقسامها
ثانيًا: حجية السنَّة النبوية
المطهرة
ثالثًا: مقاصد السنة النبوية
الموضوع
أولًا: تعريف السنَّة النبويَّة المطهَّرة وأقسامها
السنَّة النبويَّة: هي دليل
شرعي يدلُّ على حُكم الله تعالى، وأن الله تعالى قد تعبدنا باتباع ما أمرَتْ به،
واجتناب ما نهَتْ عنه؛ فهي مصدر للدين أساسي، والشطر الثاني له، فيجب اعتقاد
مضمونها، والعمل بمقتضاها في جميع جوانب الحياة.
السنَّة النبويَّة: هي
ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو
خُلُقية، وزاد بعضهم في تعريف المحدثين: أو سيرة.
فيصبح التعريف الكامل:
السنَّة هي ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة
خَلْقية، أو صفة خُلقية، أو سيرة.
وتنقسم السنَّة إلى ثلاثة أقسام:
السنَّة المؤكِّدة:
وهي الموافِقة لما جاء في القُرْآن الكريم، مثل ما ورد في القرآن والسنة من
الأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج، والجهاد، وصلة الأرحام،
وحرمة الأنفس والأموال والأعراض ونحو ذلك.
السنَّة المبيِّنة: التي تبين مراد الله تعالى في
القُرْآن الكريم، كما أن الله عز وجل أمر في القرآن بالصلاة والزكاة والصيام
والحج، ثم جاءت السنة بتفصيل صفة الصلاة، ومقادير الزكاة، وصفة الصيام، وصفة الحج.
السنَّة المستقلة بالتشريع: التي
جاءت بمعتقدات وأحكام لم ينصَّ عليها القُرْآن الكريم، مثل بيان ميراث الجدة،
وتحريم الذهب والحرير على الرجال... إلخ.
ولقد أجمَع علماء الأمة على
أن السنَّة تأتي بأحكام لم يثبتها القُرْآن الكريم ولم يَنْفِها، وأنها حجة شرعية
ملزمة.
قال رجلٌ لعمرانَ بن حصين رضي
الله عنه: "إنكم تُحدِّثونا بأحاديثَ لم نجد لها أصلًا في القُرْآن"،
فغضب عمران وقال: " أتجد في كتاب الله الظُّهر أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟
ثم عدَّد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرًا،
إن كتاب الله أبهَمَ هذا، وإن السنَّة تفسر ذلك".
قال الإمام ابن حزم رحمه
الله: "في أي قُرْآنٍ وُجِدَ أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات،
وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها، والسلام، وبيان
ما يُجتَنَب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغَنَم والإبل والبقر،
ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من
وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة، ورمي الجِمار، وصفة الإحرام وما
يجتنب فيه، وقطع يد السارق، وصفة الرَّضاع المحرِّم، وما يحرم من المآكل، وصفة
الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا
والأقضية والتداعي، والأيمان والأحباس والعمرى، والصدقات وسائر أنواع الفقه؟ وإنما
في القُرْآن جُمَل لو تركنا وإياها لم نَدْرِ كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه
في كل ذلك: النقلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائلَ
يسيرة... فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة، ولو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما
وجدنا في القُرْآن، لكان كافرًا بإجماع الأمة".
ثانيًا: حجية السنَّة النبوية المطهرة
أنها وحي من الله: قال تعالى: (وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ﴾ سورة
النجم
أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ببيان الشريعة للناس: قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (44) ﴾ سورة النحل، وقال
تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ
لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) ﴾ سورة
النحل
أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع
أمره: قال تعالى:﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) ﴾ سورة
آل عمران
وقال تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾ سورة النساء ، وقال
تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (157) ﴾ سورة الأعراف
آيات تبيِّن فضل وجزاء مَن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم: قال
تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ
عَظِيمٌ (172) ﴾ سورة آل عمران ، وقال
تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) ﴾ سورة النساء، قال
تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) ﴾سورة النور
عقاب ومصير مَن لم يؤمن بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم: قال
تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ سورة
النساء، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (13) ﴾ سورة الأنفال، و قال
تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا
لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) ﴾ سورة
الفرقان، وقال تعالى: ﴿ إ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ
الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ
تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) ﴾ سورة الأحزاب
طاعته صلى الله عليه وسلم سبب للنجاة في الدنيا والآخرة: عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ
بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ
الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ،
فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى
مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ،
فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ
أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا
جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ ) ([2]) [(أنا
النذير العريان) قال العلماء أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب
المخافة نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيدا منهم ليخبرهم بما دهمهم وأكثر ما
يفعل هذا ربيئة قومه وهو طليعتهم ورقيبهم (فالنجاء) أي انجوا النجاء أو اطلبوا
النجاء (فأدلجوا) معناه ساروا من أول الليل أدلجت أدلج إدلاجا كأكرمت أكرم إكراما
والاسم الدلجة فإن خرجت بالليل قلت أدلجت أدلج إدلاجا بالتشديد والاسم الدلجة بضم
الدال (على مهلتهم) هكذا هو في جميع نسخ مسلم (اجتاحهم) استأصلهم]
طاعة الرسول من طاعة الله ومعصيته من معصية الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ
أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ
فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي) ([3]) ، (من أطاعني
فقد أطاع الله) وقال في المعصية مثله لأن الله تعالى أمر بطاعة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأمر هو صلى الله عليه وسلم بطاعة الأمير فتلازمت الطاعة وقد ذكر
الخطابي سبب اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشأن الأمراء حتى قرن طاعتهم إلى
طاعته فقال كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة ولا يدينون لغير رؤساء
قبائلهم فلما كان الإسلام وولى عليهم الأمراء أنكرت ذلك نفوسهم وامتنع بعضهم عن
الطاعة فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن طاعتهم مربوطة بطاعته ومعصيتهم بمعصيته حثا
لهم
على طاعة أمرائهم لئلا تتفرق
الكلمة]
وعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ
مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: (يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ
بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا
وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) ([4]).
طاعة الرسول سبب لدخول الجنة، ومخالفته سبب لدخول النار: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي
يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ
يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ
أَبَى» ([5]) [(أبى) امتنع عن قبول الدعوة أو عن
امتثال الأمر]
وجوب التمسك بالسنة وحرمة مخالفتها: عن العِرباض بن سارية رضي
الله عنه: قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً
بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ
رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا
قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عبدا
حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم يرى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ
بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا
بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ
فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ([6])
الأجر العظيم لمن يبلغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَن ابْن مَسْعُودٍ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَضَّرَ
اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ
أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ»([7])
حرمة الكذب على رسول الله: عَنِ المُغِيرَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ
عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ([8]) (ليس ككذب على
أحد) فهو كذب في التشريع وأثره عام على الأمة فإثمه أكبر وعقابه أشد. (فليتبوأ
مقعده) فليتخذ لنفسه مسكنا
وجوب اتباع السنة وحرمة مخالفتها: قال الإمام ابن حزم عند قوله
تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾ النساء "فالأمةُ
مجمِعة على أن هذا الخطابَ متوجِّه إلينا وإلى كل مَن يُخلَق ويُركَّب رُوحُه في
جسده إلى يوم القيامة من الجِنَّة والناس، كتوجُّهه إلى مَن كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكل مَن أتى بعده عليه السلام ولا فرقَ".
وقال الإمام الشافعي رحمه
الله: "أجمع الناسُ على أن مَن استبانت له سنَّة رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يكن له أن يدَعَها لقول أحدٍ مِن الناس".
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه
الله: "إياكم والقولَ في دِين الله تعالى بالرأي، وعليكم باتباع السنَّة؛
فمَن خرج عنها ضلَّ".
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله: "وليعلَمْ أنه ليس أحدٌ مِن الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا
عامًّا يتعمَّدُ مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء مِن سنَّته، دقيقٍ
ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كلَّ أحد
مِن الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسولَ الله".
مدى اتباعِ الصحابة رضي الله عنهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لقد
ضرَب الصحابةُ رضوان الله عليهم المَثَل في الوفاء للنبي صلى الله عليه وسلم،
وحُسن اتباع ما جاء به صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كان أحدهم يسقُطُ سوطه وهو راكب
على دابته، فينزل ليأخذ سوطه ولا يطلب من أحد أن يناوله؛ لأنه بايَع رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ألا يسأل الناسَ شيئًا، أعطَوْه أو منعوه.
ولقد كان الصحابي يروي
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيشير مثلما كان يشير النبي صلى الله عليه
وسلم، ويقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
وعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ
قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
بِأَصْحَابِهِ إِذْ خلع نَعْلَيْه فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى
ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ على إلقائكم
نعالكم؟» قَالُوا: رَأَيْنَاك ألقيت نعليك فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي
أَنَّ فيهمَا قذرا إِذا جَاءَ أحدكُم إِلَى الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى
فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَو أَذَى فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا»([9])
وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ:
«إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ
وَلاَ تَنْفَعُ،
وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»([10])
ولما توفى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان قد جيشا بقيادة أسامة رضى الله عنه، أشار كثيرٌ من الناس على
الصِّدِّيق ألا يُنفِذَ جيش أسامة؛ لاحتياجِه إليه فيما هو أهمُّ الآنَ مما جُهِّز
بسببه في حال السلامة، وكان مِن جملة مَن أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصِّدِّيق
من ذلك، وأبى أشدَّ الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحُلُّ عقدةً
عقَدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطيرَ تَخَطَّفنا، والسباع مِن حول
المدينة، ولو أن الكلاب جرَّتْ بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة".
لقد سار التابعون وتابعوهم على نهجِ النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فلم يُبدِّلوا ولم يَحيدوا عن النهج قِيدَ
أنملة، ولا أقل من ذلك، وتركوا لنا مِن الأقوال ما يُبيِّن الحجية، وصدق الطاعة،
ودقة الاتباع والاقتداء.
لقد ترَكَنا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء،
ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، والواجب علينا أن نسيرَ على نهجه صلى الله
عليه وسلم، وأن نقتفيَ أثره فلا نضل ولا نشقى حتى نموت على سنَّته، ونحشر تحت
لوائه، ونَرِدَ حوضه صلى الله عليه وسلم، اللهم آمين!
وفي ضوء ما ذُكِر فإنه لا
يمكن للدين أن يكتمل ولا للشريعة أن تتم إلا بأخذ السنَّة النبويَّة المطهَّرة
جنبًا إلى جنب مع القُرْآن الكريم؛ فهما متلازمانِ تلازم اليد ومعصمها، والعين
وجفنها، وهناك العديد من الآيات البيِّنات والأحاديث المتواترة التي تدل على ذلك،
بل تأمر به، إضافةً إلى ما ورد من إجماع العلماء الثقاتِ على إثباتِ حجية السنَّة
النبويَّة المطهَّرة، ووجوب الأخذ بها مع القُرْآن الكريم.
ثالثًا: مقاصد السنة النبوية
تعريف مقاصد السنة: هي
الحكم التي أرادها الله من أوامره ونواهيه؛ لتحقيق عبوديته، وإصلاح العباد في
المعاش والمعاد. ([11])
قال ابن القيم: : ( ما
مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ، ولم يراع المقاصد والمعاني ، إلا كمثل رجل قيل
له : لا تسلم على صاحب بدعة ، فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل
له: اذهب فاملأ
هذه الجرة ، فذهب
فملأها ، ثم تركها على الحوض ، وقال :لم تقل ائتني بها) ([12])
فينبغي فهم مقاصد السنة لأن
الله ذم من تمسك بالظواهر فقط، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ
مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ
إِلاَّ قَلِيلاً }النساء ، ففي هذه الآية الكريمة مدح الله
تعالى أهل الاستنباط في كتابه، ووصفهم بأنهم أهل العلم، ومعلوم أن
الاستنباط إنما هو: استنباط المعاني والعلل، والاستنباط في اللغة
كالاستخراج، ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ ، فإن ذلك ليس طريقه
الاستنباط، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما يصل إلى الاستنباط من
عرف العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم هنا في هذه
الآية من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولى العلم حقيقته
ومعناه ([13])
ويقول الإمام
الشاطبي: من تأمل الأحاديث الواردة في الخوارج الواردة في الصحاح، سيتضح له
أن من أهم أسباب ضلالهم التي استوجبت في حقهم الوعيد الشديد، هو ما عبّر عنه
الشاطبي بقوله: ( اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده
والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث
" يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم "، ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع
الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم ...ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر
تناقضت عليه الصور والآيات ، وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم ([14])
مثال على فهم مقاصد السنة النبوية غزوة بني قريظة: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ
الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»
فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي
حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا
ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ
وَاحِدًا مِنْهُمْ ([15])،
(لم يرد منا ذلك) ما أراد بقوله ظاهره وعدم الصلاة في الطريق وإنما أراد الحث على
الإسراع. (يعنف) يلم].
وفي هذا ما يدل التيسير ورفع
الحرج والبعد عن التشدد والغلو في الدين فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ
الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا،
وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» ([16])
(يسر) ذو يسر. (يشاد
الدين) يكلف نفسه من العبادة فوق طاقته والمشادة المغالبة. (إلا غلبه) رده إلى
اليسر والاعتدال. (فسددوا) الزموا السداد وهو التوسط في الأعمال. (قاربوا) اقتربوا
من فعل الأكمل إن لم تسطيعوه. (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) استعينوا
على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة كأول النهار وبعد الزوال وآخر
الليل.
وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ
تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ
أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ:
أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ
النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا
وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ،
لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» ([17])، (رهط) قيل هم علي بن أبي طالب
وعبد الله بن عمرو بن العاص. وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم. (تقالوها) عدوها
قليلة. (ذنبه) ذنبه صلى الله عليه وسلم على حسب مقامه وما يعتبر ذنبا في حقه ليس
هو من جنس الذنوب حقيقة ولو فعله غيره لا يسمى ذنبا. كفعله خلاف الأولى ونحو ذلك.
(أبدا) دائما دون انقطاع. (الدهر) أي أواصل الصيام يوما بعد يوم. (لأخشاكم لله
واتقاكم له) أكثركم خوفا منه واشدكم تقوى. (أرقد) أنام. (رغب عن سنتي) مال عن
طريقتي وأعرض عنها. (فليس مني) أي ليس بمسلم إن كان ميله عنها كرها لها أوعن عدم
اعتقاد بها. أن كان غير ذلك فإنه مخالف لطريقتي السهلة السمحة التي لا تشدد فيها
ولا عنت.
وعن ابن مسعود -t -: أنّ النَّبيّ -r -، قَالَ: (هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ﴾ قالها ثَلاثاً ﴿[18]﴾،
(المُتَنَطِّعونَ﴾: المتعمقون المشددون في غير موضِعِ التشديدِ،
وعن عَائِشَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ r دَخَلَ
عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: مَنْ هذِهِ قَالَتْ: فُلاَنَةُ، تَذْكُرُ
مِنْ صَلاَتِهَا، قَالَ: مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لاَ يَمَلُّ
اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ
صَاحِبُهُ﴾ ﴿[19]﴾
وما دام الأمر فيه سعة والنص
يحتمل أكثر من وجه فلا يمنع قبول وجة نظر الرأي الآخر والإلتزام بآداب الخلاف وعدم
التحجر والوقوف عند رأي واحد وعدم البحث عن غيره حتى ولو كان خطأ، لأننا بشر ولا
يخلوا الواحد منا من الخطأ وما دام هذا الرأي الآخر له جهة استدلال من الكتاب
والسنة كما حدث في صلاة العصر للمسلمين عند ذهابهم لبني قريظة ومع ذلك أقرهم النبي
صلى الله عليه وسلم على فعلهم ولم يعنف أحدا منهم ، وانظر إلى قول الإمام الشافعي
رضي الله عنه حيث قال قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب، فانظر
إلى أدبه وقبوله لرأي غيره مع سعة علمه.
مثال آخر على فهم مقاصد السنة النبوية نفض الفراش بداخلة الثياب: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا أَوَى
أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ
وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا،
وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ
) ([20]) ،
ومعنى داخلة الثياب: طرفه، فقد يرتدي البعض جلبابا فيمكنه حينها أن ينفض فراشه
بطرف جلبابه ، وأما إن كان يرتدي ثيابا لا يمكن أخذ طرفه حتى ينفض به، فيمكنه
حينها أن يفعلها بأي وسيلة أخرى لأن الغرض هنا هو نفض الفراش بأي وسيلة، فلا يتمسك
البعض بنص الحديث ويترك المقصد الرئيسي منه.
فالشريعة الإسلامية شريعة
سمحاء لا تعرف الجمود ولا الغلو ولا التطرف وإنما هي أمة وسط كما قال تعالى
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]،
فالوسط هنا في كل شيء.
إن تقرير مبدأ السماحة والتيسير في الدين لا يعني الإخلال بمقاصد
الشريعة والدين : فلا يفهم من مبدأ التيسير
أنه تفريط أو تسيب في تطبيق أحكام هذا الدين وتنفيذ أوامره، لأن هذا اليسر لا يكون
في إثم أو معصية.
ولا يعني هذا المبدأ تجاوز
الحلال والحرام أو الإخلال بالمفاهيم الإسلامية والآداب العامة، لأنه مبني أصلا
على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الواضحة، فليس في تقرير هذا المبدأ ابتداع
أو إدخال أمر جديد في الدين، لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ البقرة ، قال تعالى :﴿
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ولا يعني إقرار هذا المبدأ
تحكيم الأهواء والرغبات، وتحقيق المصالح الشخصية من وراء ذلك، فقد يستغله ضعاف
الإيمان لتحكيم أهوائهم ورغباتهم ويجعلون هذا يسرًا أو سماحة، بل اليسر والسماحة
يجب أن تكون مبنية على مصادر التشريع الأصلية وهي القرآن الكريم والسنة والنبوية
والإجماع.
أيها المسلمون: إن سبب ضلال
الخوارج يعودُ إلى منهجِهم في فهم النصوص الشرعية بطريقة حرفية، وإنما
هلكوا مع شدةِ عبادتهم واجتهادهم في الطاعات، بسبب مخالفتِهم للمنهج السوي
المستقيم في الفهم، لقد كانوا يظنون أن التشددَ والغلوَ في الاستدلالِ والفكرِ
طريقُ النجاة.
تطرف وغلو الخوارج شر الخلق
والخليقة: عن
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ r، وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ
رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اعْدِلْ فَقَالَ: وَيْلَكَ
وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَم أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ
أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ، فَأَضْرِبَ
عُنَقَهُ فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ
مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لاَ
يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
مِنَ الرَّمِيَّة، .....﴾ ([21])
وقد اعترض الخوارج طريق عبد الله بن خباب وهو
يسوق بامرأته على حمار، فدعوه وتهددوه وأفزعوه، وقالوا له من أنت ؟ فقال : أنا عبد
الله بن خباب صاحب رسول الله r، فلما عرفوه طلبوا منه أن يحدثهم عن رسول الله r إلى أن قالوا : فما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما
خيراً، ثم قالوا فما تقول في عثمان في أول خلافته وآخرها ؟ فقال : إنه كان محقاً
في أولها وآخرها، ثم قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ فقال : إنه أعلم
بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا : إنك تتبع الهوى وتوالي
الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه
فكتفوه ثم أضجعوه وذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا على المرأة وهي حبلى ففزعت وقالت
: إني إنما أنا امرأة ألا تتقون الله ؟ فقتلوها وبقروا بطنها عليهم من الله ما
يستحقون([22])،
فانظر كيف ساقهم الغلو والجمود وعدم الفهم الصحيح للدين إلى قتل برئ ليس له ذنب.
وليعلم أحبابنا أن الذين يمكنهم البحث في
الأحاديث واستدلالتها وبيان المقاصد منها هم العلماء المتخصصين في هذا الفن، فليس
كل من قرأ كتابا ظن نفسه عالما فيفتي الناس على غير هدى ولا فهم فيضل نفسه ويضل
غيره........
ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الفهم الصحيح للدين
وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، ويحفظ مصرنا من شر المنافقين
والحاسدين والماكرين، ويبارك في علمائها وكل بلاد المسلمين، الله آمين يا رب
العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
%%%%%%%%
تعليقات: (0) إضافة تعليق